الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فقط اجعله سعيدا

نجيب المدفعي

2005 / 3 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


كان ( د) قد سُرّح للتو من الخدمة العسكرية بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، عندما نـُسب ـ كطبيب و ضمن سياق التدرج الطبي ــ للعمل في إحدى مدن محافظة الديوانية ( و أظنها الشنافية). عُيـّن في حينها مديرا ً لمركز صحي، حيث وجد متعة في عمله ذاك و كان يصف لنا ـ عند مجيئه في الإجازة ـ المنطقة التي يعمل فيها و يتحدث عن طيبة أهلها.
و من ضمن المهام التي كان يتوجب عليه القيام بها حملات تلقيح الأطفال. و المنطقة تتنوع في طبيعتها فهناك المناطق الزراعية و هناك هور و كذلك منطقة صحراوية، و عليه التعامل مع سكان هذه المناطق المختلفة. فكان لديه سيارة إسعاف و (شختور) و هو زورق صغير مزود بمحرك للتنقل في الهور.

كان الطبيب ( د) يحكي لنا عن معاناته الإدارية في إدامة سيارة الإسعاف و (الشختور) و جعلهما جاهزين باستمرار لخدمة سكان المنطقة. و كانت معاناته تمتد إلى توفير الدواء بشكل مستمر لكي يتمكن من إنجاز مهامه على الشكل الأمثل. حتى أن القصور في توفير الأدوية كان يمتد إلى لقاحات الأطفال.
و ذات يوم و في أحد الاجتماعات الروتينية لمدير عام صحة المحافظة مع الأطباء، تطرق المدير العام إلى موضوع خطة تلقيح الأطفال و أن الوزارة قد طلبت منه موقف نسبة إنجاز الخطة.
و بدأ بسؤال الحضور واحدا تلو الآخر عن نسبة التنفيذ في منطقته فكانت الردود مشابهة لموقف ( د)، أي عدم تنفيذ الخطة على وجهها الأكمل بسبب النقص في اللقاحات. لم ترق الإجابات للمدير العام فصار يضغط، بطريقة أو أخرى، على الأطباء الذين كان يناقشهم الواحد بعد الآخر، لتعديل النسب التي قدموها و جعلها 100%.

حتى وصل الدور إلى ( د) الذي رفض الاستجابة لضغوط المدير العام قائلا (أنا مؤتمن على واجب و هو يستلزم أن أكون صادقا معك، و لو وافقتك على ما تريد فلن يضيرني شئ و لكن ما ذنب الأطفال الذين لم يتم تلقيحهم). و احتدم النقاش في ما بينهما و وصل إلى حد الصياح و التهديد من جانب المدير العام. إلا أن ( د) بقي مصرا على موقفه و قال للمدير ( قم أنت بتعديل النسبة و اخبر الوزارة بما تشاء، و لكني لن أتنازل عن موقفي). و انفض الاجتماع دون أن يتراجع صاحبنا ( د) عن موقفه.

كان من بين الحاضرين في الاجتماع أطباء هنود، حيث كانت وزارة الصحة تتعاقد مع أطباء من الهند لسد النقص في العراق. و كم كانت دهشة ( د) عندما اقترب منه طبيب هندي بعد خروجهم من قاعة الاجتماع، و الذي شهد المشادة التي حصلت مع المدير العام، ليقول له:

-Doctor. Why do you quarrel with him? Don t bother yourself.
ـ دكتور.. لماذا تتشاجر معه؟ لا تزعج نفسك.

-He does not want to hear the truth, just make him happy, and he, in turn, will make the minister happy.
ـ إنه لا يريد سماع الحقيقة، فقط اجعله سعيدا و لكي يجعل بدوره الوزير سعيدا.

-And the minister makes the president happy. Just make them happy, because the truth is not important for them.
ـ و الوزير يجعل الرئيس (يقصد صدام) سعيدا. فقط أجعلهم سعداء، فالحقيقة بالنسبة لهم غير مهمة.

