الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من الثورة إلى تغيير الثقافة السياسية

إدريس جنداري
كاتب و باحث أكاديمي

(Driss Jandari)

2012 / 12 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


يعيش الربيع الديمقراطي العربي؛ اليوم؛ على صفيح ساخن يهدد بقلب التوازنات السائدة في أية لحظة؛ و ذلك في علاقة بأجندة سياسوية رخيصة؛ على مستوى الداخل؛ و في نفس الآن في علاقة بأجندة خارجية؛ تسعى إلى محاولة كبح جماح المد الثوري و عرقلة مسيرته. و يزيد من تعميق الجراح أكثر؛ ضحالة التربية الديمقراطية التي تطبع ممارستنا السياسية؛ و كذلك ضعف الأداء الذي يميز مؤسسات الدولة. كل هذا كان سببا رئيسيا في سيادة هذا النمط السائد؛ اليوم؛ من الشعبوية السياسية التي لا تلتزم ابسط حدود المنطق في التواصل السياسي؛ سواء في علاقة الأطراف فيما بينها أو في علاقتها مجتمعة مع المواطنين؛ فقوى الأغلبية تتعامل مع المعارضة كرجع الصدى تسعى إلى أن توافقها في كل شيء؛ و إذا عبرت عن اختلافها تصبح جزءا من مؤامرة كبرى تهدد الوطن بكامله ! أما قوى المعارضة فهي كذلك لا تتعامل مع الأغلبية إلا بمنطق التبخيس الذي لا يعترف بأي شيء حتى و لو كان إنجازا سياسيا أو اقتصاديا ...
و هذا النمط؛ من التفكير و الممارسة؛ هو نتيجة قرون من الممارسة الاستبدادية التي قتلت في المواطن العربي؛ مسؤولا أو مواطنا عاديا؛ روح التعددية و الاختلاف؛ فالحاكم الذي تسنده أغلبية انتخابية غير قادر على التعامل مع وضعيته الجديدة من منظور ديمقراطي؛ يقوم على أساس احترام الآراء و المشاريع المختلفة؛ فهو المنطلق و المنتهى و مبرره الوحيد أنه يمثل رأي الشعب؛ رغم أن الآلية الديمقراطية لا تسمح له بتمثيل كل فئات الشعب؛ أما المعارضة فهي غير قادرة على تحقيق القطيعة مع الزمن الاستبدادي؛ بحيث لا تترك مجالا للأغلبية المنتخبة لتصريف برنامجها الانتخابي؛ فهي في اعتبارها يجب أن تسقط لتفسح لها المجال كي تتبوأ مكانها؛ و لو كان الأمر لا يتعدى حدود المؤامرة و الانقلاب .
إن الشعوب العربية؛ اليوم؛ في حاجة إلى ثقافة سياسية جديدة؛ تسندها في معركة الانتقال نحو الزمن الديمقراطي؛ و هذه وظيفة المثقف الملتزم كما هي وظيفة الزعيم السياسي الوطني؛ وظيفة تقوم على أساس تعقيم الثقافة السياسية السائدة من جراثيم الاستبداد التي علقت بها؛ على امتداد قرون؛ و هي الآن تتسلل خفية بأسماء مستعارة؛ ظاهرها ديمقراطي تعددي و باطنها تسلطي إلغائي. و لعل الأمر الخطير؛ هو أن يتحول الفاعل السياسي و الثقافي إلى داعم لهذه الثقافة؛ باعتباره المستفيد الأول من سيادتها؛ و هنا تكون الطامة الكبرى لأن الشعوب دائما على عادة زعمائها و مفكريها؛ باعتبارهم محتكرين للرأسمال الرمزي و متحكمين في توجيهه .
