الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورة وإرث العلمانية والدين

حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)

2012 / 12 / 8
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


تحمل مشكلة الصراع بين فكرتي: العلمانية والدين عندنا فى مصر والشرق، تاريخا مختلفا عن السياق التاريخى الذى أنتجها فى أوربا، كانت فى الغرب نتاجا لتطورٍ وحاجة اجتماعية، بعد مصادرة الكنيسة للعديد من الحقوق البشرية باسم الدين، وتداخلها مع سلطة الاستبداد السياسي فيما عرف بعصور الظلام (العصور الوسطي).. لكن السياق التاريخى العربي والمصري لظهور الصراع بين ما سمي: بالعلمانية والدين؛ يأتي بعد ذلك بفترة طويلة ويعود لأواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، حينما بدأ المشروع السياسي التاريخى المرتبط بالإسلام (ممثلا فى تركيا الخلافة العثمانية) فى الأفول بشكل نهائي، وظهر فى تركيا كمال أتاتورك الذى رأى فى تخلص تركيا من تركتها السياسية -المرتبطة بالإسلام ودوله- حلا على الطريقة الأوربية للعلمانية؛ فكان رد فعله عنيفا إزاء كل ما يربط تركيا بتركتها السياسية ومشروع الخلافة.
وفى مصر والدول العربية ظهرت بداية الخلاف -لحد بعيد- بشكل مقارب؛ رأى البعض أن الأطروحات السياسية التى ظهرت بوادرها بعد انهيار النظام السياسي للخلافة، ممثلة فى أطروحات: الوطنية، القومية، الاشتراكية، الرأسمالية..الخ؛ رأى فيها ردة وعداوة لفكرة النظام السياسي الذى يرفع شعار الإسلام، ورأى فيها امتدادا لفكرة العلمانية الأوربية، وهزيمة للمشروع الإسلامي فى عقر داره، واتخذ موقفا معاديا من كل فكر وأطروحة بشرية للحكم السياسي لا تنطلق من قواعد الفقه، ولا تقدم لنفسها تكييفا فى إطار الانتصار للإسلام؛ الذين ظنوا أنه هزم مع هزيمة تركيا، وانهيار مشروعها السياسي المرتبط بشعار الدين! فتحول هذا التيار لما عرف فى الأدبيات العربية باسم "الإسلام السياسي"، أو التيار الذى يرى ضرورة رفع شعار الإسلام مرة أخرى وربطه بنظام الحكم، حتى يعود ما رأوا أنه المجد السياسي الضائع.. ومن هنا كان السياق التاريخى لظهور فكرة الصراع المفتعل بين العلمانية والدين فى مصر والعالم العربي؛ وهو السياق الذى تعود له جذور المشهد السياسي المصرى الراهن فى العقد الثاني من القرن 21 !
وفى حقيقة الأمر، تم توريط تيار "الإسلام السياسي" فى فكرة: امتلاك الحق الإلهي، واحتكار الحديث باسم الدين، لأن الدين دعوة وتبيان للحق والباطل؛ مع ترك الحرية للناس فى الاختيار بينهما، حتى تأتى منطقية فكرة: الحساب، والثواب والجزاء، ودرجات الجنة والنار. فتم الخلط بين الدعوة وبين إجبار الناس على إتباع مقتضيات الدعوة، وترسخ عندهم الشعور بأنهم فى حرب مقدسة من أجل الدين، يواجهون عدوا يسعى لتدمير المقدس، وتبرز المشكلة أكثر عند بسطاء المصريين، الذين يندفعون للمعركة بحميتهم وارتباطهم التاريخى بالدين.
كما تم توريط تيارات الأحزاب السياسية فى فكرة: معاداة الدين والقطيعة معه، فى حين أن غالبية هذه التيارات تنتمي للمشروع الحضاري العربي والإسلامي؛ وتحافظ على كثير من قيم دينها بشكل متحفظ جدا، لكنها اختارت ألا ترفع فى التنافس والتناحر السياسي شعارات دينية مقدسة، يدعى كل فصيل سياسي تمسكه بها وتعبيره عنها أكثر من الآخر، حتى لا يتحول المقدس المطلق إلى بشرى نسبى، فارتبطت بأفكار وأطروحات سياسية لا ترفع شعار الدين تعففا وتقديسا له عن التدافع البشرى، ولكنها أصبحت تملك رد فعل سلبى تجاه ربط السياسية بشعارات دينية؛ وشعر هؤلاء بأنهم فى مواجهة دولة دينية بمفهوم تسلط أفراد تطلق أحكاما قطعية وحدية ومطلقة باسم الدين.. والحقيقة أن المفترض: أن لا هؤلاء علمانيون بمفهوم القطيعة مع الدين، ولا أولئك دينيون بمفهوم احتكار الحديث باسم المقدس ومحاكمة الناس فى الأرض، إلا من شذ أو جهل أو كان له هوى من هنا أو من هناك.