لقد كان وقع هذا الكلام مؤلما على الدكتور ( د) وعلى كل من سمع هذه القصة. فهزال التركيبة السياسية في العراق كانت واضحة للقصي و الداني و الناس سبرت أغوار قائدنا (صانع النصر و السلام) و يدركون مدى الخراب الذي أصاب الشخصية العراقية على يديه. فهذا الطبيب الهندي لا ينطلق في ملاحظته الساخرة من فراغ. لقد كان معروفا لكل من يتعامل مع صدام، أن عليه إرضاء مزاج القائد حتى و إن كان ذلك على حساب مصلحة البلاد و العباد. و يبدو إن خصلة just make him happy قد رسخت في لا وعي العاملين في مختلف قطاعات الدولة و بالتمازج مع فلسفة (الشعلية = ما علاقتي بالموضوع) أنتجت ثقافة اجتماعية تتسم بعدم الرغبة في التصدي للخطأ. لا بل صارت توغل أكثر باتجاه إيجاد المبررات للخطأ و عدم التصدي له.

إن ضمان حرية التعبير عن الرأي هي أهم عنصر يستوجب توافره لتعليم الأفراد ثقافة التصدي، يضاف إلى ذلك وجود نظام رقابي نزيه و صارم يُسهّـل على المواطن التعامل معه لضمان تدفق سيل المعلومات عن حالات الخلل. كما إن شفافية أجهزة الدولة في التعامل مع الباحثين و أجهزة الأعلام لها دور كبير في جعل البيانات متاحة و بما يسهل مراقبة أداء أجهزة الدولة و تأشير مواضع الخلل.

إن عملية إشاعة ثقافة التصدي للخطأ تستلزم اشتراك عدة جهات فيها. فهناك الجانب التربوي التعليمي و الذي تتحمل وزره بدرجة رئيسية مؤسسات التربية و التعليم تعاضدها في ذلك المؤسسة الدينية و مؤسسات المجتمع المدني و الإعلام. و لا يوجد تعويل كبير هنا على الأسرة سيما و أن عدم الرغبة في التصدي للخطأ تحول إلى ثقافة اجتماعية كما أشرنا في أعلاه.

و هناك الجانب التشريعي و التنفيذي الذي يتوجب عليه سن الأنظمة و القوانين التي تكفل سهولة متابعة و محاسبة أجهزة الدولة و تعمل على حماية الأفراد في مواجهة الجهات التي تسلك مسلكا منحرفا في تعاملها مع من يتصدى لعبثها.
إن صدور عدد من حالات الملاحقة القضائية بحق بعض القيادات السياسية و الدينية في الفترة الماضية، أسهم في إزالة الهالة المخيفة التي تحيط بصورة المسؤلين و التي تجعل المواطن يعزف عن توريط نفسه في قضية خاسرة، لا بل تعود عليه بالويل و الثبور و عظائم الأمور.

وتبقى النهاية المفترضة للمسيئين، و هي المحاكمة، غائبة عن مجتمعنا في يومنا هذا. نريد أن نعرف ما الذي حلّ بكل أولئك الذين نسمع عن إلقاء القبض عليهم دون أن نسمع شيئا عن محاكمتهم. و هنا (نمون) على صحافتنا و نطالبها بمتابعة أخبار المحاكم من خلال محرريها لتطلعنا على حقيقة ما يجري. و هو أقل واجب يمكن للصحف أن تضطلع به للإسهام في إشاعة ثقافة التصدي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحزمة نارية عنيفة للاحتلال تستهدف شمال قطاع غزة


.. احتجاج أمام المقر البرلماني للاتحاد الأوروبي في لوكسمبورغ تض




.. عاجل| قوات الاحتلال تحاول التوغل بمخيم جباليا وتطلق النار بك


.. زيلينسكي يحذر من خطورة الوضع على جبهة القتال في منطقة خاركيف




.. لماذا يهدد صعود اليمين مستقبل أوروبا؟