الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوهام التحديث بالاستبداد

سامر سليمان

2005 / 3 / 15
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


النخبة السياسية والثقافية المصرية لا زالت مترددة أمام مسألة الديمقراطية. هناك شبه إجماع على أن هناك أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية حادة تضرب البلاد. ولكن هناك خلاف على تفسير الأزمة وعلى مسالك الخروج منها. وأهم الخلافات تتعلق الآن بمدى الديمقراطية التي يجب أن يحصل المجتمع عليها من الدولة. هناك تيار يطالب بمنح المجتمع المصري مقدار من الحرية لا يقل عن ذلك المقدار الذي حصلت عليه دول مثل جنوب أفريقيا. هذا التيار يعلو صوته ويكتسب أنصار جدد. ولكن على الجانب الأخر، هناك تيار يرى أن المجتمع المصري بأزماته لا يستطيع أن يتحمل مثل هذا القدر من الديمقراطية، وأن الأولوية الآن لإنجاز مرحلة ضرورية من التصنيع والتحديث. إنها نظرية الاقتصاد أولاً التي لا يزال البعض يؤمن بها. هاذين الموقفين النقيضين لا يمثلوا إلا أطراف المواقف، فجزء كبير من النخبة لم يحسم خياره بعد، ولازال يتأرجح بين الاختيارين. فهو قد يفكر في الصباح أن مصر لن تنصلح إلا بالديمقراطية، ولكنه يعود أخر النهار باعتقاد أنه لا بديل عن الاستبداد في هذا البلد. يبدو أن النقاش لم يتطور بعد إلى المستوى الذي يبلور المواقف المتذبذبة.

أحد أهم المشاكل التي تعوق تطور النقاش يكمن في أن أحد طرفيه لا يريد، بل لا يستطيع، أن يطرح موقفه بصراحة. فجناح الاقتصاد أولاً يعلن موقفه في معظم الأحيان بشكل غير مباشر ومقتضب، في حين أن جناح إصلاح السياسة قبل كل شيء قد قال ما عنده، وكرره، ولا يزال يكرره. فهو يطالب بفتح المجال السياسي أمام مشاركة أكبر، وهو المطلب الذي يسهل طرحه والدفاع عنه، لأنه يساير الأيديولوجية السياسية المهيمنة في العالم كله.. الإيديولوجية الديمقراطية. صحيح أن دولاً كثيرة لا تطبقها، أو تطبقها بشكل انتقائي وجزئي. ولكن الكل يدافع عن الديمقراطية ويعلن ولائه لها، حتى أعتى الاستبداديين. لم يعد هناك كثيرون في العالم يستطيعون الدفاع علناً عن فكرة الاستبداد، بالضبط كما أن قليلين يستطيعون الدفاع عن العنصرية. الكل مضطر لأن يساير الفكرة الديمقراطية ويتبناها، هذا بالطبع مع احتفاظه " بحقه " في أن يفرغها من محتواها. يختلف هذا كل الاختلاف عن الوضع في أوروبا قبل أن تترسخ بها النظم الديمقراطية. لقد كان هناك قوى تدافع علناً عن الاستبداد وتكتب فيه الشعر. لهذا وجدنا على الجانب الأخر قصائد بديعة في هجاء الاستبداد وفي التغني بفضائل الديمقراطية. وهو الأمر الذي لا نجد له مثيلاً اليوم. ليس لأن الناس أقل قدرة على الهجاء، ولكن لأن التيار الذي يدافع عن الديمقراطية لا يستطيع أن يمسك بخصمه لكي يكيل له النقد. فهو أمام خصم مراوغ.

أهم ما يميز فكرة الاستبداد اليوم هو لجوئها إلى الاقتصاد. العنصرية لجأت إلى الثقافة لكي تتخفى ورائها. لا أحد يجرؤ اليوم على وصم الجنس الأسود بالتخلف. ولكن البعض له أن يفسر تخلف مجتمع بثقافته الأفريقية. وبالمثل فإن لا أحد يجرؤ على وصم العرب بالدونية، ولكن البعض له أن يفسر تخلف مجتمعات بثقافتها العربية. وبالمثل، لا أحد يمكن أن يدافع عن الاستبداد، ولكن له أن يقول أن ضرورات الاقتصاد تحتم قدراً محسوباً ومتدرجاً من الديمقراطية. لماذا؟ لأن البلد منهار اقتصادياً واجتماعياً.. البطالة منتشرة، الفقر مهيمن، الإنتاجية متداعية، الأخلاق في الحضيض واليأس قابض على القلوب. ولكن إجراءات الإصلاح لن تحظى بشعبية.. لأنها مؤلمة. الدواء المر يجب إذن أن يعطيه طبيب قوي الشكيمة يستطيع أن يفرض العلاج على مريض يفضل الموت ببطء على تجرع الدواء.

