الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورة المصريّة على شفا الهاوية

يعقوب بن افرات

2012 / 12 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


منذ سقوط نظام مبارك في شباط 2011، نشهد مواجهات داخليّة في مصر في محاولة يائسة لترسيخ نظام ديمقراطيّ جديد. رغم مرور حوالي سنتين، ما زالت مصر بدون دستور وبدون برلمان. من جهة أخرى، انتُخب في مصر رئيس في انتخابات حرّة وديمقراطيّة، يمثّل الإخوان المسلمين.
تمرّ مصر بعمليّة صعبة وملتوية، لأنّ الثورة بلورت ثلاث قوًى أساسيّة مصالحها متناقضة. من قام بالثورة وقادها كان الشباب المثقّفين، الذين غالبيّتهم من العلمانيّين والليبراليّين واليساريّين بدعم من قبل الطبقة العاملة المصرية. ومن قطف ثمار الثورة هم دون أدنى شكّ الإخوان المسلمون والسلفيّون؛ القوى التي كانت أكثر تنظّمًا وحازت على دعم ماليّ من دول الخليج. القوّة الثالثة هي الجيش، الذي استولى على الحكم بعد سقوط مبارك. حرص الجيش على الحفاظ على سيطرته على ربع الاقتصاد المصريّ، وفعل كلّ ما بوسعه من أجل إرجاء الانتقال إلى الحكم المدنيّ، بسبب تخوّفه من قوّة الإخوان المسلمين.
منذ بدأت العمليّة الديمقراطيّة، لم تنعم مصر بالهدوء ولو ليوم واحد. لم تدع الانتخابات البرلمانيّة مكانًا للشكّ- الحركات الإسلاميّة، التي حازت على ثلثَي المقاعد في البرلمان، هي أكبر قوّة في الخارطة السياسيّة المصريّة، في حين بقيت الأحزاب الليبراليّة واليساريّة أقلّيّة. مع ذلك، الفرق في نتائج الانتخابات الرئاسيّة بين محمّد مرسي وممثّل النظام القديم، أحمد شفيق، لم يكن كبيرًا. إلاّ أنّ العمليّة الديمقراطيّة تشوّشت على أثر قرار السلطة القضائيّة التابعة للنظام القديم، والتي لم تتغيّر في أعقاب الثورة، القاضي بإلغاء نتائج الانتخابات البرلمانيّة بذرائع إداريّة بحتة، الأمر الذي أدّى في نهاية الأمر إلى حلّ البرلمان.
الجدل حول الدستور
بعد أن خسر البرلمان، شرع مرسي بتأسيس مجلس صياغة الدستور، لترسيخ قوانين اللعبة الديمقراطيّة وتوزيع الصلاحيّات. إلاّ أنّ الإخوان المسلمين واجهوا صعوبات في هذه المسألة أيضًا، بعد أن قامت المحكمة الدستوريّة بحلّ مجلس صياغة الدستور بادّعاء أنّ فيه تمثيلاً زائدًا للإخوان المسلمين. وقد تمّ تعيين مجلس جديد مكانه شاركت فيه قوًى ليبراليّة وممثّلو الكنيسة القبطيّة.
صياغة دستور لمصر لا يقلّ صعوبة عن صياغة دستور لإسرائيل. ما هو القاسم المشترك بين المتديّنين والعلمانيّين؟ بين سلطة القانون والشريعة؟ كيف يمكن التوفيق بين الديمقراطيّة والشريعة؟ بين الدولة اليهوديّة والديمقراطيّة؟ إسرائيل بدورها حلّت هذه المشكلة واستغنت عن الدستور، وتنتهج نظامًا شبه ديمقراطيّ، ينعم فيه اليهود بجميع الحقوق، ويعاني العرب من التمييز، والمتديّنون اليهود يعيشون نوعًا من الاستقلاليّة الثقافيّة. يجب على مصر تأسيس حكم ديمقراطيّ، لكنّها لا تستطيع التوصّل إلى الإجماع المطلوب.
تكمن المشكلة في كون الإخوان المسلمين أكثريّة، في حين بقيت القوى الثوريّة أقلّيّة. كما هي الحال في إسرائيل، التي فيها الديانة اليهوديّة مطابقة للقوميّة اليهوديّة، هذه حال الإخوان المسلمين، فالقوميّة العربيّة تطابق الإسلام. بكلمات أخرى، مصر هي إسلاميّة بنفس المدى الذي فيه إسرائيل هي يهوديّة. تشكّل الديمقراطيّة الإسرائيليّة غطاءً لطابعها اليهوديّ، ويُفترض بالديمقراطيّة المصريّة أن تكون غطاءً لطابعها الإسلاميّ.
