الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقمة الامطار في العراق

سهر العامري

2012 / 12 / 26
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني



كان العرب يتفاءلون خيرا بهطول الامطار ، فهي سبب الخضرة والنماء ، ولم يقفوا عند هذا الحد بل دعوا الى أن تسقي تلك الأمطار الأرض التي تحل بها قبور موتاهم مثلما يقول متمم بن نويرة في أخيه مالك :
سقى الله أرضا حلها قبر مالك * * ذهاب الغوادي المدجنات فأمرعا
كتبت بعد خروجي من العراق ، وكنت قد زرته بعد اثنتين وثلاثين سنة ، أن القوم الحاكمين هناك لا يملكون رؤية واضحة في إدارة الحكومة والحكم ، وكل زائر للعراق مثلي يتلمس هذه الحقيقة من خلال سيره في شارع ما ، أو مراجعته لدائرة من الدوائر فيه ، فالشوارع تحولت الى حفر وبرك ، والدوائر الى فوضى وقصور في العمل ، والجيش تحول الى شرطة داخل المدن وخارجها .
كان سبب ذلك واضحا ، فالدولة العراقية انهارت بكل مؤسساتها بعد الاحتلال الأمريكي للعراق ، وقد حلها الخطأ بدل الصواب ، وصار القوم الذين يديرون الحكم فيها يجانبون الصحيح والقويم من الفعل ، فهم على جهل بالحكومة ، ونقص بالمؤهل ، وانعدام في الخبرة ، وصار الواحد منهم ينظر الى المنصب على أنه غنيمة يجب أن يستأثر فيها دون غيره ، فقد سمعت مسؤولا في تلك الدولة يقول : جئنا نحن الى الحكم من أجل تعويض "المجاهدين" والمجاهدون عنده لون واحد ، وليس الألوف من العراقيين الذين جاهدوا أكثر مما جاهد الرجال الذين يعنيهم هذا المجاهد ، ونسى هذا المسؤول أن المجاهد الأول هو الشعب العراقي الذي تعرض للظلم والاضطهاد على مدى عقود من الزمن .
تحت منطوق نظرية : تعويض المجاهدين ، ضاعت الدولة بعد أن عوض المجاهدون بمناصب حكومية هم ليس أهلا لها أبدا ، وإنما وصلوها عن طريق شهادة مزورة ، أو عن طريق شهادة من كتاتيب دينية لا يرقى تحصيلها الى شهادة المدرسة الحديثة لا في القيمة العلمية ولا في الاختصاص ، ومن هنا صار الجهاز الإداري في العراق أعمى لا يفرق بين الخطأ والصواب ، أو بين الصالح والطالح ، فضاعت أموال الشعب ، وصارت نهبا للسراق من متحيني الفرص .
انتدبت أنا للعمل في القطر الجزائري مع ثلاثمئة مدرس ومدرسة عراقي وعراقية ، كان الهدف من انتدابنا هو المشاركة في عملية تعريب الثانويات الجزائرية ، وكان هذا بعد سنوات قليلة من طرد المستعمرين الفرنسيين ، وبزوغ فجر انتصار الثورة الجزائرية ، تلك الثورة التي نهض فيها الفلاحون في الأرياف بالدرجة الأولى ، وكانوا هؤلاء على حظ قليل من التعليم أو أن البعض منهم لا يعرف القراءة والكتابة ، ولكن الجميع كانوا يسمون بالمجاهدين كذلك.
