الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : الأرواح المرئية

بديع الالوسي

2012 / 12 / 22
الادب والفن


على الضفة الأخرى للنهر ، وعلى ذلك التل الأجرد ، تقع قرية شورش الكردية ، التي يقيم فيها (مام  ديلمان) الذي عرف بعدم تخليه عن قريته المفجوعة بالفقر والجنون ، والتي دمرت وبعثت عشرات المرات .
الطريق طويل ، في هذا النهار الخريفي الجميل ، لم يكن أمام مام ديلمان سوى ان يسلك ذلك الدرب الترابي المنحدر بهبوط مخيف نحو بستان ( الأرواح ) .حث السير وكلابه الثلاثة معه ، وبعد نصف ساعة وصل إلى تلك البقعة الخضراء بشجيراتها التسع . رمى الصرة التي أجهدته ، وجلس على الصخرة منتظرا ً. تأخر الدرويش جعله يظن أنه قد نسى الموعد ، لذلك لم يكف عن مراقبة الشارع المحاذي للبستان .
قال له الدرويش يوما ً :
ـ رغم كل مجاهداتي لم أر الموتى إلا في الأحلام .
ـ أدري ، ماذا تريد أن تعرف ؟
ـ هل حقا ً ترى الموتى ؟
ـ إن ذلك ممكنا ً .
ـ لكني لا أراهم .
ـ سيظهرون لك إذا آمنت إنهم لم يموتوا.
 
في وسط البستان تذكر مام ديليمان ابنه شيرفان الذي انتحر قبل أسبوعين ، لم يكن يتصور أبدا ً إنه سيأخذ المسدس ذو الستة طلقات ويحشوه بطلقة واحدة ومن ثم يقوم بتدوير الأسطوانة .
 
في هذا الصباح قال لأبنته نارين التي تخجل من سذاجتها :
ـ آه ، أمامي اليوم مهمة وحيدة هي غرس الشجيرة التي ستسكنها روح شيرفان .
هنا سألته متنهدة ً :
ـ وهل سيعود ؟.
قال بصوت واهن :
ـ يجب أن لا نتخلى عنه .
أعادت عليه السؤال متوقعة ً أن يبادر بجواب جديد :
ـ ولكن ما تبغي من وراء ذلك ؟
صمت مطولا ً لكنه أخيرا ً قال لها تلك العبارة التي امتزجت بدموعه :
ـ حين ننجز ذلك نعيد التوازن إلى أرواحنا ، حينها فقط نحس إننا بحال أفضل .
في تلك البقعة الخضراء والمسكونة بتسعة أرواح والمحفوفة بصخور تشبه الديناصورات الجاثمة ، كانت الكلاب تلهو وتتهارش ، وبتلك المجرفة المكسورة حاول جاهدا ً شق تلك الحفرة التي لا تشبه سوى قبر ، تذكر كيف ان أبنه تحدى الجميع غير آبه بالموت ، فوجه المسدس إلى رأسه وسحب الزناد ، حينها كان ملاك الموت له بالمرصاد .
الحفرة تكبر وتكبر ، فجأة ً ، رفع رأسه حين تعالى نباح الكلاب التي انطلقت نحو الشارع ، نهض بقامته وصرخ بغضب :
ـ أيتها الكلاب اللعينة دعي الغريب وحاله .
صار الرجل يداعب الكلاب وكأنه يعرفها وتعرفه ايضا ً ، تنحى عن الشارع ليتجه ويخترق البستان ، فجأة ً صرخ مام ديلمان ذو السبعة والسبعين عاما ً :
ـ مًن شيرفان !؟
عيناه لم تصدق ما يرى ولا عقله ، مع ذلك فتح له ذراعيه ، فركض ابنه ذو الخمسة والثلاثين عاما ً وطوقه معانقا ً .
يا له من عناق ، فكر الأب مستغربا ً، فهو يعرف جيدا ً أن شيرفان وطيلة حياته لم يعانق أحدا ًسوى هيفين .
بدا الابن متعبا ً ، وأحس الأب حين احتضنه أن ملابسه قد بللها مطر خفيف رغم الأجواء المشمسة طيلة النهار .
فرت المفردات من ذهن مام ديلمان ، حتى انه  حينها لا يدرِي لماذا لم يتمكن من أن يقول له : إن يومه يحمل أكثر من معنى ، وإن مهمته تسهم في ترميم الوشائج . تجاهل كل ذلك وابتسم ، محاولا ً أن يشكو له صلابة الأرض الجبلية وما يعانيه بسبب الحفرة التي استنزفت قواه .
حتى سأله شيرفان :
ـ ستستضيف روح مَن هذه الشجرة؟
حينها تشجع واعترف له وهو يبكي ويضحك :
ـ هي لك ، والله لك.
ابتسم الابن ساخرا ً وهو يراقب مشهد الغيوم التي بدأت تتكور وتساءل:
ـ نحن متيقنون من أن دود المقبرة سيتدبر أمرنا ، ولكن لماذا تتعجل بمنيتي ؟.
ـ كل شيء جائز ، ولكن صدقني ، حضورك الآن لا يستوعبه الآخرون .
بينما مام ديلمان ينظر بدهشة إلى ابنه ، محدقا ً بعينيه ، استغرب كون لونهما  يشبه لون الفستق ، فشعر بالحيرة ، لأنه يعرف جيدا ً أن عينيه تشبهان لون السماء .
ترك الأب التفاصيل والاختلافات الطفيفة ، وافترشت شفتيه ابتسامة تنم عن الرضا ، فرك عينيه ، ليجد نفسه بغتة ينزلق و يغوص بتلك الزوبعة التي أحالت حياتهم الى جحيم ....
 