حرص النظام السياسي المستبد القديم على تزكية الصراع بين التيارات السياسية وتيارات "الإسلام السياسي"، وحرص على وجودها تحت سيطرته حتى يمنع ذلك الصراع التاريخى المفتعل ظهور تيارات جديدة، قد تخلخل سيطرة النظام المستبد على البلاد والأفكار النمطية السائدة فيها، كان ذلك الصراع جزء من آليات السيطرة على البلاد وتوجيه نشاطها الجماعي، بعيدا عن القضايا المشتركة والحقيقية والواقعية. جذر المشكلة أن المسار السياسي للثورة، كان من المفترض ينتج نخبة جديدة تتجاوز مساحة الصراع التاريخى بين ما سمي: بالعلمانية والدين فى مصر، لكن النظام القديم ممثلا فى المجلس العسكري نجح قبل أن يرحل، فى تشويه وتخريب معظم تنظيمات النخبة الشبابية الجديدة، واستحضر قضايا من جرابه لتوجيه المشهد السياسي ليبقى على قديمه تحت نطاق السيطرة، استحضر ملف الفتنة الطائفية، وصعد بعض علماء الفرق الدينية الذين تربوا فى كنف الجهاز الأمني لدولة الاستبداد، وشجع الوقفات الفئوية.. فضرب فكرة الثورة فى مقتل، ونجح –حتى الآن- فى إجهاض لحظتها التاريخية، التى كان من المفترض أن تكون لحظة مفصلية، تنتج نخبة جديدة تتجاوز الصراع المفتعل بين العلمانية والدين، وتنتج قيمها ومنتجاتها الفكرية والاجتماعية الجديدة، المرتبطة بواقع الناس ومشاكل مصر التاريخية الحقيقة.
لن يكون هناك حل جذري وحقيقي للصراع المزعوم بين العلمانية والدين فى مصر والعالم العربي، إلا بلحظة مفصلية تاريخية تنتج نخبة تتجاوزه، وتلك هى الثورة ونخبتها التى يجب أن تقدم منتجا فكريا يكون القاطرة للتغيير المفصلي، يجب استثمار اللحظة التاريخية والانطلاق منها للمستقبل، إما أن ننجح فى إنتاج نخبة جديدة ترتبط باللحظة التاريخية (تفرض نفسها على الجميع وتكتسب احترام الشعب)، أو سيكون النجاح الأكبر للنظام القديم عندما يجعل اللحظة الثورية ترث معادلة الأطراف السياسية القديمة، لننشغل بالماضي وتذوب الكتلة الحرجة للنخبة الثورية، وتضيع علينا فرصة تاريخية قد تكون هى محور الانطلاق للدولة المصرية التى هى القلب فى بعدها العربي والإسلامي والعالمي.
فهل ينجح الثوار فى اكتساب المهارات السياسية – عن طريق الفرز والتنظيم- وتحين الفرصة والعودة للمشهد من جديد، بخطاب فكرى خلاق قادر على الاستحواذ على وجدان الشعب والتعبير عنه! أم سنبقى – لحينٍ- أمام الحل المتاح بضرورة الوصول لصياغات توافقية فى ظل معادلات الماضى؛ تراعى قيم وأخلاق مصر وهويتها الدينية التاريخية والحضارية، وفى نفس الوقت لا تعطى لأحد سلطة أن يكون مؤسسة دينية، تملك وتحتكر تحديد الصواب والخطأ سياسيا أو دينيا..
لحينٍ: يبقى الأمل فى الذى هو غائب، والحل فى الذى هو متاح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات التشريعية الفرنسية.. -ليلة تاريخية- لمناصري حزب ا


.. صور من تجمع لحشود ضد اليمين المتطرف في ساحة الجمهورية بباريس




.. لماذا تصدر حزب التجمع الوطني نتائج الدورة الأولى من الانتخاب


.. ماذا بعد أن تصدر اليمين المتطرف نتائج الانتخابات المبكرة في




.. -نتيجة تاريخية-.. اليمين المتطرف يتصدر الجولة الأولى من الان