الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة: كل حاجة قديمة للبيع

محمد عبد المنعم الراوى

2012 / 12 / 4
الادب والفن


يعيش الرجل العجوز مع ولديه وزوجته فى كوخ لا يرقى إلاّ ليكون بيتاً للقوارض أو الزواحف!..غير أن الرجل يعتبره مملكته الخاصة التى ورثها عن أبيه، ويراه الآن قصراً بعد أن أضاف إلى سقفه عروقاً من الخشب، وجدّد جدرانه ونوافذه بصفائح من العربات القديمة أو المحترقة، كما أتى بزوجين من الكلاب ليقوما على حراسته وحراسة ما يعود به كل يوم من غنيمة آخر النهار.
أثناء اللّيل الكلّ يعزف بمنخاريه والبوق المفتوح سيمفونية لا تنقطع من الشخير..وفى الصباح ينهض
الرجل بادئاً يومه بالتثاؤب، فيتثاءب الكلّ وراءه حتّى الكلاب!
مدّ يده أعلى الحائط..التقط طاقيّة من الصوف بنيّة اللّون وجلباباً بين الزرقة والسواد..أخفى قدميه
فى حذاءٍ مثلثىّ الشكل..فتح الباب..انحنى برأسه وهو قابض على الباب خلف ظهره..فسحبه بقوة..
أمسك بخرطوم الماء، وفتح الصنبور، فاندفع الماء..أخذ يرسله فى كل اتجاه، ويصبّه على أصيص
تحت النافذة به أفرع خضراء تبرز منه بعض الورود..بدت برّاقة زاهية بألوانها كما يحلو أن يراها
كل صباح، لكنّها لا تنمو لأنها من البلاستيك!
اتجه صوب القهوة المجاورة..قذف الصباح على الجالسين والنائمين بصوتٍ أجش مخنوق، وإذ هو يجلس
على مقعده المشمس بصق بصقةً علقت بثياب أحد المّارة دون أن يشعر!
أتى القهوجىّ بالحلبة، فمّد العجوز يده فى التوّ..مطّ شفتيه الغليظتين وشاربه، وأخذ يرشفها بالصوت
والحركة معاً، فأتى على كل ما بها من ماءٍ وغلّة.
اتجه نحو عربةٍ خشبية..شمر عن ساعدين مصقولين بشعرٍ أبيض كثيف، وقبض على خشبتين مستديرتين تمتدّان منها..مال بأعلى جسده مقدّماً قدمه اليسرى، وعلا بصوته: يا فتّاح يا عليم يا رزّاق يا كريم، فسارت مترنحةً بإطاريها يميناً ويساراً..تشقّ طريقها وهى تصدر دويّاً وجلبة، كأنه حفيد من رجال طروادة يقود
عربة من عربات الهكسوس!..ظلّ يجرّها دون أن ينظر خلفه إلاّ ليطمئن على تلك الطبول الصغيرة المعلّقة
على جوانب العربة.
توقف عند مفترق طرق فى حىٍّ قديم..ظلّ ينادى ويردّد:
يا كل حاجة قديمة للبيع
نحاس..رصاص..ظهر..ألمونيا قديمة للبيع
جرايد قديمة..مجلاّت قديمة..كتب قديمة للبيع
شبشب بلاستيك..كوتش بلاستيك..جزمة بلاستيك قديمة للبيع
كل حاجة قديمة للبيع
أطلّت امرأة برأسها الضّخم من على سطح منزلها ـ حيث تجلس عليه كعادتها كل يوم قبل الظهيرة تراقب فراخها وهى تأكل وتمرح أمامها، فتبعث فى نفسها بهجةً ورضا، وتقطع وقتها بأن تأتى على عودين من القصب الغليظ الممشوق، وذباب الحىّ حائمٌ حولها، ينهل ممّا يعلق بأصابعها وكفّيها وخدودها المنتفخة ـ أمرته ألاّ يبرح مكانه..مكث فترةً ليست قصيرة، لأن بدانتها قد أعاقتها عن الإسراع فى الخروج إليه..رآها تقترب منه، حينئذٍ تيقن أنّها لم تتأخر أو تتكاسل، لأنّ جسدها المكتنز كان ينبغى أن يؤخرها أكثر من ذلك!
التفت الرجل إلى ما فى يدها..وجدها تحمل طستاً وإبريقاً نحاسيين ـ بدا لما عليهما من سوادٍ قاتم أنهما قديمان ولم يستعملا منذ زمن ـ مدَّ أصابعه المتشققة..تناولهما بتأففٍ مُتصّنع عارضاً فيهما سعره الزهيد..سرعان ما ارتسمت على وجهها علامات سعره وتأففه..جذبتهما بعصبية، وأشاحت بوجهها..أمسك ـ بتحنانٍ زائف ـ إبريقها وطستها..دعاها للتريث، بيد أنها تعاود جذبهما وكلٌّ منهما فى يد..أخذت تلوّح بهما متمتمةً بكلماتٍ تؤكد بها رفضها..كادت تنصرف لولا أن استردت خطوتيها لتروى له قصة الطست والإبريق!
