الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بورتريه خلفي لمدينة مونتريال...العالم الثالث الكندي الذي لايصلح لصور الدعاية

خالد سليمان

2005 / 3 / 14
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


لا تعلن أيّ مدينة في العالم عن صورها الداخلية والإشكالات التي تشكل جزءاً من بنيانها الثقافي والإجتماعي بسهولة، ولا تسمح لـ"غربائها" بالظهور وفق ما تقتضي البيانات الخلفية للحياة اليومية فيها. هذه هي حال مدينة مونتريال الشمالية التي يسميها الكيبيكيون جوهرة الفرانكوفونية في شمال أمريكا. فهذه المدينة التي تأسست على أنقاض سكانها الأصليين (الهنود الحمر) كانت مساحة مفتوحة للصراع الكولونيالي بين الانكليز والفرنسيين منذ سقوط دولة "فرنسا الجديدة" في القرن الثامن عشر وتكبد بسببها الفرنسيون خسائر كثيرة قبل ان يتحولوا إلى أغلبية فقيرة إقتصادياً وسياسياً وتحكمهم سلطة الكنيسة وقوانين إجتماعية صارمة تفرض الخضوع لقراراتها. وكانت المدينة في الوقت ذاته محط أنظار المهاجرين والهاربين من الحروب الاتنية والدينية في أوروبا والشرق الأوسط. فأولى موجات الهجرة وصلت إليها من إيرلندا الشمالية بعد سقوط "فرنسا الجديدة" وتأقلم القادمون الجدد ـ الإيرلنديون ـ في المجتمع الكولونيالي الفرنسي المهزوم واصبحوا جزءاً من طبيعة مونتريال الريفية وقتئذ. أما الموجات الأُخرى فتمثلت بمجاميع لبنانية وسورية وصلت إلى مونتريال في النصف الثاني من القرن التاسع عشر واستقرت في وسط المدينة على شارع "روتر دام" وأسست لها أول مقهى في الشارع ذاته.
لم تتطور المدينة وفق المعايير الحديثة إلاّ في نهايات النصف الأول من القرن العشرين إذ بدأت الخطوات الأولى للنهضة الكيبيكية تحت عنوان "الثورة الهادئة" وتحرر المجتمع على اثرها من القوانين الكنسية والعائلية وصار للمرأة مكانة إجتماعية لائقة بها. فالثورة الهادئة، والتي تجسدت في أشكال اقتصادية واجتماعية وثقافية حديثة ومتحررة من الكاريزما الدينية دفعت المجتمع لبناء مؤسسات مدنية كالبنوك والمدارس وميترو الأنفاق والعمارة إلخ. ولا بد من الإشارة هنا إلى هذه الأخيرة، أي العمارة التي تظهر على أشكالها الهندسية إلى الآن آثار فكر تيولوجي. فبالإضافة إلى وجود كنائس كثيرة في كل أنحاء المدينة كانت البيوت في السابق تخضع لشروط دينية صارمة من حيث مداخلها ومخارجها المكشوفة، ذلك ان سلطة رجال الدين قبل الثورة الهادئةالحياة الفردية لشروطها التي كانت تتطلب الكشف الدائم لتفاصيل الحياة الاجتماعية للفرد.
جئت بهذه المقدمة القصيرة كي تتضح معالم بورتريه خلفي أُحاول رسمه في هذا المقال عن مدينة مونتريال المعولمة الآن، إذ تحاول إخفاء اسرارها يوماً بعد يوم ومستقطبة الآلاف من المهاجرين في كل عام.
اليوم، هناك مجتمعات متنوعة أتت من "آخر الدنيا" وتعيش في المدينة وفق رؤى دينية وثقافية مختلفة، وخلف كل مجموعة شروط كثيرة تقتضيها الحياة العامة والخاصة، كما ان هناك خلف المدينة صور لا تعكس كل ما هو ظاهر في المداخل الأمامية التي ترتسم عليها لوحة التنوع الثقافي، وتبدوا كأنها بورتريهات جعدها الزمن. في سياق هذه اللوحة الخلفية التي تقع في مركز وأطراف المدينة بشوارعها وفنادقها وطواحينها الحمر ومطاعمها تختبئ ظواهر كثيرة تفصل بين دنيا الحلم وبين واقع معاش يحول منطق الأشياء إلى الإستعراض تحت شعار On est bien dans ce pays.
