الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التاريخ والعلوم الاجتماعية: مساهمة في قراءة الكتاب /المجمع،-من أجل تاريخ إشكالي-،ترجمة وتجميع،محمد حبيدة. (الفصل الأول).

محمد ابرهموش

2012 / 12 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


التاريخ والعلوم الاجتماعية: مساهمة في قراءة الكتاب /المجمع،"من أجل تاريخ إشكالي"،ترجمة وتجميع،محمد حبيدة. (الفصل الأول).
"التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد..." ابن خلدون.
يعتبر التاريخ علما قائما بذاته شأنه شأن باقي العلوم الإنسانية ، والاجتماعية التي حاولت سبر القضايا الإنسانية في إطارها المجتمعي. ونظرا لأهميته في استقرار الدول وتغيرها، خضع لمجموعة من الدراسات النظرية والعلمية ، بحيث حاولت عزله عن "البدع" السياسية ؛التي وجهت أهدافه "النبيلة" نحو غايات "ذنيئة" مغرضة تهدف إلى تزوير التاريخ وتخدير الشعوب بأحداث رسمية.
وقد فطن العلامة ابن خلدون في "مقدمته" إلى هذه الإشكالية، حين أشار إلى أخطاء منهجية وقع فيها المؤرخون بقصد أو عن غير قصد؛ يمكن إجمالها في:
_عدم التزام الموضوعية.
_الجهل بطبائع العمران ومفهوم التطور.
أمام هذا الوضع وارتباطا بالأحداث التي عاشتها المجتمعات الغربية منذ القرن 15 م؛ بفعل الاكتشافات العلمية والانفتاح على العالم، شهدت الساحة الفكرية التاريخية تطورا منهجيا مفعما بروح النقد و علمنة العقل والتاريخ ، الأمر الذي سيظهر بشكل بارز مع "ولادة" العلوم الاجتماعية في القرن 19،وماترتب عنها من خلافات نظرية وفكرية بين المؤرخين والسوسيولوجيين ....
لكن سرعان ما ستتبدد هذه الخلافات مع بداية القرن 20م، بعامل انفتاح العلوم الاجتماعية على بعضها البعض ،وإقامة علاقة "صداقة" ؛أو "مقايضة مفاهيمية" تصبو إلى حصر إشكالية الوجود الإنساني، وإعادة بنائه من خلال ربط الماضي بالحاضر واستشراف المستقبل.
إن علم التاريخ؛علم يحتاج إلى تأمل نظري عميق و ترسانة مفاهيمية نسبية، تفتح أفاقا للربط بين مختلف المناهج والعلوم الإنسانية،مما قد يجعلنا نردد يوما ما مع العالم الاجتماعي الأمريكي "ريمون أرون" “....... فبين العلوم الإنسانية كلها، وبدون استثناء يأخذ التاريخ مركز الصدارة شريطة أن يكون المؤرخ عالما اقتصاديا أولا، وعالما اجتماعيا ثانيا..." .فكيف يمكن تتويج التاريخ والرقي به، وإعادة الاعتبار إليه ؟
في هذا المنحى يندرج المجمع "من أجل تاريخ إشكالي" :ترجمات مختارة قام بها المؤرخ والانثربولوجي محمد حبيدة، وهو أستاذ محاضر بكليات الآداب والعلوم الإنسانية بمجموعة من الجامعات المغربية، القنيطرة و الرباط والدار البيضاء، وأحد المختصين في تاريخ المغرب الحديث وأوروبا، له مجموعة من الأبحاث والدراسات والترجمات التاريخية سواء في شكلها النظري أو التطبيقي، من أبرزها:
-تاريخ أوروبا من الفيودالية إلى الأنوار،سنة 2010.
-المغرب قبل الاستعمار:المجتمع والدولة و الدين (1792-1822)، تأليف محمد المنصور، ترجمة وتحقيق.
-كتابة التاريخ وتمثل الماضي عند بول ريكور.
-ابستمولوجية المعرفة التاريخية. (مقال)
-المغرب النباتي من القرن 15 إلى القرن 18، تاريخ وبيولوجيا. (بالفرنسية).
أما الكتاب/ المجمع(من أجل تاريخ إشكالي)،فهو من الحجم المتوسط (200ص) صدر عن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط،الطبعة الأولى 2004،وقد أشار محمد حبيدة في مقدمته لهذا المجمع، أنه عبارة عن ترجمات للتوجهات المعاصرة للتاريخ سبق وأن نشرها في منابر مختلفة، مادام يؤمن أن الترجمة "معاناة لكنها في نهاية المطاف نشوة وحياة جديدة للكاتب الأصلي..."، محاولا في هذه المناسبة إعادة قراءتها وترجمتها من جديد، جامعا إياها في ثلاث فصول:
 الفصل الأول: تداخلات.
 الفصل الثاني: فضاءات.
 الفصل الثالث:عقليات وتمثلات.
مهما كان الأمر، فإن الفصل الأول : تداخلات ، يوحي من خلال عنوانه، إلى كشف العلاقات وسبر التشكلات الرابطة بين التاريخ والعلوم الاجتماعية الأخرى،من خلال مجموعة من المقالات العلمية،كان أولها:مقال"من اجل علوم إنسانية متداخلة" لأولفي ديمولين Olvier DUMOLIN ،والذي يهدف إلغاء الحدود بين التخصصات الإنسانية والاجتماعية،من خلال عرضه التاريخي لتطور العلوم الاجتماعية والتداخل في ما بينها،في شكل "صراع" أحيانا، والتكامل أحيانا أخرى؛لكن النتيجة جاءت ايجابية، بحيث انفتح التاريخ على كل العلوم الاجتماعية بأساليب مختلفة حسب البلدان(فرنسا-الانفتاح على السوسيولوجيا،بريطانيا-الانفتاح على الانتربولوجيا...). وهكذا استطاع تحيين والتقاط مفاهيم جديدة طورت "الخطاب" التاريخي التقلداني.