ظهر وقتها سؤال صعب : أين يذهب هؤلاء المجاهدون بعد الانتصار ؟ هل تسلمهم حكومة الثورة مناصب مهمة في الدولة ، وهم لا يحملون مؤهلات لذلك ؟ هذا في الوقت الذي كان فيه جهاز الدولة الجزائري في تطوره وانتظامه يوازي تطور وانتظام الجهاز الفرنسي ، فقد اعتبر المستعمرون الفرنسيون أن الجزائر هي فرنسا ما وراء البحار ، فكيف لمجاهد متدني التعليم ومنعدم الخبرة أن يدير ماكنة جهاز إداري ارتقت به العقلية الرأسمالية الفرنسية مراحل متقدمة في العلم والمعرفة ؟ ولهذا وجدت حكومة الثورة أنه من الحكمة أن تبقي على الجهاز الإداري الذي نشأ زمن المستعمرين من أجل أن يقوم بإدارة الدولة الجزائرية بعد تحررها ، ولا تعمد الى تزوير شهادات للمجاهدين ، وتضعهم في مناصب حكومية هم غير قادرين على إدارتها أبدا.
إزاء هذا الوضع عمدت حكومة الثورة الى تأسيس وزارة جديدة اسمتها وزارة المجاهدين أخذت على عاتقها العناية بحياة مجاهدي الثورة ممن كانوا على قيد الحياة ، أو العناية بأسرهم ممن كانوا من الأموات ، كما خصتهم بأفضلية الحصول على عمل يتوافق مع قدراتهم الثقافية فعلى سبيل المثال يمنح المجاهد إجازة سوق سيارة إجرة بأفضلية على متقدم مثله الى هذه الفرصة من العمل حين يكون ذاك المتقدم ليس من مجاهدي الثورة .
على هذه الشاكلة وعلى الاستعانة بخبرات البلدان الأخرى ، وضمن ضوابط محددة ، لم تبذر فيها أموال الشعب على لون واحد من المجاهدين مثلما هي الحال في عراق اليوم ، استطاعت الجزائر أن تتجاوز المحن التي لاقتها بعد انتصار الثورة على المستعمرين الفرنسيين الذين جثموا على صدر الجزائر لمدة زادت على مئة وثلاثين سنة .
إن ضعف الجهاز الإداري في العراق ، والقضاء على السمة العصرية فيه ، هما سببان يكفيان لتفسير حالة التدهور التي تعيشها الدولة العراقية اليوم ، فالجهاز الإداري العراقي فقد المسميات الوظيفية العصرية من مثل : مدير دائرة ، أو معاون مدير ، أو محاسب ..الخ ، فقد استبد بي العجب حين كنت أراجع دائرة من دوائر ذلك الجهاز ، طرحت فيها سؤالا عن الجهة التي يمكنني أن أقدم طلبي لها ، فجاءني الجواب حالا : إذهب الى الحجي ( الحاج ) قلت للمجيب من يكون هذا الحجي ، قال مدير الدائرة ! ضحكت في سري وقتها ولم أزد على ذلك حرفا . وعلى هذا فأنت الآن تسمع في الدوائر العراقية مسميات لا تمت بصلة لأجهزة الدولة الحديثة التي وصلت لها البشرية بعد مكابدة طويلة ، فهناك سيقال لك : إذهب للشيخ ! أو إذهب للسيد ( أي الذي ينتسب الى أل البيت )
تلكم هي الأسباب التي أدت الى غرق المدن العراقية بما فيها العاصمة بغداد هذه الأيام ، وليس كمية الأمطار التي تساقطت في الساعات الأخيرة ، والتي عرفتها مدن العراق في سنوات خلت لكن دون غرق ، ودون أن تسقط البيوت على ساكنيها فتميت بعضهم وتجرح البعض الآخر منهم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الضفة الغربية: قتلى فلسطينيين في عميلة للجيش الإسرائيلي بقرب


.. غزة: استئناف المحادثات في مصر للتوصل إلى الهدنة بين إسرائيل




.. -فوضى صحية-.. ناشط كويتي يوثق سوء الأحوال داخل مستشفى شهداء


.. صعوبات تواجه قطاع البناء والتشييد في تل أبيب بعد وقف تركيا ا




.. قوات الاحتلال تنسحب من بلدة بطولكرم بعد اغتيال مقاومين