إنها لم تجرؤ عل بيعهما إلاّ بعد أن توفى زوجها، لأنه حين ورثهما عن جده لأبيه كان يأبى أن يفرط فى تلك الذكرى الغالية وهذا الإرث العزيز، وكلما كانت تعرض عليه أمر بيعهما يغضب ويثور، وكلما حاولت إقناعه سرعان ما يسب ويلعن، ويهددها برمى يمين الطلاق عليها إن فعلت!
ـ بس عمره ما عملها والله يا خويا..هوّ صحيح كان نحيف واسمرانى كده..بس كان قلبه أبيض وزى الفل.
وواصلت حديثها وهى تبكى: عمره ما رفع إيده علىّ ، ولا ودّانى مرة بيت أبويا وأنا غضبانة!..الله يرحمك يا أبو بندق!
ـ يا ستّى كسرتى دماغى!..الله يرحمه ويبشبش البندق اللّى تحت دماغه!
..خلصينى بقى أنا فى عرضك!..يا ساتر!
لم يجد الرجل بدّاً من أن يرفع سعره ليحصل عل نحاس تلك المرأة الثرثارة، وينجو منها كما نجا زوجها!..فهى على بدانتها وثقل أردافها وساقيها فإن لسانها خفيف الحركة، وسريع التنقل بين فكّيها!
أخيراً حصل على الطست والإبريق..قذف بهما فى جوف العربة الخاوية، وعاود سيره عابراً نحو الجانب الآخر من الطريق وهو يردد:

يا كل حاجة قديمة للبيع
....................................
جرايد قديمة..مجلاّت قديمة..كتب قديمة للبيع
شبشب بلاستيك..كوتش بلاستيك..جزمة بلاستيك قديمة للبيع
كل حاجة قديمة للبيع
انتظره شاب مُغترِب كان متوارياً خلف مدخل مسكنه يتفصّدعرقاً..أطلّ برأسه يرقب الشرفات وجوانب الطريق..كأنه لصٌ مذعور..كان قابضاً بإحكام على مجموعتين من الكتب كان قد اشتراها بما كانت تبعثه له أسرته من نقود، ورغم أنها كانت الرفيق الوحيد الذى يؤنس وحدته فى تلك المدينة الغريبة إلاّ أنه قرّر بيعها بعدما خوى جيبه، وبدأت أحشاؤه تستصرخه لإنقاذها..حاول أن يلفت نظر الرجل بصفيرٍ مكتوم، والرجل لا يستجيب!..
ناداه الشاب بخجلٍ شديد: يا حاج!..يا حاج!
أخيراً سمع العجوز بعض تلك الهمسات..أخذ يتلفت نحو الشرفات والأسطح..علا الشاب بصوته قليلاً:
يا ريس!..يا ريس!
أخيراً عثر عليه العجوز..توجه إليه وهو يدفع العربة..وقف بها قريباً من البيت.
استأذنه الشاب بأدب: والنبى يا والدى تقرّب قدّام المدخل أحسن الحاجة اللّى معايا تقيلة شويّة!
اقترب الرجل..رفع الشاب إحدى المجموعتين..أسندها على حافة العربة، فمالت العربة، وسقطت الكتب على الأرض متبعثرةً..ارتبك الشاب، وازداد شعوراً بالخجل..شرع فى لملمة ما تبعثر منها ، فعاجله العجوز:
عن إذنك يا أستاذ!
انزوى الشاب..وأخذ الرجل يلتقط الكتب ويلقيها فى جوف العربة..ثم قذف بالمجموعة الأخرى قائلاً:
عاوز كام يا أستاذ؟!
حدّث الشاب نفسه: عاوز كام؟!
لقد ذكّره العجوز بأبيه الشيخ حينما قالها له آخر مرة قبل أن يغادر القرية.. الآن فقط يشعر بشئٍ من الحنان
الذى أعاد إليه قدراً من الشجاعة الضائعة!
أجاب الشاب بثقة: اللّى تشوفه انت يا ريس!..بس والله إنت معاك مجموعة كتب..ما قولكش!.. قيّمة جداً..سياسية..وأدبية..وعلمية..و...
فعاجله الرجل مقاطعاً ـ وقد علت نبرة صوته ـ : جرى إيه يا أستاذ إنت حتدينى مُحاضرة..اتفضل!
تلّقف الشاب ما أعطاه له الرجل دون أن يعرف الثمن، وهرول إلى حجرته باحثاً عن الأمان والدفئ المفقود!
قبل أن يشرع العجوز فى الانصراف كان الشاب قد أسرع للّحاق به..فاستأذنه ليأخذ شيئاً قد نسيه.. سمح له الرجل بامتعاض..ظلّ الشاب يقلّب فى الكتب، ويبعثرها فى قلب العربة
كشّر الرجل عن أنيابه: ما تخلّص بقى فى نهارك اللّى مش فايت ده!
اغرورقت عين الشاب بالدموع لشعوره بقسوة العجوز عليه وإهانته له..لقد كان منذ قليل يذكّره بأبيه!
أخيراً عثر عل ديوان مجنون ليلى..فتحه، والتقط منه ـ بحذر شديد ـ وردةً جافّة..حملها على كفّه..أدناها من صدره وهو يقول: ألف شكر يا ريس!
ضرب العجوز كفّاً بكف، ودفع العربة بعنف وهو يتمتم ساخراً: شباب آخر زمن!
وقف الشاب فى مدخل البيت..أخرج محفظته، وأدخل فى إحدى جيوبها وردته، ومد يده فى جيبه ليضع
أيضاً نقوده..لكن يا للمأساة!.. لقد سقطت منه النقود فى قلب العربة وهو يفتش عن تلك الوردة المشئومة!
وضع يده على معدته التى شاركته صرخاته المكتومة..ألقى نظرةً طويلة على العجوز الذى توقف تواً عند المفترق البعيد..وظلّ يفكر هل يذهب إليه راجياً ليعيد تفتيش العربة بحثاً عن النقود؟!..لكن هل سيسمح له بذلك؟!..وماذا لو غضب؟!..أو رفض؟!..أخيراً قرّر أن يحافظ على ما تبقى من كرامته التى لن يستطيع
لملمتها إذا بعثرها هذا العجوز فى الميدان؟!
عاد العجوز يردد:
يا كل حاجة قديمة للبيع
....................................
...............................................
شبشب بلاستيك..كوتش بلاستيك..جزمة بلاستيك قديمة للبيع
كل حاجة قديمة للبيع
لمحت الطفلة الطبول المعلقة على جوانب العربة..طارت فرحةً ترغب فى الفوز بإحداها..أخبرته برغبتها فى سذاجة، فطلب منها أن تُحضر من بيتها أى شئ من البلاستيك..دون أن تفكر رأت فى قدميها الحلّ السحرىّ لتحقق رغبتها..خلعت الشبشب، وقدّمته للرجل: ينفع ده يا عم؟!
فأعطاها إحدى الطبل الملونة المشروخة..جذبتها، وأخذت تنقر عليها بأناملها الدقيقة..لمحتها أمّها من الشرفة وهى تجلس على المصطبة وتنقّر على الطبلة وتغنى بحذر شديد، فأدركت ما حدث..اندفعت من أعلى تُمسك بيدها فردة حذائها الطويلة..شدّتها بيدها من شعرها داخل البيت، وبيدها الأخرى أطاحت بالطبلة بكل عزمها على الأرض، لقد دارت معركة شرسة من جانبٍ واحد..الطفلة تسترحم أمها تارةً، و تستصرخ الناس وتستغيث تارةً أخرى..ظلّت الأم تضربها بالنعل على رأسها وجسدها ـ دون هوادة ـ وهى تردد صارخةً عباراتٍ غريبة: حرام عليكى!..ده سليم!..أنا كنت حلحمه!..ألاقيها منّك ولاّ من ابوكى!
تجمّع الجيران..نجحوا فى أن يستخلصوا الطفلة من يدها وهم يوجهون لها اللّوم والعتاب الشديد..احتضن بعضهم الطفلة، وأخذ يمسح على رأسها، وبعضهم دفع الأم لتجلس على المصطبة خارج البيت.
جلست الأم تنعى حظها، وتبكى بكاءً متواصل..جلست بعض النساء بجانبها، وأخذوا يبكون معها فهل كانت الأم تبكى على ابنتها؟!..أم على نفسها؟!..أم على حياتها وحظها العسِر؟!..أم على كل هذا؟!..لكن لماذا بكى هؤلاء النساء معها؟!
توجّهت إليها جارتها أم محمود قائلة: استهدى بالله كده..دى برضه ضناكى!
وأعقبتها أم اسماعيل: قومى كده اغسلى وشّك..وصلّى على النبى!
ثمَّ وقفت أمامها السيدة العجوز أم عبده ـ وقد أحنى الدّهر ظهرها وأطاح بأسنانها ـ :
واللّه يا بنتى ما ضاقت إلاّ لمّا فُرجت!
وهى تقصد بالطبع أن تقول: ما فُرجت إلاّ حينما ضاقت!
نهضت الأم..حملت ابنتها على صدرها..صعدت بها، وكلاهما لا يزال يبكى..أجلستها..أخذت ترش الماء على رأسها وجهها، وتربّت على كتفتها، وتطيّب خاطرها، ثمّ نزلت بها..توجهت نحو الرجل العجوز ـ الذى لم يبرح مكانه بعد ـ .. ناولته حذاءها..جعلت ابنتها تختار الطبلة التى ترغب فيها بنفسها..حملت الطفلة طبلتها، وحملتهما الأمّ معاً لتعود بها إلى البيت..لكنّ الدموع لازالت تعلق بعينيها.
سحب العجوز عربته ولسان حالها يقول: هل من مزيد؟! فيلبّى نداءها بترديد نشيده اللاّ وطنىّ المقدّس!:
كل حاجة قديمة للبيع
"تمّت"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال