الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوم تركنا البلد

بدر الدين شنن

2012 / 12 / 24
الادب والفن


اعتدت النوم حوالي العاشرة ليلاً .. لكن هذه الليلة اختلف الموعد عن المعتاد . فبعد أن بدأت أهيء نفسي للنوم ، بتوجيه التلفاز بعيداً عن المحطات العربية المقززة للنفس بأخبارها عن الحروب والدمار ، والانفجارات والأشلاء المتناثرة ، وبتناول الدواء المساعد على النوم .. وقبل أن أطفيء النور والتلفاز .. رن جرس الهاتف . قلت في نفسي .. خير إنشاء الله .. ترددت برفع سماعة التليفون . لكن الذي على الطرف الآخر ترك الرنين المزعج يتواصل .. تعبيراً عن رغبته الملحة بالتكلم معي . أزعجني ذلك .. وأحرجني . رفعت السماعة وانتظرت من مهاتفي أن يبدأ الكلام . وبالفعل بادرني قائلاً :
- ألم يصلك الخبر بعد ؟ ..
قلت :
- أي خبر ؟ ..
قال :
- خبر موتي .
حسبته يمزح .. وقلت له :
- هل الآن وقت مزاح .. وبهكذا مزحة ؟ ..
- أنا لا أمزح .. وهل سمعت يوماً .. أن هناك أمواتاً يمزحون ؟ ..
فكرت .. ربما هو سكران .. أو مشوش التفكير بشيء آخر . فأردت مسايرته ، وإنهاء الحديث معه .. قلت له :
- الله يرحمك يا أخي .. غداً نلتقي .. تصبح على خير .
رد علي بانفعال واضح : - هل تأخذني على قد عقلي .. أنا بالفعل قد مت ..

فاضطررت لمسايرته وتابعت معه :
- ومتى وكيف حدث ذلك ؟ .
- لا أعرف .. منذ مدة طويلة وأنا ميت دون أن أدري .. وفجأة اكتشفت أني ميت ..

وصممت على إنهاء الكلام معه قائلاً :
- كفى أرجوك .. أريد أن أنام .. تصبح على خير ..
أجابني والأسى غالب في نبرة صوته :
- حتى أنت يا أبو زياد ..
- حسناً .. سأتصل بك غداً .
- لاتستطيع ..
- إذن سأزورك على قبرك .. أين دفنوك ؟ ..
- لاأعرف .. لعلي لم أدفن بعد .
- سآتي إلى منزلك ..
- أي منزل يا أبوزياد ؟ ..

ووجدت نفسي متوتراً .. وأردت أن أنقل حديثنا إلى مستوى من الجدية والجدوى .. فقلت له :
- مذا تريد بالضبط ؟ ..
رد وكأنه يبكي :
- أريد أن أودعك .. لأنني لاأعرف متى أدفن ..
- وهل يصح ذلك بالتليفون ؟ ..
- ولم لا .. ألم نودع بعضنا مرات ومرات .. يوم تطوعنا بالمقاومة في حرب السويس .. وأيام الحصار .. وعندما كانوا يأخذوننا في الصباحات السوداء .. ونتصور كل مرة .. أننا لن نرى بعضنا بعدها ؟ ..
وأغلق التليفون من طرفه .. وتركني حائراً .. عاجزاً عن النوم .. أفكر به .. وبموته .. وبحديثه معي وهو ميت ..

ماذا كان يريد أن يقول أبو صبيح .. ماذا كان يريد أن يبوح به ولم يستطع .. هل سيطر عليه الاكتئاب إلى هذه الدرجة .. وهو الذي كان في الزنزانة يدندن أشعار الشوق لحبيبته ؟ ..
لا .. ليس الأمر كذلك . هناك شيء آخر .
خطر لي أن أتلفن له .. لأستوضح منه لماذا يخبرني بموته . ثم استبعدت ذلك حتى لا أثقل عليه أكثر مما هو عليه .
وضحكت بصوت مسموع لما خطر لي .. ماذا سأفعل بأبي صبيح إذا التقيت به غداً ..