يعرف الجميع وحتى أطفال شورش المجانين أن شيرفان هام وجُن بهيفين وأن أهلها لم يباركوا ذلك الحب ، وكانوا يتمنون قتله لاعتقادهم أنه سلب عقل أبنتهم بدهائه الشيطاني .
بعدها زادت المتاعب شيئا ً فشيئا ً ، نصحه الدرويش واعظا ً :
ـ قبل أن تموت يا شيرفان، عليك بترك هذه القرية ، فالعالم اكبر مما تتوقع .
 
كان مام ديلمان يستمع الى الصوت المتقطع لولده ، أراد أن يسأله : لماذا زرعت في أحشاء هيفين جنينا ً ما دمت قد عزمت ان تواجه مصيرك كمجنون .
صمت شيرفان المتعطش للحياة  ، وبدت على ملامحه علامات القنوط والوحشة كأنه قد أتى من عالم دبق ورطب ليقول كما قالت أخته نارين يوما ً :
ـ لماذا أورثتنا الفقر والجنون يا أبي ؟
كان الأب مُطأطئاً الرأس ينظر إلى الصرة التي حشيت بأسمال وحذاء شيرفان والتي قرر أن يدفنها ويقيم عليها تلك الشجرة ، لم يكن يعرف بماذا يجيب ، حاول كل جهده ان يستحضر ردا ً يُبري ساحته ، لكنه جثا على ركبتيه ، مرددا ً :
ـ كان الأجدر بي أن لا أتزوج ، كي لا تتحملوا كل ذلك .
لكن شيرفان كان أكثر صبرا ً وعطفا ً ، حاول مواساة أبيه بكلمات جعلته يستعيد ابتسامته :
ـ لا تبالي يا أبي ، أتينا إلى هذا العالم وانتهى الأمر .
 
