الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفنان الذي قتلته رسوماته

زياد شاهين

2012 / 12 / 31
الادب والفن


الفنان الذي قتلته رسوماته

لوحة أولى /
المقابر تنتشر بين البيوت في القرى./

(الجمعة 2-4-1976) كأن هذا التاريخَ تابعٌ حشريٌّ، يتسلّقُ شجرةَ حياتي ويحفرُ أيكَة داخلَ فـرعٍ يُفسّرُ ســرَّ عمري المتآكل، ويَسْكُـنني إذ يبلغُ امتدادَ عُمْقِ مأساتي وذاكرتي البائسة، ماذا يريدُ مني هذا التابعُ الحشريّ الذي يسْكُــنني؟
المقابرُ تنتشرُ بين البيوت المتراصّة في القرى. نحنُ- أبناءُ القرى- نحتاجُ إلى مقابرَ قريبة جداً، تضلّـلُها أشجارُ أحلامنا وأمنياتنا، وتُـلقى فوق أديمها أكاليلُ البكاء ونواحُ الأمّهات والعجائز اللواتي فـقدْنَ عصا الذاكرة. كأننا لا نكتفي بالمقابر الفخمة التي حُفرتْ خصيصاً من أجلنا. أعمارُنا قصيرة ولا وقتَ لدينا أن نتجشّمَ مشاقَ السّفر والحياة، لا بدّ لجثثنا الكثيرة والمتزايدة أن تجدَ مأواها الرخاميّ في متناولِ اليد وأن لا تتحمّلُ عناءَ النقل ومتاعبَ الدّفْـنِ وغبارَ المراثـي الجاهزة وروتينية الصلوات والفاتحة. الناسُ في لهوٍ قَـلِـقٍ وفي بذخٍ سقيمٍ ولا وقتَ لديها للجنازات المزدحمة. الناسُ في إقاماتٍ جبريّة وممنوعة عواطفها وعلاقاتها الإنسانية من التجوال. الزمنُ أسرعُ من البرق يدفعنا من الهاوية إلى الهاوية. والديدانُ المتأنقة تنتظرُنا متضّورةً تحتَ التراب، وفوق التراب، الديدانُ حاضرة تتوعّدُنا ساغبةً ومتضورة!

-2-
لوحة ثانية/
فتاة بالأكفان خارجة من القبر/


من نحنُ؟
من أنا؟!
ظلامٌ دامسٌ وشرنقة من أسئلة آيلة للسقوط والدّمار المحتّم. "إيّاك أن تمرّ بالمقبرة ليلاً، إيّاك .. إيّاك." ، أصواتٌ رعديّة كأنها تنشقُّ وتسقطُ من سماء الغيّب وتتدلى أصداؤها وتتأرجحُ في فراغ جمجمتي. تضحكُ مني تلك الفتاة وتقهقهُ في أولّ الليل في المقبرة، تُحاصرُني أصواتُ قهقهتها وتُطاردُني وأركضُ وتركضُ خلفي وأركضُ كالمأخوذ بعقله، كأنّ الأمواتَ في المقبرة جيشٌ عرمرمٌ يفزعُ لها ويُطاردُني أيضاً. الكلُّ يُحاصرني ويُطاردني. الخوفُ يمسكُ بتلابيبَ وشرائط ثيابي الممزّقة ويشدّني إلى الأسفل، وتتعثّرُ قدماي وأسقطُ مضرجاً بجلجلة الأصوات.
هذه الفتاة اجتُـثّتْ من جذورِ صباها، سقطتْ في بئرٍ عميقةٍ أو أسْقِطَتْ في بئرٍ عميقةٍ في عَرْصَة البيت في حيّنا، قيلَ: أنّها ارتكبتْ فحشاً عظيماً، أو أنّها فقدتْ ما أبقى لها المجتمعُ والأهلُ من عقل متوثّب، ونحنُ الأطفالُ المتجمهرين نضحكُ ونسخرُ، لا ندركُ ما معنى أن تسقطَ فتاةٌ بعمر الورود في بئر عميقة، ما معنى أن تُوأدَ فتاة أو تُدْفن في مقبرة القرية؟!
أسقطُ وأقفُ وأركضُ وتظلُّ تلك الفتاة خارجة من القبر بأكفانها البالية تُطاردني وأنا عائدٌ من سوادِ غربتي في آخر الليل، تتشبّثُ بي وتجذبني إلى القبر فأستيقظُ مذعوراُ مذعوراً وخائفاً ، وأحدّقُ في لوحتي الحلم : المقابرُ المنتشرة بين البيوت في القرى!
فتاة بالأكفان خارجة من القبر!