و لعل ما يجري الآن من أحداث؛ تهدد مسار الربيع العربي؛ هو ما يؤكد أن الرأسمال الثقافي و السياسي يجب أن يوظف توظيفا ينسجم مع طبيعة الشعارات المرفوعة؛ و كذلك ينسجم مع طبيعة المعارك الدائرة؛ باعتبار أن الهدف هو بناء مجتمع ديمقراطي يقوم على أساس التعددية و الاختلاف. لذلك؛ يبدو أن التفكير في المبادئ المؤسسة للعمل الميداني؛ يبقى امرأ في غاية الأهمية؛ و ذلك لان الممارسة الغير مستندة إلى مبادئ فكرية و قيمية؛ تبقى ممارسة عرجاء. على الأقل يمكن الإشارة إلى مبدأين أساسيين؛ يجب استحضارهما كموجهين للفعل الثقافي و السياسي الهادف إلى ترسيخ روح الديمقراطية:
• من جهة؛ يجب ترسيخ روح الكتلة التاريخية بين جميع فئات الشعب/الأمة بمختلف أديانها و مذاهبها و إثنياتها و إيديولوجياتها؛ و ذلك بهدف خدمة الصالح العام؛ من منظور أن الهدف المشترك هو تحقيق الديمقراطية و التنمية؛ و العمل عل تحصين السيادة الوطنية/القومية.
• و من جهة أخرى؛ يجب التزام مبدأ النقد المزدوج؛ في علاقته بمختلف الأطراف السياسية و الاجتماعية؛ بحيث يكون النقد بمثابة خدمة تسدى للمجتمع؛ بعيدا عن أية نزعات ذاتية ضيقة تستند إلى الدين أو الطائفة أو العرق ... و هذا ما يحول النقد من تصفية الحسابات؛ بين الأطراف المختلفة؛ إلى ممارسة تقويمية هدفها الأساس إنجاح المهمة؛ لان نجاحها يهمن الجميع.
إن التزام هذين المبدأين من شأنه أن يؤسس لثقافة سياسية جديدة؛ قوامها الموضوعية في المقاربة و الحكم؛ و كذلك التشبع بروح الانتماء إلى الوطن و الأمة؛ بمختلف التيارات الإيديولوجية و المشاريع السياسية؛ باعتبار أن الآلية الديمقراطية قادرة على الفرز بينها. و لعل غياب مثل هذه الثقافة عن ممارستنا السياسية هو الذي يسقطنا في عدم الاعتراف المتبادل؛ بحيث يسعى كل طرف إلى إلغاء الطرف الآخر باعتماد الضربة القاضية؛ باعتباره يشكل تهديدا لوجوده؛ و هذا من ترسبات ثقافة لاستبداد التي لا تعترف إلا بالزعيم الأوحد؛ و تسعى إلى تصفية كل من يعارضه باعتباره عدوا لذودا يجب القضاء عليه لأنه يهدد امن الوطن و الأمة !
إن ما يجري الآن في مختلف تجارب الربيع العربي يؤكد هذا التحليل بقوة؛ فالاختلاف ليس اختلافا ديمقراطيا بين مختلف الإيديولوجيات و المشاريع السياسية؛ و لكنه إلغاء متبادل بين الأطراف؛ يستخدم شعارات رنانة ( فوبيا الدولة الدينية – فوبيا العمالة للغرب) لممارسة الاحتيال على الشعب و إقناعه بشيطنة الطرف المعارض؛ بينما الهدف مصالح سياسية و ليس أكثر. فهل بإمكان الإسلاميين؛مثلا؛ تأسيس الدولة الدينية ضمن سياق نظام عولمي يتزايد فيه إقبال الشعوب على الديمقراطية الليبرالية ؟ و ما معنى أن يكون الليبراليون أو اليساريون عملاء للغرب؟ هل تقاس الوطنية بطبيعة الانتماء الإيديولوجي أم بطبيعة الخيارات السياسية و الاقتصادية ؟
إن روح الديمقراطية تفرض علينا؛ اليوم؛ دعم خيارات الشعوب العربية؛ و حينما نلح على الدعم فإننا لا نقصد منح التيار السياسي المتوج شيكا على بياض؛ لأن هذا يتعارض مع الممارسة الديمقراطية؛ التي تمنح المعارضة حق الاعتراض و التقويم؛ و إلا فإن الأغلبية الانتخابية يمكن أن تتحول في أي وقت إلى دكتاتورية انتخابية. لكن في نفس الآن؛ يجب على المعارضة أن تميز بين المصالح العليا للوطن/الأمة و التي لا تخضع للمزايدات السياسية؛ و بين الاختيارات الإيديولوجية التي من طبيعتها التعدد و الاختلاف؛ مما يسمح بنقدها و معارضتها .
