الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قدمانِ مألوفتانٍ جدًّا

محمود عبد الغفار غيضان

2012 / 12 / 21
الادب والفن


قدمانِ مألوفتانٍ جدًّا

الوصف الوحيد الذي أعرفُه محاكاةً لتشقُّقاتِ قدميه اللتين لم تُوضعا طوعًا أو كرهًا في حذاء؛ هو سطح الأرض الصفاري التي فلقَ العطشُ أوصالها بعد انتظارٍ طويلٍ لدورةِ ريًّ لم تأتِ... الكرةُ الأرضية الشاسعة مؤطرة في عالمه بحدّين لا ثالث لهما؛ الغيط والبيت والطريق الذي يربطُهما... تملاُ تفاصيلَ المكانين ظلالٌ متكررة لرجال ونساء، كبار وصغار، ودواب هي أقربُ إليه من الجميع، حتى أنه لم يعد يتحدث كثيرًا مع الناس، وإنْ ردَّ التحية أو فاجأك بإلقاء السلام، تدهشك غرابة صوته الخشن، وتصرفك لوهلةٍ عن الإجابة. لم يكن يميز بين أوراق النقود رغم اختلاف حجمها الواضح، لأنه لم يُمنح فرصة اقتنائها، ولا يتذكر أحدٌ أنه رآه أمام دكاكين القرية، أو جالسًا مع صديقٍ يحتسيان الشاي، أو راكبًا سيارةً إلى المدينة.... الاستثناء الوحيد كان رؤيته على المقابر عند تشييع جنازةٍ ما... قيل إنه لم يكن يعرف بعد الخبز وما تيسر من الطعام سوى الشاي، وقيل إنه كان يحب التدخين كثيرًا لكن هناك من علمه أن أكثر من سيجارة واحدة في اليوم قد تدخله جهنم وبئس المصير... فكانت امرأةٌ يقالُ إنها زوجته تسرق بعض البيض من الدار وتشتري لأجله من الدكان القريب سيجارتين فرط أو يزيد قليلاً، وتستحلف البائع كلَّ مرةٍ أن يحفظ السرَّ عن ربة البيتِ كي لا تطردهما.

لا يعرف جسده كما لا تعرف ملابسه فرقًا بين الشتاء والصيف، الليل والنهار... يرقدُ على مشارف الترعةِ منتظرًا ساعة الري قرابة الفجر في يناير دون أدنى شكوى ظاهرة من البرد. يعودُ في الصباح الباكر إلى بيته، يصادفه الطلاب الذاهبونَ إلى المدرسةِ في مشهد اعتيادي، يمرُّ أمامهم دون كلامٍ سوى بعض همسٍ أو تندرٍ بهيئته وشكل قدميه... تقرعُ قدماه الخشنتان جدًّا الأرض بصوتٍ مسموعٍ بوضوحٍ، يتضاءل الصوتُ تدريجيًّا مع مرورٍ سيارةٍ ملاكي الفيوم يقودها رجلٌ مهندمٌ... تقفُ السيارةُ بمحازاته، يسأله صاحبها عن نوبةِ الري الأخيرة، فيردُّ بصوته غير المألوف مطمئنًا إياه أنَّ كل شيء على ما يرام. دون سلامٍ، تمامًا كما بدأ الاستيقاف والحوار، ودون إية إشارات لغوية تكشف عن هوية أخٍ يتحدثُ إلى إخيه ابن أمه وأبيه، يهرولُ صوتُ الرجل الغريب مختبئًا بحنجرةٍ يمكن دون مشقةٍ حساب عدد اهتزازات أحبالها في اليومِ الواحد... .. وتُمعنُ الإطاراتُ في دهسِ الأسفلتِ الأسود الباهت مبتعدةً، بينما تتلذذُ ذراتُ الطريق المختلطة بالتراب بالاختباء في شقوق قدميه، ليعاود صوتُ القرع الخشن المألوف الظهور مِن جديد مستوليًا على كل مساحة أمكنه اجتياحها فوق الأسفلت.

محمود عبد الغفار غيضان
21 ديسمبر 2012م
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل