الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحت ظلال الأرز الأطلسي

رحال إغرم

2012 / 12 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


تحت ظلال الأرز الاطلسي.
في رحاب الاطلس وبين ثنايا ومنعرجات جغرافيته الفاتنة التي تستهوي بأصالتها وجمالها الثري الملفوف بدثار اجتماعي وثقافي هادئ الطبع الى حد التماهي مع النسيان والجهل بالذات والمحيط. وعلى بساط جباله، التي ترتدي وشاحا من الارز الشامخ المتلألئ في أحضان السماء حيث العبث مع طيورها وغيومها ورياحها وأمطارها وثلوجها في نوع من ازدواجية اللهو والحرص الشديد على افتتانها والتوقيع بها عشيقة في أفق الاحتضان والمصاهرة وإعادة إنتاج الذات، على الطبيعة الفنية هذه، تنكسر أحلام وطموحات فرشات وطيور أبرياء خرجوا للتو من رحم الثلج والصقيع الشديد والبرد القارص وندرة المؤن والزاد.
لم يعد الارز وفيا لكبريائه وتبجحه بعظمته وجلالته وقوته التي لطالما ادعى بسالتها وسرمديتها، فقد انكسر عوده ومرنت صلابته وتهاوى من جوف السماء ليرتطم بحجارة وغبار الارض، و فان شبابه وخانته الاستقامة والطول وأصبح موضوع استهزاء وازدراء وشفقة وتعاطف قاطني السماء والارض على حد سواء. فعشاقه من الاعالي عابوا عليه خيانته وعدم الوفاء وبخله ونكرانه الشديد للذات وعدم الاهتمام بالاناقة والصحة والجمال الذاتي والطبيعي.
قالت السحابة السوداء، بهذا الخصوص، في غمرة من اليأس والقلق: لقد تعودنا الهجرة والرحيل من قمم البحار وأعماق الوديان في مثل هذه الاوقات من كل سنة ولم نكن قط نأبه إلى أين المقام، فعلى الدوام كنت نعم الصديق ومن فسيح قلبك تكرم الجميع وبجوف مقامك تستضيفنا وترحب بنا للمكوث طيبة لك ولنا وللاهالي أجمعين، إليك قادمون ومنك ذاهبون ومن خلالك نحيا وندوم، فهل الرحيل إذن بالرحيل؟
لم ينبس سيد ورمز الاطلس ببنت شفة، وبادر القرد الطاعن في السن من جانه إلى القول: يأيها الشيخ أنت السيد العظيم الذي أسكننا فسيح جنانه منذ زمن بعيد، أنت رمز الحياة الذي يدب في قلوب الملايين نفحات متواصلة وسديمية من عبق وعطر الحياء، أنت الذي تهاوينا وتسلقنا على صدرك وأطلقنا العنان للنوم والسبات بأحضانك الدافئة وأطعمتنا من ثمارك دون حساب ولا رقيب، أنت الحصن المنيع الذي يقينا من شر وطغيان وتقلبات الطبيعة، منك نستمد الوجود والحياء والاستمرارية، فما المصير إذن في غيابك؟
لم يتمالك الحمار الذهبي نفسه أمام كلام القرد هذا، فقد استفزه ذلك على ما يبدو، ليطلق العنان لنهيق مهترئ ومتذبذب ينقطع بين الحين والأخر ويغيب تارة ويشتد تارة أخرى، لقد خانته حنجرته الذهبية الاصيلة التي كان من خلالها ينعش أذان الاهالي بصوت نغم عذب ولذيذ اللحن يرقص كل عروش الأرز والياسمين والصفصاف البلدي مما حدا به إلى الكف عن هذه الخشخشة وبادر الى القول: سبحان الذي يبدل ويغير الأحوال ويمتع القليل بنعم الدنيا ويفقر الكثير، لطالما اشتدت تعسا وتألم ظهري كثيرا من ثقل أمثالك أيها الشيخ البئيس وعشت جوالا ليال وأيام أراوغ الأشجار وأتسلق الممرات والدروب والأزقة وأقطع المسافات الطوال وجذوعك وأطرافك متناثرة فوق بساط ظهري هدية من الأطلس النابض بالحياة الى الذئاب التي تهوى الخداع والبذخ والمؤن المجانية.
وأما الان فقد انقلبت الأمور وأضحى كل شيء عصيا على الفهم : لقد كثرت الوسائل التي تستحمل الاثقال وبالمقابل لم يعد الأرز يهوى الابحار نحو الاعالي وإظهار مفاتنه مترامية الاطراف في أحضان السماء، شامخا متعاليا بكل ثبات ورزانة وبعد في النظر والبصيرة في عمق البراري الجبلية، يركع له الجميع من حوله، يبهر بجماله كل الناظرين وبدلا من ذلك فقد ارتأى الانزواء وسط شغب الصنوبر والشوك البري والاصطفاف على جنبات الطرق وسط الكاربتوس الرومي والانكماش على الذات داخل حظائر من الكرياج الصدئ والرديء الجودة خافتا أطرافه متزاحمة مع بعضها البعض وراكعا ساجدا قربانا للهب المناشير الماكرة التي تعيث في الطبيعة خرابا.