و في هذا الصدد؛ يبدو أن تجربة الربيع العربي تقدم الكثير من العبر؛ فقد كان التتويج الانتخابي للتيار الإسلامي؛ كان مناسبة للكشف عن التناقضات التي تختبئ خلف الشعارات؛ و هي تناقضات لا تقتصر على طرف دون آخر؛ لأن جميع الأطراف؛ في ألأخير؛ نتيجة صناعة ثقافية و سياسية واحدة؛ سمتها الاستبداد و التفرد بالسلطة من طرف الحاكم؛ و في المقابل التخطيط للانقلاب على السلطة و تغييرها بالقوة من طرف المعارضة. و هذه المنهجية لا تستقيم مع الآلية الديمقراطية التي قوامها التداول السلمي على السلطة؛ بحيث يغيب التفرد بالحكم و في نفس الآن يغيب التخطيط للانقلاب؛ لأن الآلية الانتخابية توفر لجميع الأطراف حقوقا سياسية و تفرض عليهم واجبات.
و هذا إن دل على شيء فإنما يؤكد أن النجاح في تغيير رأس النظام لا يعني أبدا تحقيق الانتقال إلى الزمن الديمقراطي؛ لأن الأمر يتطلب عملا فكريا و سياسيا متواصلا؛ قد يدوم لعقود أو لقرون حتى ! و ذلك لان تغيير الثقافة السياسية السائدة يعتبر من اكبر التحديات التي تواجه أي ثورة في العالم؛ فالثورة الفرنسية استمرت زمنا طويلا حتى تتمكن من تغيير الثقافة السياسية؛ و ذلك لأنها أوصلت إلى الحكم دكتاتورا (نابليون بونابرت) لا يختلف في شيء عن ملوك القرون الوسطى؛ و نفس الشيء يمكن أن نقوله بخصوص الثورة البرتقالية (2004-2005) القريبة عهد بالربيع العربي؛ و التي فشلت نفسها في تغيير الثقافة السياسة السياسية السائدة و من ثم وصلت إلى الانهيار.
إن هذه المقاربة الواقعية للأحداث هي التي يجب أن تحضر اليوم؛ لتقود نضالات الشعوب العربية نحو الزمن الديمقراطي؛ بحيث يجب على كل فرد أو جماعة أن يشعر أنه مسؤول عن كل ما يجري؛ و بالتالي فهو مسؤول كذلك عن كل ما يصير إليه. و هذا ما يتناقض؛ بالطبع؛ مع سيكولوجيا الأطفال التي تتحكم في الكثير من كتابات المثقفين و ممارسات السياسيين؛ و التي توحي بالتسرع و الجيشان العاطفي؛ أكثر ما تستند إلى منطق التاريخ و سيرورة الأحداث ؛ بحيث يحكم الواحد منهم؛ بجرة قلم؛ على نضالات الشعوب العربية؛ بأنها نضالات فاشلة لم تنتج أي جديد بل فاقمت الوضع أكثر و حولت الربيع إلى شتاء عاصف أو خريف ذابل ! و ذلك من دون أن يستحضر هؤلاء التجارب المقارنة؛ التي تؤكد أن انتقال الشعوب إلى الزمن الديمقراطي يتطلب مجهودا ثقافيا و سياسيا كبيرا؛ يرتبط بالعمل المتواصل الهادف إلى تغيير الثقافة السياسية السائدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل تسعى إسرائيل لـ-محو- غزة عن الخريطة فعلا؟| مسائية


.. زيلينسكي: الغرب يخشى هزيمة روسية في الحرب ولا يريد لكييف أن




.. جيروزاليم بوست: نتنياهو المدرج الأول على قائمة مسؤولين ألحقو


.. تقارير بريطانية: هجوم بصاروخ على ناقلة نفط ترفع علم بنما جنو




.. مشاهد من وداع شهيد جنين إسلام خمايسة