إلاّ أنّ القوانين في إسرائيل هي قوانين علمانيّة، بخلاف مصر التي يسعى فيها الإخوان المسلمون إلى تأسيس دولة إسلاميّة بكلّ ما يحمل ذلك من معنًى بالنسبة لمكانة المرأة وقوانين الأحوال الشخصيّة والثقافة والعلم. تعاني إسرائيل من صراع قوميّ، بينما تعاني مصر من صراع يحمل طابعًا ثقافيًّا: علمانيّون من جهة ومتديّنون من جهة أخرى، جميعهم ينتمون لنفس القوميّة، منهم أقلّيّة مسيحيّة قبطيّة كبيرة.
الديمقراطيّة الجديدة منحت الأكثريّة للإخوان المسلمين، وبحسب رأيهم من حقّهم التعبير عن ذلك في الدستور الجديد. بخلافهم، يدّعي الليبراليّون واليساريّون أنّ الدستور يجب أن يعبّر عن إجماع شعبيّ، ولا مكان له بدون ذلك. لهذا السبب وصل مجلس صياغة الدستور في المرّة الثانية إلى طريق مسدود، ومرّة أخرى اضطرّت المحكمة للبتّ في قانونيّته. نشأ وضع غريب: الإخوان المسلمون هم الأكثريّة، لكنّهم لا يملكون القدرة على تحقيق هذه الأكثريّة. البرلمان الذي كانوا أغلبيّة فيه تمّ حلّه، ومجلس صياغة الدستور كان على وشك حلّه من قبل السلطة القضائيّة في المرّة الثانية، بعد انسحاب معظم أعضائه العلمانيّين والليبراليّين، بمن فيهم المستشارون للشؤون الدستوريّة. وصل مرسي إلى طريق مسدود ومعه مصر برمّتها.
المعارضة احتلّت الشارع المصريّ
أسرع مرسي في الردّ. في 21 تشرين الثاني، في خطوة عديمة المنطق السياسيّ، منح مرسي لنفسه صلاحيّات دستوريّة، وألغى أيّة إمكانيّة للاعتراض على هذه الصلاحيّات، وأقال المدّعي العامّ، وعيّن آخر مكانه. ردًّا على هذه الخطوات، اتّحدت القوى الليبراليّة واليساريّة في "جبهة إنقاذ"، وقف على رأسها عمرو موسى ومحمّد البرادعي وحمدين صباحي، ودعوا إلى مظاهرة كبيرة في ميدان التحرير تحت الشعار "للثورة شعب يحميها". عاد الثوريّون واحتلّوا الشارع. من الجهة الأخرى، الإخوان المسلمون الذين يرون تلاشي سيطرتهم، قاموا بالتظاهر أمام جامعة القاهرة تحت الشعار "الشريعة والشرعية". بهذه الطريقة أغضبوا الليبراليّين الذين يدّعون أنّه لا سبب يدعو الرئيس الحاكم إلى إخراج مؤيّديه إلى الشوارع. وبوجه خاصّ اعترض الليبراليّون على الادّعاء المستتر، الذي مفاده أنّ من يعارض مرسي يعارض الشريعة، الأمر الذي يعني بأنّه "كافر".
يذكّرنا ميدان التحرير في هذه الأيّام بأيّام الثورة. المعارضة تزيد من ضغطها في الشارع، والقضاة يعلنون الإضراب في المحاكم، والصحافة تتجنّد ضدّ مرسي، ويطالبونه بإلغاء الأمر الذي يمنحه صلاحيّات مطلقة؛ لن نقبل دكتاتورًا آخر. يشعر مرسي بتضييق الخناق عليه، وفي بحثه عن مخرج، دعا إلى اجتماع مجلس صياغة الدستور وطلب منه الفروغ من المصادقة على الدستور فورًا، ودعا إلى استفتاء شعبيّ خلال أسبوعين. وقد وعد بأنّه بعد المصادقة على الدستور في الاستفتاء الشعبيّ سينتهي مفعول الأمر الرئاسيّ الذي منحه صلاحيّات واسعة، وبذلك تحقّق المعارضة مبتغاها.
لكنّ مرسي أخطأ مرّة ثانية في حساباته، لأنّ المعارضة تعتبر المصادقة على الدستور في مجلس صياغة الدستور في غضون ليلة واحدة قرارًا متسرّعًا هدفه تجاهل مواقف المعارضة. يدّعي مرسي أنّ من حقّه أن يعبّر الدستور عن إرادة الإخوان المسلمين وليس عن الإجماع القوميّ. ردًّا على ذلك، لم تكتفِ المعارضة بالمطالبة بإلغاء الأمر الرئاسيّ فحسب، بل طالبت بإلغاء الاستفتاء الشعبيّ أيضًا، ودعت مؤيّديها إلى التظاهر أمام قصر "الاتّحاديّة" الجمهوريّ. في نفس الوقت فرض الإخوان المسلمون حصارًا على المحكمة الدستوريّة لمنعها من البتّ في قانونيّة مجلس صياغة الدستور. بهذه الطريقة تتنازع في مصر قوّتان تتنافسان على السيطرة على الشارع.