ولقد كان المؤرخ والانثربولوجي -محمد حبيدة- على حق عندما أدرج هذا المقال في بداية مجمعه،لأنه عرض موجز لتداخلات العلوم الاجتماعية،والعلاقات الابستمولوجية الرابطة بينها؛ كأنه في تصنيفه وترتيبه لهذه المقالات/الدراسات، يهدف إلى خلق سيرورة استقرائية منطقية تنطلق من العام إلى الخاص.
بينما جاء المقال الثاني بعنوان:التاريخ والاثنولوجيا، لفرنسوا فوريFrançois FURET، فقام بحصر ابستمولوجي لمفهوم التاريخ والانثولوجيا.فإذا كان التاريخ يعمل على جرد الزمن؛ فان الاثنولوجيا تقوم بجرد المكان، ومع ظهور الدولة القومية تمت علمنة التاريخ؛ فسقطت القداسة عنه بفعل الفلسفة الانسية، بينما اتجهت الاثنولوجيا نحو دراسة المجتمعات "البدائية"،حيث أصبح التاريخ حكرا على بعض الأمم دون أخرى. وأمام التحرر الاستعماري خلال القرن 20 ظهرت تواريخ "وطنية" أنهت زمن التفكير في الاختلاف حسب المجال ليأخذا بعدا تاريخيا،كأن الكاتب في هذا المقام يلمح إلى تداخل علم التاريخ والاثنولوجيا وصعوبة الفصل في مابين هما،لان هذا الأخير (الفصل) ذو صبغة أكاديمية وليست ابستمولوجية.
وفي خضم كل هذه العمليات المفاهيمية، أشار "فرنسوا" إلى نوعين من التاريخ؛ تاريخ حدثي يسعى إلى فهم الماضي وفق أهداف مرصعة سلفا،وتاريخ غير حدثي ينطلق من إشكالية منفتحة على جميع العلوم الاجتماعية المعاصرة دون إغفال التاريخ الكمي الباحث في الأمد الطويل؛مما سينصف المهشمون في التاريخ الحدثي.
أما المقال الثالث من هذا المجمع فقد كان بعنوان: الانتربولوجيا التاريخية(اندري بيرجيرAndré BURGHIEERE)، حاول أن يقارب فيه التاريخ المنسي أو المسكوت عنه لبعض الشعوب التي أغفلها التاريخ القومي ؛إذ يقول:"إذا كانت الشعوب التي لا تتوفر على كتابة وعلى مآثر لها تاريخ .... فإنه من الواجب البحث في أساليب اللباس والتغذية وتنظيم العائلة... هنا تحبل الطبائع بالتاريخ..."،وذلك ارتباطا بفلسفة الأنوار مع "لوغران دوسي"،التي حددت الإنسان كحيوان اجتماعي تتحكم فيه الحاجة إلى الحرية والعقلانية،عكس الطرح السائد الذي كان يرى أن الإنسان لا يكتسب البعد الاجتماعي إلا بوجود المؤسسات...
إلا أن هذا التفسير الانثربولوجي للتاريخ حسب "اندري" قد استغل اثنولوجيا لتبرير استغلال الشعوب "البدائية" من خلال البعد الزمني،وبالتالي انقسمت المدارس التاريخية قبل الجمهورية الفرنسية الثالثة الى مدرستين؛ الأولى إخبارية رسمية "نخبوية" تهتم بالمؤسسات، والثانية تحليلية إشكالية اهتمت بالطبائع الاجتماعية، كنموذج ميشلي في القرن 19،الذي وصفه لوسيان فيفر بأستاذ تاريخ الإحساس والعقليات.
وأمام هذا الطرح ظهرت مدرسة الحوليات التي حاولت منح حق الموطنة للتاريخ المنسي، من خلال اهتمامها بالحياة العامة كأداة لتفسير التاريخ الاقتصادي والاجتماعي. وبالرغم من اهتمام مدرسة الحوليات بالتاريخ "غير المألوف"، لايمكن تصنيفها ضمن الانثربولوجية التاريخية –حسب اندري- الا بالاعتماد على أدوات إجرائية يمكن إجمالها في المعالجة الكمية والإحصائية للمعطيات الوثائقية، وبالتالي الكشف عن بنيات تاريخية مهمشة من قبل التاريخ الحدثي.
كمثال على ذلك أشار اندري الى طقوس تتويج الملك في فرنسا وانجلترا،الذي يحمل دلالات رمزية لشرعنة الحكم المطلق أو المشيئة الإلهية، في حين لايشير لها المؤرخ الحدثي إلا بطريقة سطحية و وصفية فقط.
مهما كان الامر تبقى الانتربولوجيا التاريخية؛ كتاريخ للعادات والتقاليد السلوكية والغذائية والعاطفية...،تسعى الى كشف التيمات الاقتصادية والسلوكية ،وانعكاسها على الحياة البيولوجية والاجتماعية،مما افرز مجموعة من الأعمال والدراسات التاريخية كان أبرزها؛ تاريخ التغذية باعتبارها تيمة موضوعية لقياس مستوى العيش والقدرة الشرائية،والتفاوت "الطبقي" من خلال الموائد؛ إذ في مقابل خواء موائد "البروليتاريا"، نجد التفنن والإفراط الغذائي عند البورجوازية.وسينعكس هذا على الجسم وظهور الإمراض، وبذلك ظهرت مباحث أخرى تهتم بتاريخ الجسم والأمراض الطبيعية، ودورها في الأزمات السوسيواقتصادية وفي السلوكيات الاجتماعية.