مشكلة نظرية الاقتصاد أولاً، أو التصنيع السريع والتحديث بدون مشاركة سياسية واسعة، تكمن في أنها تحتاج لتطبيقها قدراً عالياً من عنف الدولة. هذا ما حدث في كل الدول التي انتهجت هذا الطريق، من أندونيسيا سوهارتو شرقا إلى بينوشيه شيلي غرباً. وهذا العنف لازم لكي ينفتح الطريق أمام القوى الاقتصادية حتى تنجز عملية التراكم الرأسمالي. بعبارة صريحة، لكي نمشي على خطى النمور الآسيوية سيكون على الدولة أن ترتفع بمستوى العنف الذي تمارسه إلى درجة غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث.

ولكن العنف وحده لن يأتي بنتيجة. فالأمر يحتاج أيضاً لجماعة، ولو قليلة، تحمل المشروع التحديثي على أكتفاها. هذه الجماعة غير موجودة في مصر. تظل كل الأحزاب التي حكمت البلاد ضعيفة، من الاتحاد الاشتراكي مروراً بحزب مصر العربي الاشتراكي ووصولاً إلى الحزب الوطني. لقد ظهر في مصر الزعيم القوي. ولكن هذا الزعيم لم ينجح أبداً في تأسيس جماعة مترابطة قادرة على تحقيق مشروعاته. أنظر على سبيل المثال إلى حالة عبد الناصر.. لقد كان يحظى بشعبية كبيرة. ولكن هذه الشعبية لم تعوض له غياب التنظيم السياسي القوي. والحقيقة أن عبد الناصر كان واعياً بذلك، حتى قيل أنه فكر في الاستقالة من رئاسة الجمهورية لكي يتفرغ لبناء هذا التنظيم. لكنه لم يفعل. وعندما وافته المنية، ترك تنظيماً هشاً استطاع السادات أن يحيله للتقاعد بدون إطلاق رصاصة واحدة. والسادات، هو الأخر، فشل في إقامة تنظيم سياسي قوى. فحزبه الوطني الذي أسسه لم يقل ضعفاً عن الاتحاد الاشتراكي، بل أن هذا الحزب قام أساساً على عناصر مهاجرة من هذا الاتحاد. هذا الفشل حدث بالرغم من أن السادات كان وحشاً سياسياً. والحقيقة أنه من الصعب خلق حزب سياسي من أعلى. كل الأحزاب المصرية التي خرجت من رحم السلطة فشلت.

من حق البعض أن يحلم بأن يكرر في مصر ما يحدث الآن في الصين من تحديث وتصنيع سريع في ظل الاستبداد. ولكن عليه أن يقول لنا كيف له أن يخلق مؤسسة سياسية في قوة الحزب الشيوعي الصيني، مؤسسة قادرة على تخطى المصالح الفردية وعلى قيادة وتنفيذ الانطلاقة الرأسمالية. وإذا استطاع أن يؤسس ذلك الحزب كيف له أن يضمن مساندة دولية لمشروع لن يكتفي بالقدر الحالي من الاستبداد، ولكن سيزيد منه إلى درجة غير مسبوقة. صحيح أن الدول الكبرى برجماتية، وهي مستعدة في كثير من الأحيان للتعاون مع نظم استبدادية إذا كان ذلك فيه منفعة. ولكن هي على الأقل ترفع شعارات مساندة للديمقراطية في العالم الثالث، ولو تعاونت مع مثل تلك النظم سيكون ذلك التعاون على استحياء وغالباً في الخفاء. لقد كان الحصول على المساندة للمشروعات التحديثية الاستبدادية أسهل بكثير في ظل الحرب الباردة، حينما كانت الدول الكبرى تفتح خزائنها وأسواقها بكرم شديد أمام بعض النظم الاستبدادية لكي تضمن ولائها في ظل استقطاب عالمي شديد بين الشرق والغرب. ولكن لا يخفى على أحد أن الأمر الآن مختلف. بانقضاء الثمانينات، انتهت الظروف المثالية لإقامة تحديث استبدادي عنيف. لقد ضيع أصحاب نظرية الاقتصاد أولاً فرصتهم التاريخية في الثمانينات، بل وفي أوائل التسعينات. ولكن الغريب أنهم يعتقدون بإمكانية اللحاق بالقطار الآن. فهل لنا أن نعرف كيف؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصير مفاوضات القاهرة بين حسابات نتنياهو والسنوار | #غرفة_الأ


.. التواجد الإيراني في إفريقيا.. توسع وتأثير متزايد وسط استمرار




.. هاليفي: سنستبدل القوات ونسمح لجنود الاحتياط بالاستراحة ليعود


.. قراءة عسكرية.. عمليات نوعية تستهدف تمركزات ومواقع إسرائيلية




.. خارج الصندوق | اتفاق أمني مرتقب بين الرياض وواشنطن.. وهل تقب