-3-
لوحة ثالثة

/ لا أرى البلاد/

كالأعمى يتوقُ لسانُه إلى لغة النّور أو كالأخرس تتمنى عيناهُ محاورة الطبيعة, لا أرى البلادَ ولا أحاورُها، البلادُ غابة من الأشجار المتشابكة والداكنة والحيوانات المفترسة والمنقرضة.
كم تمنيتُ لو أنني أستطيع أن أترجّلَ من هذه اللوحة! أحدّق فيها ملياً وينتابني حزنٌ وخوفٌ : رجلٌ ذو ملامح شرقيّة، يضعُ فوق عينيه نظارة سوداء، يقفُ في بقعة ضوء، يتأبطُ شـمسـاً، على ما يبدو فقـدَ نورَ عينيه، وينظرُ إلى البلاد، والبلادُ بعيدة كأنها ملتصقة في السّماء ومرسومة بالفحم الأسود فالسوادُ يغطي البيوت والأشجار والحيوانات ووجوه الناس.


ما حدث يوم:(الجمعة 2-4-1976)
-1-

أسْــتعذبُ الوحدة، أتهجّى حزني داخلَ فصولِ الدم.
الحزنُ في الألوانِ، في الأوراقِ المتصدّعـة.
غرفتي ذات ثلاثة شبابيك. الأولّ مفتوحةٌ عزلتُهُ في جبهة العالم، الثاني يطلُّ على مقبرة لا حدود لها، والثالثُ يتأرجحُ، يقاوم الريح.. المطر.. والثلج.
أتهجّى حزني. ترحلُ عيناي داخلَ شرايين الألوان، الخطوط والأوراق.
أمس. اليوم. غداً.
دائماً حاولتُ/ أحاولُ إقناع شعوري أنني أرسمُ بيراع عقلي، لكن عبئاً.
وزارني شكٌّ لعين، وعبث ضعفٌ في مناطقي، واستحالتْ السكينة التي خيّمتْ في غرفتي، وجرّحتْ الأشياءَ فيها، إلى أشكال غريبة، تتسربُ من الشبابيك الثلاثة، تقفزُ إلى أوراقي وتقبعُ.
أمس. اليوم. غداً.
لا أدري، ينتابني دوارٌ خفيفٌ متواصل.
مرّة أخرى، هكذا، جثّة فتاة عارية، تتراءى لي من فوق كتف الشبّاك، لا أدري، أراها تنتصبُ، تقتربُ مني، يا ويلي دمُها ينسابُ، يا ألهي هذه الفتاة أعرفُها وتعرفني، أعرفُها، أعرفُها، لا، لا، مــاذا؟؟
-الرسومات؟!
-رسوماتي؟! ماذا؟؟ أ... أ... أخاف! .. أ .. خ .. ا.. ف. ؟!
خسئتِ.. خسئتِ أيّتها الرسومات، لأن موجات الشبه ظاهرة بينك وبين هذه الأشكال/ فتاة عارية/ لا .. خسئتِ ستين ألف مرة أيتها الرسومات، يتكلمُ شعوري أيتها الرسومات، ينبعث صوتُهُ في الظلام يخترقُ صدر السكينة، يهزّني، لطالما سمعتُهُ، أحبّـه وأخافـه، لكن ... لماذا أحبّه وأخافه الأني أخاف من نفسي؟ أم لأنني أجهل لِمَ أخاف من نفسي؟ أم لأنني أدري لِمَ أخاف من نفسي وخائف من التصرف؟!

-2-

ليالي شتاء.
أشلاءُ الثلج، المطر والريح مبعثرة داخل وخارج غرفتي.
أنا سجائري وقهوتي.
لا أحبُّ التأمّلَ في مرايا الظلام.
وجهي مبعثرٌ داخل أشلاء الثلج، المطر والريح. أحبّ أن أبحثَ عنه وأخافُ، لئلا تنعكسُ أمامي أية لوحة.
أكرهُ أن أوشّح أوراقي بأيّ خطٍ أو لون.. أكرهُ... أكرهُ.. وأحبُّ ما أكره ...!
وأوراقي؟!
يتيمة أوراقي، أرثيكِ ولا أدري كيف ولماذا؟؟
صامتٌ الليل، صامتة الألوان والأقلام والكتب العتيقة/ مرثية دموية/ قلبي يخفقُ، خيالي يتشردُ، أحاولُ أن ألملم أطرافي المبعثرة، أحاول أن أقبض على أنقاض القلم المكسور، أخافُ.. أخافُ...
-الرسومات؟!
-لُعنتِ أيتها الرسومات واللوحات التي تجعلني أخاف.. لُعنتِ يا
-لا .. لا...
-أحقاً أخاف؟؟ لا أدري! لا أدري !

-3-

حتى في هذه الساعة.
حتى في هذه الساعة عندما أعود من ليلة مثقلة بالمتاهات.
حتى في هذه الساعة تنبعثُ لي الذكرى!
تعبٌ.
عيوني سهر النومُ فيها/ فضرّجها بحديثه.
رأسي كأسٌ أفرغتْ فيه كلّ الأنواء.
حتى القهوة التي طالما ارتشفتُها فأراحتني هربَ بلسمُها..!
نفس الرسومات. نفس الجدران. نفس الشبابيك الثلاثة.
(لحظة تأمل في الشبابيك الثلاثة)
آه.. أذكرُ .. الشباكُ الثاني.. المقبرة.. حبيبتي، لا.. الشباك.. المقبرة.. .. حبيبتي هناك .. لا .. لا.. هــه.. جسدُ حبيبتي العاري، جدائلها، وجهُها، أجل، وجهُها الذي تصدّع، ذهبَ ضحية عجلات الزمن الأحمق، وجهُها الذي سحقتـه الغرائزُ البركانية. لا . لا . جسدُ حبيبتي ينتصبُ فوق الشباك.. يخطو .. يدخلُ.. يقفزُ.. يسترخي فوق أوراقي.. يا ألهي.. يسترخي جسدُها العاري هناك فوق أوراقي.. ماذا؟؟ أين كنتِ حتى الآن يا أبنة الليل.. يا .. ع..ا..هــ؟؟ لا تقتلها.. لا تقتلها.. خسئتِ.. خسئتِ.. خسئتِ ! هـه .. هـه..هـه!