وفي إشارة منه للسلوك الاجتماعي،تطرق "اندري" لتاريخ السلوكيات الجنسية باعتبارها احد المباحث التاريخية الانثربولوجية،التي لا محال ستكشف الكثير وتزيل "القداسة" عن بعض القرون الدينية التي سادت فيها الممارسات الجنسية اللاشرعية، التي غلفتها الكنائس بخطابات دينية وسياسية قضائية تهدف إلى مسح معالم "الممارسة" وكبت المجتمع عاطفيا ووجدانيا وبيولوجيا.انها حالة انفصام، ستكشف عنه حالات منع الحمل اللاشرعي.
مجمل القول،أمام هذا الزخم المعرفي والعلمي الذي محصته الانتربولوجيا التاريخية، تحدث "اندري" في نهاية دراساته الغنية،عن أفاق الانتربولوجيا التاريخية؛ المتمثلة في نبش البنيات العقليات ،والأنساق الثقافية و الاجتماعية والاقتصادية من طقوس وعادات ومعتقدات وتصورات ...، مما قد يؤثر على النظرة الخطية للنمو التاريخي وغربلة مفهوم التقدم.
في حين جاء المقال الخامس بعنوان:تكويني كمؤرخ، للمؤرخ الفرنسي فرناند بردويل Fernand BRAUDELاحد "شيوخ" مدرسة الحوليات ،التي ظهرت سنة 1929 كتوجه معاصر يهدف إلى إعادة الاعتبار للتاريخ،وبناء أساليب الرقي به عن طريق الاغتراف من جميع العلوم الاجتماعية، وقد جاء هذا المقال كسيرة ذاتية له، وكتأريخ للحوليات، حيث أشار إلى مجموعة من الأحداث والعوامل التي ساهمت في تكوينه التاريخي:
-حياته الطفولية البدوية التي مكنته من التعلم من الحياة بدل الكتب.
-والده المعلم ذو الطابع التعلمي الرياضي.
-معلمه الذكي الذي كان يسرد تاريخ فرنسا كما تقام صلوات القداس،حسب تعبير فرناند.
-حبه للتاريخ وتمتعه بالذاكرة القوية.
-أستاذه في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي "هنري موريس" أثناء الدراسة الجامعية.
-تعيينه كأستاذ للتاريخ بالجزائر وهو ابن 21 سنة،مما سيمنحه نظرة من "الخلف" للبحر الأبيض المتوسط،وتدريسه في جامعة ساباولو بالبرازيل.
-احتكاكه بلوسيان فيفر وهنري بير ومارك بلوك.....
-السجن في المانيا، والذي اعتبره كمدرسة لتعلم الصبر والتسامح،مما مكنه من كتابة أطروحته حول البحر الأبيض المتوسط.
لقد أشار بردويل في هذه الحياة الغنية بالأحداث الى "الصراعات" والنقاشات الفكرية والعلمية التي كانت سائدة في الأوساط الغربية،تمخضت عنها مدرسة الحوليات، وشدت إليها وما تزال كل المهتمين بالعلوم الاجتماعية.
ونظرا للغنى والزخم المعرفي والمفاهيمي الذي حبل به هذا المجمع فقد ارتأيت أن أتحدث عن الفصل الأول كمرحلة أولية لقراءة، وكشف النقاب عن بعض القضايا الحارقة في تدريس التاريخ في جامعتنا المغربية، واترك الفصلين الآخرين لمناسبة أخرى، سنحاول من خلالها إماطة اللثام عن هدف المترجم من خلال هذا المجمع، والتوجهات المعاصرة في علم التاريخ.
قصارى القول لقد كان المؤرخ والانثربولوجي محمد حبيدة عقلانيا ومنطقيا في تجميعه هذا، خصوصا عندما أنهى الفصل الأول، بمقال بروديل عن حياته كمؤرخ، وعلاقته بمدرسة الحوليات،بغرض الكشف عن آليات مكنت من تجاوز المجتمعات الاوروبية للمجتمعات الأخرى في جميع الميادين؛ إذ في الوقت الذي كانت فيه النقاشات الفكرية والابستولوجية قائمة على ساق وقدم، كانت المجتمعات "الجنوبية"، تعيش انغلاقا فكريا وتأزما حضاريا، برز بطريقة مباشرة في الخطاب التاريخي وأدوات تحليله وتدوينه، القائمة على "ثقافة" الحق الإلهي(الشرف)، ومحاولة بناء النموذج الديني الأول، فجاء "المتن" التاريخي سرديا ميثولوجيا، لا يمنح حق المواطنة التاريخية إلا للحكام وأسرهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ِنعمَ التاريخ
رشيد اثررحمة الله -ابن زهر أكادير- ( 2014 / 6 / 8 - 11:34 )
لقد اندهشت لمستوى التحليل التاريخي للمقال كما ازددت اعجابا بمؤرخنا محمدحبيدة نتمنى له المسار الموفق في تأهيل المدرسة التاريخية المغربية المعاصرة والتي هي في حاجة ماسة الى امثاله من المبدعين الذين لايتعصبون لانتمائهم التاريخي بقدرما يمد دراعيه لإحتضان كل جديد مما تجود به الحقول المعرفية الأخرى بما ينفع ويفيد الكتابة التاريخية الواعية بحاضرها ومستقبلها .وهذا هو التاريخ الحقيقي الذي ابدع فيه رواد الحوليات .


