الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أيام الرسائل الورقية _ مرزوق وحسان

يوسف ابو شريف

2012 / 12 / 27
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


عزيزي مرزوق:
تذكر بأني أكثرت من الوعود الموثقة ساعة الوداع ،وقلت بأنني لن أنقطع عن مراسلتك مهما كانت الظروف. لقد كنت أخجل ساعتها من بكائك الذي لم أره دموعا في عينيك بل رجات صوت حزين هز قلبي وأجبرني على إطلاق الوعود الفارغة في تلك اللحظة المليئة بالإنفعالات.
كلانا كان يكذب على الآخر ساعتها، فأنا أطلقت وعوداً كنت أدرك بأنها ستسحق في رحى التغيير مع اشيائي الأخرى ثم تعجن بعد السحق ويعاد تشكيلها من جديد . وأنت كذبت علي وتظاهرت بأنك تصدق وعودي مع أنك أكثر الناس دراية بي وتجريبا لوعودي الكثيرة المنكوثة من قبل.
أي صديقي :
مرت خمس سنوات علي وأنا في بلاد الأحلام هذه وما زالت قنبلة التغيير تعدني بالانفجار في داخلي دون أن تفي بوعدها . تعرف كم حملت من الأحلام في حقائبي يوم رحلت الى هذه البلاد. وكنت أنتظر أن أفتح حقائب أحلامي وأخرج محتواها يوم أصل إلى هنا فإجدها حقيقة لا يشابها شك . حرية وتحرر وثراء، جنس متحرر من الحب ، وحب متحرر من المسؤولية ، ومال متحرر من فساد جمعه ، وحرمة صرفه.
كانت تلك الأماني في داخلي عملية حيوية تشوش على كل عملياتي الإنسانية الأخرى، عشت وفيا لها حتى صار واقعي الذي عشته في بلادي قبل الرحيل غربة، وأهلي الذين يتحركون في ذلك الواقع الموحش مخلوقات قادمة من عالم أجهله.
ذبت في حلمي لدرجة اشمئزازي من أي صوت يتحرش بخلوتي معه، فكل الأصوات كانت عندي نشازاً عدا تلك التغاريد القادمة من بلد العجائب المشيدة على أرض آمالي
ناداني من يميني ...... ولسا بيناديني
ويقول لي حصليني .... على بلد العجايب
هل ما زلت تذكر يا مرزوق كم كنت أزعجك بتكرار هذه الأغنية على مسمعك؟! اتذكر حين كنت أقول لك بأنها موسيقى تصويرية لحلمي الذي لا يفارقني.
لقد قضيت عمري قبل الرحيل وأنا أهييء نفسي للحظات التغيير بعد السفر ، فرشت له غياهب نفسي بشخصية جديدة كنت أظن بأن انتقالي إليها سيكون تلقائيا بمجرد أن تتغير معالم الجغرافيا من حولي
ثم جاء الوقت لينتقل جسدي خلف روحي التي سبقته بزمن طويل إلى أرض أحلامي، وتتغير الجغرافيا. ليست جغرافيا الأرض والسماء فقط هما من تغيرتا، بل وجغرافيا الملامح والتراكيب الإنسانية تبدلت بين ليلة وضحاها أمام ناظري . فهنا لم يعد للوجوه ـ ذات التضاريس البائسة من الحرمان ، الراعشة من الخوف ـ مكان من حولي . ولم أعد أرى الناس تنتحر أمامي كل يوم في ملامحها وهي تلقي علي تحية الصباح، وكأنها تكتب وصية ما قبل الموت. كل شيء تغير من حولي لكن قنبلة التغيير التي بداخلي ما زالت إلى الآن عصية على الانفجار.
جلست أتساءل اليوم وقد أصبحت القصعة التي سأملأها بالحرية المحلوم بها ثابتة بين يدي : لم لا تمتلئ قصعتي ولا يتحقق حلمي كما أردت ؟ لم لا أشعر بالسعادة وأنا أرى المشاهد التي كانت تمر أمام عيني في أحلامي وهي تتحول إلى واقع لا شك في حدوثه ، ما زلت الى الآن أنتظر لذة صادمة تستولي على حياتي وشعور بتمييز حياتي الجديدة المتخمة بالغنى والحرية عن حياتي القديمة البائسة بفقرها وكبتها ولكن اللذة لم تأت بعد.
اتذكر يا صديقي حين كنت أمطرك بمشاهد مشرقة حلمت بلعب دور البطولة فيها حين أصل أرض أحلامي . كأن أدخل إلى مركز أمن، وأسب رئيس الدولة فيه، ثم أخرج من الباب حيا أرزق، بل دون أن يجرؤ أحد على احتجازي ولولدقيقة واحدة.أو أن أدخل إلى دائرة حكومية ، وأنجز مصالحي فيها وأحصل على حقي المنصوص في لوائحها، دون أن يرافقني شعور دائم بأني أعتدي على حق الموظفين بالاسترخاء.