نعم ، مام ديلمان حاول ان ينتشله من تلك الحماقة ، جاهد في السنة الأخيرة عشرات المرات كي يمنعه أو يحيده عن ذلك المصير ، لكن وكما قال الدرويش : إن الشيطان لم يترك له سوى ذلك القرار . في الأشهر الأخيرة كان الأب يستيقظ كل صباح ويبتسم وبمحبة يقول له : هل أنت بحال أفضل .
دائما ً، و بعينين غارقتين بالدهشة يجيب شيرفان : أسأل نارين ، أنها تعرف إني فقدت الأمل .
في ذلك المساء ، رأى الأب أبنته تبكي بعد أن قرأت آخر فنجان قهوة شربه شيرفان ، نعم ، رأت صورا ً معتمة و قدرا ً مشؤوما ً ، ربما لذلك لطمت صدرها وهي تصرخ :
ـ سترك يا رب .
عندما زارهم الدرويش كانت حالة شيرفان تزداد سوءا ً ، اشتد به الأرق لثلاث ليال ٍ ، أحس إن حالته تتطلب قرارا ً جريئا ً ، انحنى على الدرويش ، قائلا ً :
ـ اعرف إنك  تحبني وستمشي في جنازتي ، لا تنسى أن تدس المسدس في كفني .
نهض الأب متشبثا ً بالأمل ، وهو يرى الكلاب قد هدأت ، وصارت تصغي لهم ، متوقعا ً أن كل ما حدث لشيرفان لم يعد سوى كابوس قد تغلغل الى أعماق عقله الواهن . هذه اللحظات زادته إيمانا ً ، صار قلبه كقنديل يتوهج ، شعوره بالغبطة دفعه أن يقول لابنه  الذي حضر لنجدته :
ـ ما دمنا على قيد الحياة فكل شيء يهون ...
صمت ثم أردف
ـ لكن والله اذكر جيدا ً أن الدرويش ساعدني بحمل التابوت ووضع على قبرك صخرة بيضاء .
أسترق الأب نظرة ً حوله ، عسى أن يحضر الدرويش ويقاسمهم هذه اللحظات التي ربما تنتهي دون أن نفهم لماذا بدأت ، أقتنع أخيرا ً، حتى لو لم يحضر يجب عليه أن يحافظ على تفاؤله ، بدأ يحس إن ذاكرته قد أهيجت ، وراح يثرثر عن الأمل واليأس في آن واحد ، شيرفان ذو العينين الفستقيتين وجد بكل هذه التفاصيل ما هو مسلي ، وكأنه يسمعها لأول مرة . جلس قرب تلك الحفرة متأملا ً وجه أبيه الذي صار يتصبب عرقا ً دون ان ينبس بأي كلمة ، متذكرا ًشقائق النعمان وبطولة أبيه حين اصطاد أرنبين بريين وثلاث قبجات ، في ذلك اليوم أتت هيفين وكانت المصادفة ، ومن فرط فرحها رقصت معه بخفة حول النار حتى احمر وجهها .
قال الأب : رؤيتك الآن تربكني ، هل تفهم ذلك ؟
ـ آه .. ماذا افعل كي اثبت لك ان الموت لم يطلنيِ .
خفض مام ديليمان رأسه ، محاولا ً ان يعيد ترتيب ما حدث .
ـ كيف ، كيف ، قبر مَن اذن ، أنا و نارين والدرويش قد حفرنا .
ـ يا أبي ، حين نطعن في السن تختلط الحقائق في أذهاننا .
تكدر وجهه وجحظت عيناه ، كمن ينتبه إلى نفسه وقال بصوت خرج من اعماق روحه :
ـ تعني إني مصاب بالخرف !.
شعر شيرفان بصعوبة كبيرة قبل أن يقول :
ـ ربما .
واكتفى بأن طلب من أبيه أن لا يحملق به بنظرات الشك . لكن عيناه ذرفت الدمع وارتجفت عضلات وجهه بالغيظ  حين قال له أبوه وهو مقطب الجبين  :
ـ نعم ، قتلوا هيفين ورموها هي والجنين الذي ملأ بطنها في ذلك الشق السحيق .
تداعى شيرفان ، وتمتم وبدت على ملامح وجهه سورات الغضب والانتقام :
ـ  سفلة ، فعلوا كل ذلك في غيابي ؟
ارتبكت روح الأب وهو ينظر الى ابنه وكأنه استلم النبأ لأول مرة ، ولم يتحمل الكارثة ، فهرب مهرولا ً صارخا ً كالمسعور:
ـ اذا كان ما تقوله صحيحا ً، اللعنة عليهم جميعا ً.
هذا المساء ، الشمس لونت الغيوم المتناثرة بالحمرة ، ولم يبق للأب من أمل سوى العويل : عليك أن تخاف الله يا شيرفان .
أرجأ غرس الشجرة وأمرها حتى يتحقق مما يجري، عاد كي يخبر ابنته بالنوايا التي ستثقل كاهلهم .
وهو في طريق العودة مر من أمام شجرة اللوز المعمرة ، تأمل مطولا أغصانها اليابسة ، رأى غرابا ً يفر منها ، رغم التعب النفسي توقف وحدق لثلاث دقائق بالشمس التي صارت تشبه برتقالة هائلة بتوهجها .
وهو يحث الخطى لاهثا ً ، توقف واستراح على صخرة بيضاء ، فرحه وعثوره على أبنه ولو لساعات أعاد الراحة الى نفسه والصفاء الى ذهنه .
على امتداد سنوات عمره الماضية ، وما حملته من كمد وفرح ، لم ينس كومة القش وزوجته التي تحولت روحها قبل ستة أعوام إلى شجرة ، كانت جالسة قرب البئر وهي تنظر إلى السماء وتخاطب نارين بمودة ، حينها كان يسمع كلماتها ويضحك :
ـ يا حبيبتي ، الله لا يحب العوانس ، إذا جاءك النصيب لا تترددي .
غير إن نارين قالت بجزع :
ـ آه يا أمي ، من أين يأتي هذا النصيب وجميع الرجال حمقى .
حينها ، اكتفى بهز رأسه وهو يردد :
ـ أن البشر رغم حماقتهم طيبون .
 
ما أن وصل الى القرية حتى خيم الليل ، سمع الأطفال يرددون اسم شيرفان ، دفع باب كوخه ، وانطلق يسرد بفرح لنارين ما حدث في بستان الأرواح ، بتوتر قال :
ـ نعم ، انه ذهب ليأخذ بثأر هيفين .
لكن ابنته لم تبال بكل ذلك وبصوت خجول وهادىء قالت :
ـ هل أعد لك قدحا ًمن النعناع قبل أن تنام يا أبي .
أراد الأب العجوز أن يبكي ، رفع جبينه وركز عينيه بها :
ــ لا تصدقين ؟
ـ أصدق ماذا ؟
قال بمرارة :
ـ إذا لم تصدقيني ، اسألي الكلاب إنها رأت وسمعت .
ـ يا أبتي ، قرية شورش تصدق خرافات كثيرة ، لكن عقلي على الرغم من سذاجته لا يتصور ذلك ، هيهات ان يعود من دفناهم .
حينها أعلن عن غضبه وصرخ بوجهها :
ـ إذن أنت أيضا ً تعتقدين أني رجل خرف .
فقالت نارين بشفقة :
ـ ، ارحم حالك يا والدي، بالله عليك أكتم الحكاية ولا تقلها حتى للدرويش .
هنا غطى جسده النحيل بمعطفه الفضفاض الكامد اللون ، وهز َ رأسه قائلا ً كمن يكلم نفسه :
ـ أنت على حق ، لكني رأيت شيرفان كما أراك الآن .
بعد أن نامت نارين بفستان العرس ، أطفأ مام ديلمان الفانوس ، ولم يغلق الباب بالمزلاج تلك الليلة ، شعر بالسلوى لأن الأرواح المرئية كانت تطوف حوله ، أما أهالي القرية المصابون بالفقر والجنون فقد واصلوا تناسلهم في عتمة الظلام .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام


.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد




.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش


.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??




.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??