لما التقيت به .. وجدته معافى .. وليس به ما يدل أنه في حالة مهددة بالموت . رحب بي قائلاً :
- أهكذا تحدثني لما أخبرتك أني قد مت ؟ .
- تستأهل أكثر من ذلك .. لأنك تحدثني وأنت تدعي الموت
ابتسم وقال :
- صدقني أنني قد مت .. وأنت مت أيضاً . ألا تشعر بالموت مثلي ؟ .
احترت فيما أرد عليه . الواضح أن ابو صبيح في مأزق . أردت أن أركب سؤالاً إليه دون أن اثير عنده أي إزعاج . وقبل أن أطرح السؤال ، بادرني هو :
- ليس للموت العضوي أي علاقة بجسدي .. أفهمت ؟ ..
- لكن ما المشكلة ؟ ..
- المشكلة أن موتنا الآن نهائي .
- وهل هناك موت مؤقت وموت نهائي ؟ ..
- نعم نحن قد متنا مرات ومرات .. هل أنساك صخب الحياة هنا ، حياتنا ، ومعاناتنا هناك ؟ .. ألم تقل أنت عندما صرنا بلا حرية أننا متنا ؟ .
قلت :
- هذا صحيح .
- ألم تقل عندما ركلونا والدم ينوف من جسدينا إلى داخل الزنزانة أننا متنا يا أبو زياد ؟ ..
- نعم قلت .
- ألم تقل أنت عندما وصلنا إلى هنا في المنفى .. أننا متنا يا أبو زياد ؟ ..
- قلت .

وصمت أبو صبيح ساكناً .. حزيناً .. وأبعد عينيه عن صورة القلعة الشامخة المعلقة على الجدار .. وراح وهو يغالب الدمع الذي ينفر من عينيه .. يتذكر طفولتهما ، لما كانا يمران من حول القلعة في الطريق إلى المدرسة . ومسح بكفيه وجهه المبلل بالدموع وقال :
- لقد حولوا البلد إلى دمار .. لقد قتلوا الفرح في عيون الأطفال .. وأبكوا بردى والفرات وأبو فراس وسطان ..
وتابع يقول :
- أتعتقد أننا نحيا هنا في المنفى .. ؟ .. لقد متنا يوم تركنا البلد للعابثين واللئام يا أبو زياد .. ومتنا يوم تركنا البلد إلى المنفى .
وقال :
- لكن موتنا النهائي هو .. أننا لن نتمكن من العودة إلى البلد يا أبو زياد .. سواء بقي من هربنا من ظلمه .. أو جاء بديل ظلامي من بعده . ولهذا أعلنت موتي ..

وبينما كان أبو صبيح يسترسل في توصيفاته البائسة لما جرى في حياتنا .. المقتولة حرية في البلد .. والمقتولة غربة في المنفى .. والمقتولة وجوداً في البديل الدموي .. تزاحمت في مخيلتي الذكريات والمشاعر الأليمة .. وتساءلت في نفسي .. هل فقدنا حقاً .. إمكانية العودة إلى البلد .. ألا يمكن أن نتحدى موتنا .. ونتجدد .. ونحيا .. ؟ ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أون سيت - الأسطى حسن .. نقطة التحول في حياة الفنان فريد شوقي


.. أون سيت - أولاد رزق 3 .. أعلى نسبة إيرادات .. لقاء حصري مع أ




.. الكاتب علي الموسى يروي لسؤال مباشر سيطرة الإخوان المسلمين عل


.. بيت الفنان الليبي علي غانا بطرابلس.. مركز ثقافي وفضاء إبداعي




.. العربية ويكند | جيل بايدن تقود الرئيس بايدن إلى خارج المسرح