أو ذلك الحلم السخيف بأن أمر على رجل وامرأة يقبلان بعضهما في الشارع دون أن يكون المشهد صادما لي أو خارجا عن مألوف حياتي.
لا بد وأنك تذكر تلك الأحلام يا عزيزي التي كنت أعدها عليك حلما حلما كما يعد التقي حبات سبحته بعد الصلاة. كلها صارت الآن في متناول يدي أضعها كل يوم في قصعتي ولكن قصعتي بقيت عصية على الامتلاء.
مازلت أدخل إلى الدوائر الحكومية وأخاف الجلوس في حضرة الموظف حين يدعوني إلى الجلوس. وأرتعب من ابتسامته في وجهي أو مخاطبته لي بصفة احترام متوقعا أن شيئا شريرا لا بد وأنه يختفي خلف ذلك الاحترام .
مازلت أتعامل مع مديري في العمل بنفس الخضوع الذي اعتده في حياتي من قبل، ولم يوقفني عن ذلك استياءه من خضوعي، أوالذل المتأصل في نبرات حديثي حين أخاطبه. فهو لا يفهم ماالذي يرغمني على التمسك بهذا الخضوع، و هو العارف بأني أعرف بأن حقي عنده مصان، وواجبه علي واضح لا لبس فيه .وحق له أن لا يفهم ذلك، فهو لم يربَ في حياته على أن يَستعبِد أو يُستعبَد ليعذرني في ذلي المتجذر في تصرفاتي ، أو ليتوقف عن النفور منه.
اليوم ،كل شيء من حولي يشبه أحلامي في ظاهره ،ولكن الحرية التي انتظرت التلذذ بها صارت تحاصرني من كل صوب حصارا يثقل علي بدلا من أن يفرحني ، و اكتشفت بأن قصعتي التي أخرج بها الى العالم المتخم بالحرية من حولي لأجمع لنفسي شيئا منها مثقوبة ، وثقبها أكبر من أن يسد.
لا يفكر الناس هنا يا عزيزي بأمر حريتهم ولا يطرحون الأسئلة التي أطرحها على نفسي، وهم أيضا لا يبحثون عن حلاوة الحرية الغائبة عن تذوقهم كما أفعل أنا، ذلك لأنها بديهية من بديهيات حياتهم كالنفس الذي يتنفسونه. ووجبة رئيسية على أطباق يومياتهم ، وليست حلويات يتناولونها بين حين وآخر لتزيل عنهم مرارة ما يشعرون به من ذل عاشوه قبل أن يتعرفوا على حرياتهم. أما أنا فلم أولد في بلادي حرا مثلهم ولم تكبر حريتي معي ، لتشاركني لعبي صغيرا ، وأملي كبيرا. فالحرية بالنسبة لي ما هي إلا رغبة جامحة بالإنتقام من ذل عشته حين كنت محروم منها. ولا يمكن للإنسان أن يتلذذ بشيء فقط لأنه يكره عكسه، فحقوق الإنسان ليست زوجة ثانية يتزوج منها كبرياء المرء انتقاما من زوجة أطالت إذلاله. إنها مفاهيم لا يتعلمها الإنسان من كتاب أو محاضرة ، ولا يستطيع تقمصها إن شاهدها في مشهدا أحبه في فيلم، ولا يكفيه أن يكون الجو من حوله مشبعا بها حتى يستطيع تنفسها . أو أن تكون القوانين من حوله حامية لها مدافعة عن مفاهيمها ليأخذ بناصيتها .إنها بذرة تزرع في الإنسان منذ الولادة فيرضعها من ثدي أمه وتنمو معه بنمو أعضائه وتظل جزءاً أصيلا من مكوناته لا يستطيع أن يسلبها إياه أي شيء حتى القبر .
ما زلت إلى اليوم أسيء استخدام حريتي وكأنها عضو ضامر من أعضائي لا حاجة له، ولا أمل يرجى للإستفادة منه بعد أن أهملت استعماله منذ الولادة ، أو أرتديها كالسروال الواسع على خصر نحيل ، فيسقط كلما حاولت النهوض ، حتى صرت كالمشلول لا أقوى على الحراك حتى لا تتكشف عوراتي للناس.
ها أنا ذا اليوم أقف على سور أعراف نفسي نابذا ماضٍ رفضته منبوذا من حاضر يرفضني. حريتي ثقيلة على مداركي بعيدة عن مجال إحساسي محكوم علي كما حكم على بني اسرائيل ـ توهان في الصحراء حتى تجف الفروع التي ترعرعت في العبودية، وتخرج فروع جديدة لم تعرف الذل من قبل.
يحزنني أن تكون أول رسالة أبعثها لك بعد طول الانقطاع محملة بهم لي ،أكبر من الهم الذي تركته خلفي فاعذرتي يا عزيزي