-4-

البلادُ حبيبتي! البيوت. الأشجار. الشوارع. الطيور. الأطفال. المدارس. الاناشيد. الأديم. النسيم. كلّها حبيبتي!
وحبيبتي فتاة عارية. قفزتْ من الشباك الثاني إلى أوراقي. قبعتْ ولم ترحلْ.
برّجتها بشتى الألوان، لكن لا أدري كيف ذهبتْ ضحيّة خنجرِ غدرٍ في أحدى الليالي.
كلّما حاولتُ أن أتأمّلها، أن أمسحَ الغبار المتراكم فوقها، يصرخُ بي شعوري:
-مزّقها ..مزّقها أيها الغبي!
لا أقوى على التصرّف. جسدُها جميلٌ كذلك نهداها .. ذراعاها .. أحاديثها، هي نُسغُ حياتي ..أصالة تفكيري .. نقاوة عالمي.
حاولتُ أن أخبأها تحت سريري أو بين قسمات الدفاتر أو بين الكتب العتيقة، خبأتُها تحت وسادتي خبّأتها في جبّة معطف جدي الممزّق، خبّأتها تحت ظلّي.. لكن.. عبثاً.. كلما أبعدتُها اقتربتْ مني أكثر وأكثر وأكثر.
-مزّقها .. مزّقها أيها الغبي.
-لا أستطيع.. لا أستطيع .. لن أمزّقها.. لن أمزّقها !

-5-

لا أدري كيف أشعرُ بالانتعاش عندما أحشو فمي بسيجارة، وأنا مسترخٍ على السّرير، أغطّي بخيالي كلّ الثغرات التي فتحتْها الأيامُ فآلمتني، أو عندما أصبح بين نائم ويقظ، أراقبُ خطوط الدخان الجامحة من قمة سجائري، من أوردتي، وهي إلى حدّ ما أشبهُ بشيء أعرفُه، لا أدري.. لا أدري..
( لحظة تأمّل في الفراغ المتراكم حولي.. النومُ يداعب أجفاني)
-فتاة عارية / شبحٌ يحملُ خنجراً ..
-النّجدة.. النّجدة.. النّجدة..
-احذرْ
-هــه
-أحذرْ أيّها الغبيّ، ما أنتَ بالنسبة لي الا سيجارة أشعلها متى أشاء، وأدوسها متى أودّ، نبّهتُـكَ.. مزّقْ رسوماتك.. مزّقْها.. مزّقهـا..!
مـز- يطعنونني – قـ - يطعنونني ـ هـا – مزقهـا – يطعنونني –
وقفزتُ من سريري، يا ويلي، كابوسٌ مؤلم.
لكنـّـهُ واقــعٌ.
ألتفتُ يميناً وشمالاً. فكرتُ بماذا حدث. فكرتُ ماذا سأصنعُ بهذه الرسومات.
أنا تعبٌ. مشيتُ نحو السرير. كم الساعة. الواحدة. آه، أين وضعتُ الكبريت والسجائر، في المعطف، لا .. ربّما تحت الوسادة، آخر سيجارة، بل هي آخر دواء لي لأنام .. ربّما أنام.
( استرخاء فوق السرير. زارني النومُ مرّة أخرى، أوشكتْ السيجارة أن تنتهي، فلسعتني، فقذفتها بدون أن أشعر، فأتتْ على اللوحات، وبدأت تحرقها شيئاً فشيئاً، وبدأ يتصاعدُ الدخانُ ويتكاثفُ، أشعرُ ولا أشعرُ، أثقل النومُ أجفاني)
-فتاة عارية.. شبحٌ.. لا تطعنني.؟. لا .. لا ..
وقفزتُ من السرير، الدخانُ متكاثفٌ. حاولتُ الاقترابَ من الشبّاك لأفتحَهُ وأنا أصرخُ وأصرخُ وأسعلُ، لكنّني لا أدري كيف سقطتُ وأنا أتمتمُ ما قاله لي شعوري .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حكايتي على العربية | ألمانية تعزف العود وتغني لأم كلثوم وفير


.. نشرة الرابعة | ترقب لتشكيل الحكومة في الكويت.. وفنان العرب ي




.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيب: أول قصيدة غنتها أم كل


.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت: أول من أطلق إسم سوما




.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت: أغنية ياليلة العيد ال