الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صعود الصين و الثورة المعرفية الجديدة .

جلال خشيب

2012 / 12 / 25
السياسة والعلاقات الدولية



ارتبط عالم الأفكار طيلة التاريخ البشري بعالم السياسة و بوضع الهيمنة التّي تكرسها القوة الشاملة لإمبراطوريات التاريخ القديم و الوسيط أو الدولة العظمى فيما بعد ، لذا فما إن تفرض قوة ما وضع الهيمنة على البقية إلاّ وتأخذ مفاهيمها وفلسفاتها -المنشئة لها- طريقها إلى الرواج بعد جهود حثيثة بُغية إيجاد ما يؤصّل لعراقتها و يضع تاريخها و أفكارها مركزا للعالم .. فبسيادة الإمبراطورية الرومانية و قبلها الهيلينية سادت الأفكار اليونانية القديمة وما تبعها من مدارس ، وبسيادة سلطة الكنيسة عرف العالم القديس أوغسطين و الفلسفة الوسيطية ، وبهيمنة دولة الخلافة الإسلامية بزغت الرشدية و التصوف الإسلامي .. و مع عصر الأنوار و عودت الكّفة إلى أوروبا عرف العالم أيقونات فلسفية جديدة لا تزال تشكل بأفكارها آراءنا عن الوجود والعدم إلى اليوم .. و مع اعتلاء الولايات المتحدة هرم الكون شهدنا ميلاد البرغماتية الجديدة كإحياء لفلسفة ديوي و مطرقة إيمرسون القديمة ... اليوم ومع انتقال رياح القوة شرقا باتجاه آسيا والصين على وجه أخص سيعرف العالم في المستقبل القريب نشاطا فكريا فلسفيا شرقيا و سيصطبغ العالم بفلسفة لاوستو و كونفوشيوس و سان تسو و كذا زراديشت و براهم و بوذا ... ستعمل هذه الإمبراطورية حتما على الترويج لذاتها و سيُعاد قراءة التاريخ من جديد ، سينشط المنهج الجينيالوجي والآركيولوجي في البحث والتنقيب ليُسلط الضوء على الجوانب المظلمة المهمشة في تاريخ البشرية العريق بعد قرون مديدة من المركزية الغربية ... فمع الكشوفات العلمية والتكنولوجية المتتالية وما تتيحه الدراسات المعاصرة من مناهج بحثية أكاديمية في ميدان العلوم الاجتماعية و الإنسانية عموما نرى أنّنا مقبلون على ثورة معرفية فلسفية جديدة لم يشهد لها تاريخ البشرية مثيلا من قبل ..
قد يجادل أحدهم ويلفت نظرنا إلى اضطرابات السياسة ومفاجئات التاريخ و كلاهما يجردنا من عامل اليقين في قراءتنا لما يحمله المستقبل من مفاجئات ، قد يكون عامل المفاجأة عاملا فاعلا يحكم مجرى التاريخ و يُعّد بدوره عائقا كبيرا أمام أي دراسة جدّية تستشرف المستقبل .. إطلالة خفيفة على نافذة التاريخ الحديث من شأنها أن تعطينا فكرة متواضعة عن ذلك ، فقد كان العالم بعد الحرب العالمية الأولى ينتظر سلاما أبديا مع اندحار ألمانيا وحلفاءها و انتصار الفرنسيين ومن ثَمّ سيادة معايير الديمقراطية ونبذ الحرب مع عصبة الأمم ذلك التنظيم العالمي الذي حاول روّاده إحياء أفكار المُثل الكانطية عن الإخاء والسلام العالمي ، ساد الشعور آنذاك أن العالم يتجه صوب جزيرة من الوئام و حقبة أبدية من السلام الأبدي و لكنها لم تكن في الحقيقة سوى استراحة محارب جدّدت فيها ألمانيا دروعها واستعد فيها الحلفاء لجولة جديدة انتهت معها أماني البشرية في بلوغ المسعى الكانطي للسلام الديمقراطي ، ها هي ألمانيا تكتسح أوروبا وتصل بجيوشها إلى حدود الروس ، لم يكن العالم آنذاك يتصور سوى جزمة جرمانية غليظة تخضع لها رقاب الجميع في مستقبل قريب ، وها هي التوقعات تُخطأ من جديد وينقلب الميزان لصالح الحلفاء مع دخول الولايات المتحدة طرفا في الحرب .. تكرّر المشهد مرة اخرى بعد حوالي أربعين سنة من ذلك اليوم ، أطراف كثيرة توقعت أن يكون نهاية الاستقطاب الثنائي بين المعسكرين الأمريكي و السوفياتي نهاية مأساوية تجرّ العالم إلى كارثة حقيقية ، ولم يكن أحد يتوقع سقوط "إمبراطورية الشر الأحمر" بعامل سُلطوي إرادي داخلي مع حمامة سلام بيضاء اسمها غورباتشوف أنهت