فهذه الجملة التي تعني "نحن مرتاحون في هذا البلد" أصبحت رداً على كل اعتراض يبديه المهاجر تجاه وضعه وعمله الذي نادراً ما يناسب اختصاصه أو أجر ساعات العمل الذي لا يقبل به سواه. عوامل كثيرة تصوغ هذه الفكرة عند المواطن، منها سذاجة يومية مفادها: ما دام ان المهاجر جاء من بلدان تعاني من الحروب والديكتاتوريات أو الفقر فهذا يعني قبوله بأقل الأشياء، ذلك انه مقيم في الأمان بعيداً عن الحروب. لكنه يقع في دائرة حرب أُخرى وهي الدخول إلى المشهد الخلفي للمدينة أو مجالات العمل المتروكة له اساساً دون ان يحسده أحد عليها. فقد اصبح شيئاً عادياً إذا رأيت طبيباً يعمل كسائق تكسي، او مهندساً أو محامياً أو تقنياً يعمل في مطعم بيتزا ويقتنع مع مرور الزمن بحالة هذه التي تدفعه للابتعاد عن الحياة الطبيعة التي يتميز بها الآخرون. لهذا السبب واسباب أُخرى نلاحظ ان الأجيال المهاجرة الجديدة تعيش على هامش الحياة المرفهة التي تدعيها كندا لنفسها من خلال منظمات الأُمم المتحدة للتنمية،لأنها تسكن وتعمل وتتحرك في المدينة دون أن تعرف القوانين الرئيسية التي تصون حقوقها في الحياة. ولا أُبالغ إن قلت ان كل السجالات التي تدور حول المحاكم الإسلامية الشرعية والمدارس الدينية اليهودية الخاصة والجاليات الاتنية الأخرى والأقلمة الوهمية وانغلاق الجاليات لا يسمع بها المهاجرون ولا يشاركون فيها.
بجانب هذه الصورة المعتمة التي تبدو خارج سياق خطاب يومي عن "الغنى الثقافي"، تقف معضلة أُخرى أكثر وضوحاً في معانيها ودلالاتها العامة، وهي ظاهرة "تعميمية" تسود العلاقات بين المهاجرين أو المواطنين من أصول مختلفة وبين المؤسسات الحكومية والمدنية. ففي تقرير نشرته وسائل الإعلام الكندية في بداية شهر شباط 2005، أشارت التقديرات العامة إلى ان نسبة 54 % من المهاجرين غير مُرحّب بهم من قبل الطلاب الكنديين في مقاطعة كيبيك.
هكذا دائماً، الاهتمام بأوضاع المهاجرين في وسائل الإعلام ونشر الأخبار والإحصائيات المتعلقة بظروفهم المعيشية والاجتماعية دون محاولة جادة لتحسين تلك الظروف التي تعاني من إهمال واضح حسب المعلومات الكندية الرسمية.
مما لا شك فيه أن اية جالية قوية تحكمها علاقات دينية أو اتنية متينة يمكنها الاقتراب من الاهتمام الرسمي وتحسين ظروف المؤسسات الخدمية في المنطقة التي تسكن فيها، لأنها باختصار عبارة عن "كتلة من الأصوات" ويمكن كسبها في أية معركة انتخابية.
في سياق الظاهرة التعميمية ذاتها تجاه المهاجرين اعتبر قاض كندي في الفترة الأخيرة أن الشرطة في مدينة مونتريال تعتمد في الغالب على وسائل عنصرية في تحرياتها داخل المدينة واعتمادها الصورة الجانبية للكشف عن وقائع الجريمة وأصحابها. جاء هذا الاعتراف الضمني الذي اعلنه القاضي (جوانا ويستمورلاند) بعد تفاصيل قصة شاب أسود من اصول أفريقية قبضت عليه الشرطة بتهمة الإتجار بالمخدرات. هذه النتيجة التي توصل إليها القاضي المذكور واعتبرها شكلاً من أشكال العنصرية، أدت إلى تقييم برامج كليات الشرطة وإدخال مواد جديدة ترشد بوليس مونتريال إلى سبل أفضل في مكافحة التمييز العنصري. وسبق أن أعتُبرت "الصورة الجانبية" نوعاً من العنصرية في القانون الكيبيكي، لكن الشرطة مارستها في عملها بسبب الأصل العرقي او الدين أو لون البشرة. فالإنسان الأسود حتى اليوم هو موضع "الاتهام الإرتجالي"، تتبعه نظرة تعميمية جانبية وأمامية وخلفية أيضاً، إذ انه محل "شك شرعي" زرعته الدعاية والإعلام العنصريان في ذهنية العامة (بوبليك).