بسبب محنته، قرّر مرسي استخدام آخر أسلحته، وفي الخامس من كانون الأوّل دعا مؤيّديه إلى الدفاع عن الشرعية والشريعة، وإلى طرد المعارضة من الشوارع، التي أقامت خيامًا احتجاجيّة حول القصر الجمهوريّ. عصام العريان، من القادة البارزين في الإخوان المسلمين، قام بتحريض المتظاهرين ببثّ حيّ في قناة الجزيرة للهجوم على القصر وطرد مؤيّدي المعارضة. أدّت الصدامات بين الطرفين إلى مقتل سبعة مواطنين وإلى جرح حوالي ألف منهم، ممّا زاد من الغضب على الإخوان المسلمين.
ردًّا على إراقة الدماء، استقال بعض مستشاري الرئيس وأعضاء من الحزب الحاكم. كما واستقال مدير عامّ التلفزيون احتجاجًا على الأمر الذي أصدره وزير الإعلام بتغطية الأحداث بصورة غير متوازنة. بالإضافة إلى ذلك، المؤسّسة الدينيّة العليا، الأزهر، انضمّت إلى الدعوة بإلغاء الاستفتاء الشعبيّ. فزع مرسي والإخوان المسلمون عندما اكتشفوا أنّ الشارع لا يقف معهم وأنّ المعارضة مصرّة على موقفها. اتّضح لهم أنّ هناك من هم على استعداد للتضحية بأنفسهم في سبيل المبادئ الديمقراطيّة، ليس أقلّ وربّما بمدًى أكبر من هؤلاء الذين على استعداد للتضحية بأنفسهم في سبيل الشريعة. على ضوء هذه التطوّرات، في خطابه للأمّة، دعا مرسي المعارضة إلى الحوار، وأبدى استعداده لإرجاء الاستفتاء الشعبيّ. لكنّ المعارضة مصرّة على موقفها، مدّعيّة أنّها فقدت الثقة بوعود الرئيس التي لم يفِ بأيّ منها حتّى هذه اللحظة.
معضلة الثورة
معضلة الثورة تذكّرنا بعض الشيء بمعضلة الثورة الروسيّة. كما قام العمّال البلشفيّون من قبلهم، قام الثوريّون المصريّون من الشباب والليبراليّين واليساريّين بثورة في مصر. في روسيا، عندما دعا لينين لانتخابات المجلس التأسيسيّ اتّضح له أنّه أقلّيّة، وحزب الفلاّحين الاشتراكيّين الثوريّين بالذات حاز على الأكثريّة. وبشكل مشابه، الثوريّون المصريّون يسيطرون على المدن المركزيّة، لكنّ الإخوان المسلمين يحظون بأكثريّة في المناطق الريفيّة المحافظة. في محاولة لإنقاذ الثورة، ألغى لينين المجلس التأسيسيّ، وأنشأ نظام حكم من حزب واحد. ومثله يجد الثوريّون المصريّون صعوبة في تقبّل نتائج العمليّة الديمقراطيّة.
إلاّ أنّ التجربة الروسيّة أثبتت أنّ انتصار الثورة بدون ديمقراطيّة، خلق في نهاية الأمر دكتاتوريّة تمثّلت بستالين. مستقبل الثورة المصريّة هو في أيدي القوّتين اللتين تتحاربان فيما بينهما على صورة مصر. مع مرور الوقت، سيكتشف الطرفان بأنّهما لن يتمكّنا من محو الطرف الآخر أو اعتباره غير شرعيّ، وأنّ التسوية والعمليّة الديمقراطيّة فقط، من شأنهما أن ينقذا مصر من الفوضى السلطويّة، التي ستؤدّي في نهاية المطاف إلى دكتاتوريّة عسكريّة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حسين بن محفوظ.. يصف المشاهير بكلمة ويصرح عن من الأنجح بنظره


.. ديربي: سوليفان يزور السعودية اليوم لإجراء مباحثات مع ولي الع




.. اعتداءات جديدة على قوافل المساعدات الإنسانية المتجهة لغزة عب


.. كتائب القسام تعلن قتل عشرين جنديا إسرائيليا في عمليتين شرقي




.. شهداء ومفقودون بقصف منزل في مخيم بربرة وسط مدينة رفح