صديقك حسان








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - صورة واقعيه
عصام ( 2012 / 12 / 28 - 17:40 )
قرات مقالتك ابا شريف فأحسست بأني اشاهد فيلما سينمائيا تدور احداثه في هذا الواقع المرير
لقد احسنت الوصف وقد وضعت يدك على جرح نازف من زمن
فعلا نحن نعاني من ((( جوع للحريه))) وخوف من ممارستها
ومن شب على شيئ شاب عليه
نحاول ان نغرس في ابنائنا الحرية ......وبدون قصد نقمعها في لحظه
لقد تربيناعلى الخوف .. الخوف من كل شيئ
وها نحن نعيشه في كل لحظ من لحظات حياتنا وفي كل تعاملاتنا سواء في البيت او العمل او الشارع
لا اقول ابو شريف سوى الله يعطيك العافيه ونريد المزيد من مقالاتك


2 - عزيزي عصام
يوسف ابو شريف ( 2012 / 12 / 28 - 23:12 )
يشرفني حضورك
لقد أكملت شيئا مما فقد من كلماتي شكرا لك عزيزي


3 - ابوشريف
ابوعمرو ( 2012 / 12 / 29 - 06:11 )

سنة الاستبدال ماضية في الارض الى يومنا هذا ، ويكفيك ان تقلب محطات التلفاز لترى اخبار الثورات العربية لتلمح توهان بني اسرائيل بين سطور الاخبار

العبودية الاختيارية التي تربى عليها الناس وافع مرير نراه بثا مباشر وبأرقام يقف امامها الحليم حيرانا

في عام 1861 تطوع الزنوج في امريكيا في جيش الجنوبيين لقتال الشماليين الذين يطالبون بحريتهم
ست ملايين مصري صوتوا لشفيق مما جعله يدخل انتخابات الاعادة ، وامتلأ ميدان التحرير عن اخره ممن يهتفون ضد مرسي دون علم 90 % منهم لماذا يتظاهرون وهذا اظهرته مقابلات قناة الجزيرة مباشر ،

لقد اثرت كثيرا من الافكار بهذه الرسالة الرائعة
المنحنى البياني لكتاباتك في صعود خايف مانلحق عليك

اشكرك واتمنى لك التوفيق


4 - ابو عمرو
يوسف ابو شريف ( 2012 / 12 / 29 - 06:45 )
قال لي أحد المعارف في بلادنا
حين جاء قانون الغاء العبودية ، وحصل العبيد في البلاد على حريتهم برسم القانون عاد بعض العبيد الى اسيادهم القدامى راجين اياهم ان يعيدوهم عبيدا لانهم لم يعتادوا اتخاذ قراراتهم بانفسهم،ـ
وفي أحد الأفلام لمورغن فريدمان يقاتل أحد المفرج عنهم بعد حكم طويل بالمؤبد ليبقى في السجن حتى انه يحاول الاعتداء على زميله بالسكين ليبقوه سجينا ... وينحر في النهاية في اول فترة خروجه من السجن

شكرا ابا عمر ، تعليقاتك تثري الحوار وتضفي عليه نكهة مميزة كالعادة


5 - شخصية وهمية
جهاد علاونه ( 2012 / 12 / 29 - 07:44 )
الرسالة من شخصية وهمية ليس لها وجود إلا في مخيلة وذاكرة الكاتب والرسالة أصلا منه إليه إنه يراقب نفسه بين الفينة والأخرى ويريد محاسبتها وليعيد حساباته مرة أخرى مع الزمن ومعه هو شخصيا إنه يشبه كتاب حوار مع صديقي الملحد من حيث التشابه في طبيعة المقال إذ يكون الصديق هو نفسه الكاتب...الحوار والرسالة كلها من شخص واحد يدعى أبا شريف في حوار مع نفسه وذاته