حربا باردة بسيناريو غير متوقع .. بعد حقبتين متتاليتين لرئيس العولمة في البيت الأبيض صبّت التكهنات حول صورة العالم الجديد في خانة التعددية القطبية المحتملة مع بروز قوى مدنية عظمى جديدة كما تُسمى ، قوتها المركزية تكمن فيما تتحكم فيه من اقتصاد و تبادلات تجارية عالمية ستفتح العالم أمام كتل اقتصادية تعددية متنافسة .. جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر بعد ذهاب عرّاب العولمة الرئيس كلينتون ليقول عنها المؤرخ الأمريكي الشهير بول كيندي أنّها قد منحت الولايات المتحدة خمسين سنة جديدة تتربع فيها على عرش العالم .. من كان يتوقع جو صبيحة الحادي عشر من سبتمبر ؟ لم يكن جوا ربيعيا مشمسا بالطبع .. و هل كان بول كيندي يتوقع رد الفعل الأمريكي تحت سلطة المحافظين الجدد و ما تسببوا فيها لأمريكا العظمى من انتكاسات ؟ نعتقد أنّه تراجع فورا عمّا ذهب إليه بعد مشاهدته أداء المحافظين الجدد في العراق و شرقهم الأوسط الجديد .. هل كان المستشرفون يتوقعون شذوذ التاريخ ؟ هي أمثلة حديثة تعطينا فكرة عن إجابة تبدو راجحة لكل مستبصر .. لذا فكلامنا أعلاه عن بروز الصين لا يرتقي الى مستوى الدراسة المستقبلية طبعا فذاك مجال صعب المسالك له أدواته المعرفية الخاصة لذا كان كلامنا مجرد تصور عن امكانية التحول المعرفي الذي سيعرفه العالم اذا ما هيمنت الصين على بنية النظام الدولي ... التوقعات بخصوص بنية النظام الدولي الجديدة متباينة جدا تبعا لمشارب الباحثين .. هناك من يرى بالتعددية القطبية ، وهناك من يرى بدخولنا الوشيك إلى ثنائية قطبية كثنائية الحرب الباردة و هناك من يُنظّر لفكرة المنظومة القطب ، و هناك من يرى بأن النظام القادم سيكون لا قطبيا تشيع فيه الفوضى القروسطية في نمط جديد .. على كل حال ليس موضوعنا هنا بالضبط ... لكن ما يبدو مؤكدا في لحظتنا الآنية ، لحظة كتابة هذه الأسطر على الاقل وفقا لمعطياتنا الحالية و كذا استقراءً لدروس التاريخ أن الصين تقف بجبروتها على أرضية صلبة كقوة صاعدة و تعديلية ايضا أو ثورية على حد تعبير كيسنجر مما سيحدث تحولات ملموسة على بنية النظام الدولي المتشكل .. لم تقضي حربين عالميتين على ألمانيا و اليابان نهائيا وها هما يقفان اليوم كقطب عالمي يُحسب له ألف حساب ، لم تقتلع رياح البروسترويكا قصر الكريملن العتيق من الجذور بل نراها أنتجت دبّا روسيا يتعافى من جراحه يوما بعد يوم ، انكمش على ذاته ليتوسع من جديد ، كما لم تنهار الإمبراطورية الامريكية وتندثر من الوجود بسبب أداءها الفاشل في العراق و الشرق الأوسط و تعاملها السيئ مع ملفات عالمية أخرى وستستمر في التأثير على مقدرات العالم عقودا قادمة كقوة كبرى ولو بأداء أقل تأثيرا كما يذهب الكثيرون .. لذا و مهما سيحمله المستقبل من مفاجئات –من صنع البشر- فسيعرف العالم نتيجة تحولات كثيرة طرفا جديدا في معادلة التنافس الدولي اسمه الصين ، و إذا ما صبّت هذه التحولات الجديدة في صالحه فسيشهد العالم تحوّلا معرفيا تاريخيا كبيرا .. و أخيرا سيتحدث العالم الصينية .

جلال خشيب : مهتم بالدراسات الدولية والإستراتيجية ، الجيوبوليتيكا و الفلسفة السياسية ، قسم العلوم السياسية و العلاقات الدولية ، جامعة منتوري قسنطينة / الجزائر .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الفرنسية تفرق محتجين اعتصموا في جامعة السوربون بباريس


.. صفقة التطبيع بين إسرائيل والسعودية على الطاولة من جديد




.. غزة: أي فرص لنجاح الهدنة؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. دعوة لحماس من أجل قبول العرض الإسرائيلي -السخي جدا- وإطلاق س




.. المسؤولون الإسرائيليون في مرمى الجنائية الدولية