2 - في حاجة للكتاب
المصطفى مربطي ( 2022 / 1 / 11 - 00:20 )
هل يمكنني ان اجد الكتاب في صيغة الكترونية احتاج للاطلاع على المقالات المدرجة في اول الكتاب


3 - في حاجة للكتاب
المصطفى مربطي ( 2022 / 1 / 11 - 00:20 )
هل يمكنني ان اجد الكتاب في صيغة الكترونية احتاج للاطلاع على المقالات المدرجة في اول الكتاب


4 - في حاجة للكتاب
المصطفى مربطي ( 2022 / 1 / 11 - 00:20 )
هل يمكنني ان اجد الكتاب في صيغة الكترونية احتاج للاطلاع على المقالات المدرجة في اول الكتاب

اخر الافلام

.. بين أنستغرام والواقع.. هل براغ التشيكية باهرة الجمال حقا؟ |


.. ارتفاع حصيلة القتلى في قطاع غزة إلى 34388 منذ بدء الحرب




.. الحوثيون يهددون باستهداف كل المصالح الأميركية في المنطقة


.. انطلاق الاجتماع التشاوري العربي في الرياض لبحث تطورات حرب غز




.. مسيرة بالعاصمة اليونانية تضامنا مع غزة ودعما للطلبة في الجام