6 - صدقت عزيزي جهاد
يوسف ابو شريف ( 2012 / 12 / 29 - 07:49 )
لقد أصبت هذه المرة ......بحس الكاتب المرهف استطعت ان تصيب شيئا كبيرا من الحقيقة ، وما نكتبه يا عزيزي ما هو الا مجموعة ملاحظات نجمعها مما يتساقط في داخلنا ... أو يتناثر حولنا من قطع الحياة


7 - يوسف ابو شريف 6
جهاد علاونه ( 2012 / 12 / 29 - 08:34 )
هذا لتعرف بأن لجهاد العلاونه حس نقدي كبير يا إكبير..تحياتي


8 - لكن ابا عمرو تفوق عليك
يوسف ابو شريف ( 2012 / 12 / 29 - 16:39 )
نعم يا عزيزي .... بالمقارنة مع تحليل ابي عمرو فانت استعرضت الأسلوب فاصبت وهو استعرض المعنى فاكمله وجلى ما لم يتضح فيه،(فطوبة)ـ لكما الإثنان لكن لا تتهاوشو عليها هيك هيك طوبة وحدة ما بتبني خشة


9 - الاستاذ ابو شريف
ابوعمرو ( 2012 / 12 / 29 - 19:10 )

انا خليت الطوب لأبوعلي بس ما (يفشخنا)

مع احترامي


10 - يوسف ابوشريف
ابو نضال ( 2013 / 1 / 4 - 22:47 )
كم اتجلى يا عزيزي وانا اقرا ما تكتب.. استطعت ان افهم ما يعتريني. ولماذا ما يزال يرن في اذني النشيد الوطني (الذي كان دائما ثقيلا على قلبي وسمعي). وانا على بعد اميال من (الوطن). ولماذا يزعجني انه لا يجب ان انحني لعلم الدولة. وانه لايجب ان انحني للجميع وانه لا يجب ان انتظر حتى يمر الجميع واخيرا فهمت لماذا يزعجني شعور الحرية. نحن يا عزيزي تلك القردة التي في القفص.


11 - أبو نضال
يوسف ابو شريف ( 2013 / 1 / 5 - 07:00 )

تحية لأبي نضال

حتى حرية التفكير في إعادة تعريف الوطن تصبح ثقيلة يا عزيزي، لذا نتمسك خارجه بالتعريف الذي تعلمناه ونحن داخله ،ونقولها بالأمثال بالفم المليء(من فات قديمو تاه)ـ حتى أمثالنا يا رب !!!!!ـ


12 - المهان مهان اينما وجد
جمانا سمير ( 2015 / 4 / 2 - 12:52 )
في هذا المقال لست معك ومعك بنفس الوقت .. المهان والذي يحس بالمذلة سيشعر بها دائما اينما كان .. ما انتقل هو الجسد وتغيرت الملابس لا شئ اخر .. فالباحث خارجا عن حرية لم يقف ليمارسها اينما وجد لن يستطيع ممارستها اينما سيكون .. فلو جاء سارق من بلاد الحرية الى بلادنا سيظل خائفا من اي شرطي يمر بجانبه لأن خوفه متأصل بداخله اينما كان.. القصد هنا ان من لم يدافع عن حقه ومعتقداته في بلاد الظلام لن يستطيع ان يمارس هذه الحقوق في بلاد النور .. اعذرني ابو شريف .. لقد كنت اقول دائما من خاف من كف سينهال عليه لأنه طالب بحقه اذن ليتحمل جميع كفوف المذلة في حياته .. استحضرني منظر فعليا جابهته عندما كانت الصواريخ تنزل وتهز البيت عندنا يومها نظرت الى زوجي لم يكن ابدا يهتز له شعرة وكأن شيئا لا يحدث .. متابعا برامج التلفزيون .. قلت له انت لا تخاف .. فا ابتسم وقال لي عندما كان في بلادنا تحت الاحتلال اول يوم صحي ليجد البندقية في نصف الليل على رأسه اول يوم خاف والثاني (تعرف من مفاجأة الصحوة من النوم ) ولكن في اليوم الثالث سأل الجندي ماذا تريد .. فا الخوف هون ما نزرعه نحن بداخلنا ..هم يريدون ولكن نحن ايضا نريد

اخر الافلام

.. الشرطة تقتحم جامعة كولومبيا لتفريق المحتجين| الأخبار


.. مؤشرات على اقتراب قيام الجيش الإسرائيلي بعملية برية في رفح




.. واشنطن تتهم الجيش الروسي باستخدام -سلاح كيميائي- ضد القوات ا


.. واشنطن.. روسيا استخدمت -سلاحا كيميائيا- ضد القوات الأوكرانية




.. بعد نحو 7 أشهر من الحرب.. ماذا يحدث في غزة؟| #الظهيرة