وعلى الرغم من هذا الوضع لن أنفي بتاتا مرحي وقوة جسدي وانفعالاتي الهادئة تحت الاثقال، وفرحي وسروري الجياش بفتوة وجمال الطبيعة، كان كل شيء جميلا وجميع الكائنات ودودة ومتلاحمة مع بعضها البعض حيث يمرح الصغار ويعبثون بلبن وحليب الامهات الثري بالمعدن والنبات، ويتنافس الشباب في غمرة من النشوة والطموح نحو اقتحام السماء تماهيا بعظمة الارز الاطلسي ويبتهج الشيوخ بروية وخصوبة الارض وكرم وسخاء السماء. ربما انقضى كل ذلك ولكن الفخر والعزة ارثنا الذي لا يفنى والذي لن يجد الجيل الجديد مثيلا له على الاطلاق، لقد تحولت الندرة الى الوفرة والتضخم والخيرات والاحتكارات الواسعة النطاق على كل صعيد، بيد أن الاهالي والطبيعة لم يجنوا من ذلك سوى ثمار البؤس والالم والكلل وعدم الاطمئنان واليأس والخوف الشديد.
في خضم هذا الاحتفال الجنائزي الذي خيم عليه البكاء على اطلال ماض مجيد تمزقت تراكيبه اربا اربا، وتهالكت عظامه وتعرضت بنياته المختلفة للتعرية الناجمة عن رياح العظمة والتقدم والعصرنة الآتية من الشمال الغربي لكوكب الارض، استيقظ الحضور على إيقاع صوت تموايت عذب يخترق مسامات الجبال الأطلسية ويتسلل عبر أخاديدها ويطوف موجات على بحيرات أكلمام وتكلمامن وإسلي وثيسليت ويمتطي صهوة نهر أم الربيع وواد صرو، لينكسر على جدران من صخورها الشاهقة.
تختلط نغمات هذا الموال مع قهقهات جلمود انزلق للتو فرحا من رحم الصخور تلك، وتتشابك موجاتها مع هزات أطراف الارز التي تتذبذب نزولا وصعودا تاركة قبلات حارة على شفتاي بحيرة حيث المواشي تروي أجسادهما من الظمأ والراعي يغتسل من بقايا أشعة شمس عالقة على جسده النحيل. مشكلة بذلك لوحة فنية فريدة يمتزج فيها النحن التقليدي الاصيل المتعلق بالطبيعة حد العشق والجنون، والأنا النرجسية التي لا تكترث للأزمة التي يعيشها الجبل والارز ومن لف لفهما.
عندئذ مسك الارز الاطلسي بشاربه الطويل وقال: لقد انتهى زمن المماليك والسلاطين والاسياد والعشائر والاهالي وانفضت الطبيعة عنها غبار التقليد والاصالة وعزة النفس والعفة وغريزة الحب وفقدت عذريتها وأضحت عاهرة تستبيح النهب والمال والمكر والدهاء والخداع خدمة للمتعة بمفاتنها وثروات جسدها الموشح بدثار من الطين والصلصال والمياه، لم تعد هناك خرائط ولا حدود ولا أوطان لنا ولا لغيرنا،
لم يعد هناك شك أيها السادة في أننا نحيا عالما غريبا لم يسبق له مثيل، زماننا قد انتهى وليس للتاريخ عودة إلى الوراء، والأجيال يلاحق الجديد منها القديم ويمارسا لعبة الكر والفر ليستقر الأول في نهاية المطاف مقر الثاني، فلندعوه الى التريث وبعد النظر والتفكير عميقا في مستقبل الاجيال القادمة التي تلزم أهل اليوم بالابقاء على نصيبها من الحياء على هذا الكوكب من الفناء والانقراض...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أجواء من البهجة والفرح بين الفلسطينيين بعد موافقة حماس على م


.. ما رد إسرائيل على قبول حماس مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار؟




.. الرئيس الصيني شي جينبينغ يدعم مقترحا فرنسيا بإرساء هدنة أولم


.. واشنطن ستبحث رد حماس حول وقف إطلاق النار مع الحلفاء




.. شاهد| جيش الاحتلال الا?سراي?يلي ينشر مشاهد لاقتحام معبر رفح