ارتباطاً بالموضوع ذاته يتعرض الكثير من المسلمين لاتهامات ارتجالية وتعميمية بسبب ظاهرة الإرهاب العالمي والمجموعات الإسلامية الراديكالية واحتكار رجال الدين منابر الكلام ومواقعهم الدينية والاجتماعية بين الجاليات. فالثقافة الفردية التي يحملها الإنسان المسلم ليس لها حضور يذكر أمام كلام إمام الجامع رغم انه في بلد علماني . انه واقع نصدقه ولا نصدقه، لكن خلفياته تتضح حينما تختفي الأعذار. فظهور شخص مثل رئيس المجلس الإسلامي في مونتريال (سلام المنوي) على شاشات التلفزة ودعواته المتكررة لتأسيس المحاكم الشرعية الإسلامية في مونتريال يطغى على حضور الآخرين معمماً ثقافة المسلمين في جمل مختصرة ووعظية. ويسيطر بذلك "التعميم الشخصي" على أوساط واسعة أصبح التلفزيون مصدر ثقافتها الرئيسي.
عالم ثالث في كندا
وسط مدينة مونتريال حيث النشاط الاقتصادي والثقافي ومظاهر الفرجة لما هو الجديد في جميع المجالات، هناك صور مغايرة لدعايات كندا السياحية عن رفاهية المواطن إذ تخلق لدى المتابع شعوراً بأن جنوب كندا الغني لا ينقصه البؤس البشري. فغالبية الشماليين (السكان الأصليين أو الهنود الحمر بأسمائهم وطوائفهم المختلفة) الذين يهربون من البرد وعنف مجتمعهم البدائي والمهمش يواجهون التشرد والسكر والمخدرات في الجنوب ولا ينظر إليهم سوى أنهم مجموعة بدائية متخلفة. يشكل مشهد "الشماليين الفقراء" في بورتريهات مونتريال الخلفية مظهراً عالمثالثياً بامتياز مما دفع كبرى الصحف الكندية الفرنسية "لو دوفوار" لفتح ملف خاص حول الموضوع تحت عنوان "العالم الثالث في نهاية الشارع" وإلقاء الضوء على فقر السكان الأصليين الذين يواجهون البرد والجوع والعنصرية في قلب مدينة مونتريال.
يهرب الهؤلاء من البرد والعزلة والبطالة والعنف متجهين نحو الجنوب الغني، لكنهم يواجهون الشارع كبداية الحلم ونهايته والحال هذه يتحولون إلى ظاهرة فقر يومية داخل المدينة التي لا تعلن إلاّ عن كرنفالاتها، ويأسرهم واقع أمرّ من ذلك الذيتركوه ورائهم في الشمال الكبير
Le grand nord في كندا قوانين خاصة للسكان الأصليين إذ انهم ليسوا مواطنين ولا مهاجرين رغم إسمهم الشائع في الأدبيات الكندية، لكن في الواقع هم "الأُمة الأخيرة " التي تمارس ضدها أشكال مختلفة من العنصرية غير الخفية، ذلك ان هناك العنصرية الخفية ضد الآخرين. ومن هذه القوانين الإستمارات المتعلقة بالمساعدات الإجتماعية التي تتضمن سؤالاً يقتضي تحديد الأصل العرقي: هل أنت مواطن أم مهاجر أم هندي احمر؟!
إلى جانب هذا تسمح الحكومة الكندية للسكان الأصليين بالتهريب و بتجارة التدخين والكحول في أماكن هؤلاء ولا تفرض عليهم نظام الضرائب، وهذا ما يوسع فضاء العنف والمخدرات. الواضح في الهجرة الداخلية من الشمال إلى الجنوب ان قسماً كبيراً من الهاربين هم من النساء وقد هربن من القسوة المفرطة التي يمارسها المجتمع عليهن بحرية مطلقة. علماً ان السياسة الكندية المتعلقة بالعنف الأُسروي والاجتماعي واضحة وصارمة في الجنوب، أي في العالم الأول.
في العالم الثالث الكندي الواقع في أول ونهايات شوارع مونتريال تتراكم هموم "الأُمة الأخيرة" كتركة من ماض ثقيل وقوة الحداثة في إخفاء شوائبها وعنصريتها. لذا عندما يدخل هندي أحمر إلى مركز صحي " كلينيك" لا يخرجونه حالاً، بل يقولون له لا يوجد لدينا الطبيب لحالتك الصحية فعليك بالبحث عن مكان ثان.
انه واقع نصدقه ولا نصدقه، لكن فيه من المذلة تكفي لرسم بورتريه عن شوارعه الخلفية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا.. مظاهرة في ذكرى النكبة الفلسطينية تندد بالحرب الإسرائ


.. مسيرة تجوب شوارع العاصمة البريطانية لندن تطالب بوقف بيع الأس




.. تشييع جثمان مقاوم فلسطيني قتل في غارة إسرائيلية على مخيم جني


.. بثلاث رصاصات.. أخ يقتل شقيقته في جريمة بشعة تهز #العراق #سوش




.. الجيش الإسرائيلي: دخول أول شحنة مساعدات إنسانية عبر الرصيف ا