الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يكاد الأدب أن يكون متمردًا

سهير المصادفة

2012 / 12 / 12
الادب والفن


في الواقع لا أعرف بل لا أعترف بأدبٍ غير متمردٍ، كأنه شريطة لدىَّ أن يكون الأدب متمردًا، وأن يقترب الأديب من أوراقه ليسودها فقط في حالة تمرده على معطيات واقعه وعدم انسجامه معها، لقد قرأت في سن صغيرة محاكمة حوكم بها "فلوبير" عن روايته "مدام بوفارى" في نهاية القرن التاسع عشر في فرنسا قدم فيها المدعى العام اتهامًا واضح المعالم يعتمد على النص تمامًا مقرونًا بدراسة نقدية كتبها أحد النقاد المعادين لــ "فلوبير" الذي قدم بطلته "مدام بوفارى" كزوجة خائنة تستمتع بالخيانة الزوجية، ثم رد على هذا المُدعى محامى "فلوبير" السيد "سينار" موضحًا في مرافعة رائعة تكاد تقترب من النص النقدي والأدبي الموازى للرواية أن وظيفةً من وظائف الأدب أن يلجأ أحيانًا إلى تصوير فظاعة القبح والرزيلة حتى يتحقق للنص مسعاه نحو الخير والحق والجمال، والمدهش أن مرافعة "سينار" ظلت في جيبي بعد أن انحزت لها ولتمرد "فلوبير" على كتابة كلِّ ما هو مألوف وعادى وملبي لاستقرار المجتمع آنذاك، فهل كنتُ أحتفظ بها طوال هذه السنوات حتى أنشرها في وجه عضو من أعضاء آخر برلمانات نظام المخلوع عندما طالب بمصادرة روايتي "لهو الأبالسة"؟
وإذا كان مفهوم التمرد الفلسفي بشكلٍ عام هو كلَّ ما نطمح من خلاله إلى الارتقاء بالإنسان إلى مستويات تتجاوز آفاق الخضوع لتقاليد وأعراف تنتمي إلى ماضي اضطر الإنسان إلى الخضوع لها مرغمًا جراء الاضطهاد أو القهر أو تلقينه أفكارًا بالية وغير عقلانية تفقده حريته وتجعله أداة لتكريس الجموع إلى قطيع متماثل فأنا هنا أتساءل بدوري مّنْ يضطلع بتحقيق هذا المفهوم في المجتمع سوى الأديب؟

ويظل مدهشًا أن التمرد في الأدب في العالم العربي تم تلخيصه في كسر التابوهات الثلاث الشهيرة، وأنا حقًا لا أعرف عمَّاذا أكتب إذا لم يكن عن الدين والسياسة والجنس.. إن ما يُسمى بالتابوهات الثلاث هو محور الوجود وهو سؤال الكون الأكبر.. ببساطة هو الكتابة وليس التمرد في الكتابة. وإذا ما اخترنا أبسط حكايات البشرية شريطة أن تتوافر فيها مقومات الحكاية فسنجدها لا تخلو من الدين أو السياسة أو الجنس. أنا لا أعرف عمَّاذا أكتب إذا ما تجاوزت مأزقي الحضاري والوجودي. وإذا لم أكتب عن مشاعري إزاء غروب مفردات تفوقي ومساهمتي في تقدم مسيرة البشرية، عمَّاذا أكتب إذا لم أصف كلَّ هذا الخراب فأكسر تابوه السياسة. أنا عربية أنارت حضارتها ذات يوم ظلمات أوروبا وعليَّ أن أعيش أفولها الآن، أنا أيضا ابنة حضارة فرعونية كانت مهد الحضارات ذات يوم لم يتبق لها منها شيء إلا آثار استثنائية نشاهدها بدهشة وننتظر أن يفك شفرتها الحضارية الأغرابُ فأكسر تابوه الدين وأنا أرصد سرَّ تخلفنا وغِلظتنا، عمَّاذا أكتب إذا لم أكتب عن جسدي الذي لا أعرف مكانًا تسكنه الروح حتى هذه اللحظة سواه وأنا أعمل به وأشعر به وأرى العالم كله به وأصلى أيضًا به؟ والجسد شديد التعقيد وهو جزء من منظومة كونية تستدعى معرفته معرفة كل شيء في هذا الكون وحينئذٍ سأكون قد كسرت تابوه الجنس. هل أكتب مثلاً عمَّا أعرفه ويعرفه الآخرون فقط؟ وهل ستكون هذه الكتابة وظيفة من وظائف الأدب؟
أتصور أننا لن نستطيع حتى مناقشة مفهوم التمرد في الأدب قبل أن نخطو خطوات واسعة في الانتصار في معركة حرية التعبير في عالمنا العربي لكي نرتقي دَرَجًا أعلى نستشرف منه دعوة الفيلسوف الفرنسي "ألبير كامى" حين يقول أن التمرد يحقق للحياة قيمتها وعظمتها لأنه يحرض الإنسان على التفكير وعلى اعتزازه بنفسه وحريته ودوره الخلاّق على الأرض.
وعلى الرغم من أنني في أعمق أعماقي لا أخشى على حرية الإبداع، فدروس التاريخ تعلمنا أن الإبداع دائمًا ما يجد طريقه نحو النور والخلود، وأن مَنْ يحاول أن يغلّقَ عليه النوافذ ويسجنه هو الخاسر ــ لا محالة ــ و إن كلَّ إبداعٍ تمت مصادرته أو قلمًا تمت محاولة قصفه تخطى هذا بسهولة بالغة وصمد وقفز عبْر الزمن ليصل إلى أجيال جاءت بعده بقرون، إلا أنني فقط يدهشني الآن أن البعض لم تصله هذه الحقيقة.. يدهشني أن الأوائل وفى ذروة الحضارة الإسلامية كانوا يعرفون جيدًا أن الإبداع لا تتعارض وظيفته مع رسالة الأديان، فهو يهذب الروح ويعلم ويأخذ بيد الإنسان ليرتقى الدَرج نحو الإيمان والحب والخير والجمال، كان خلفاء المسلمين آنذاك يمنحون مترجم الكتاب أو مؤلفه ما يزن أوراق كتابه ذهبًا وهذا ما جعلها حضارة كبرى ومهمة ومؤثرة في حضارات العالم.
المدهش إذًا أن الآفاق كانت أرحب، والمدهش أكثر أن المبدع العربي لا يستطيع أن يكتب بحرية كانت متاحة لمبدعي القرن الرابع الهجري وأن مَنْ يتابعون إنتاجه الآن لا يستطيعون فهم وظيفة المبدع جيدًا أو حتى فهم ما يكتب.
أرى أنه يجب علينا كبدايةٍ وضع معايير متفق عليها للتعامل مع حرية التعبير في الأدب بأقصى سرعة ممكنة وأن نعود للدعوة بالرد على الكتاب بكتابٍ وليس بمصادرته، والرد على المقالة بمقالة وليس قصف قلم مَنْ كتبها، والرد على الرأي بالرأي وليس سجن مَنْ قاله، وتفنيد الكلمات التي يعتقدون أنها متجاوزة بكلمات وليست برصاصات.
ونعم سنظل نناضل من أجل حرية التعبير والإبداع ليس فقط من أجل المبدعين، فهم كما نعرف ستظل إبداعاتهم خالدة إذا كانت حقيقية عبْر الزمن، وإنما من أجل هذا الوطن.. من أجل هوية مصر، والجميع يعرف أن حرية الإبداع والتعددية الثقافية وبالتالي التمرد في الأدب ملمح مهم ومكون رئيس من مكونات هوية مصر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل