الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأنا الأخير...في الشرق

فتحي المسكيني

2013 / 1 / 1
الادب والفن



في كتابه اليوم الأخير طوّر ميخائيل نعيمة طريقة طريفة تماما في الفحص عن معنى "الأنا" الإنساني في الثقافة الشرقية، وذلك اعتمادا على تجربة الأنا الشرقي نفسها، ونعني تخصيصاً تجربة "الصوت" الذي يكلّمنا من وراء حجاب قائلا: "قُم ودّع اليوم الأخير" . هناك دوماً في شرائع الشرق شكل من الانتظار أو الإنصات المحتشم لصوت ما سوف ينطق ويأمرنا بوضع سطر كبير يفصل حياتنا كما نعرفها عن "عالم آخر" علينا أن ندخل في علاقة رسمية معه، دون أن يكون التسليم بوجوده أمرا مهمّا في حدّ ذاته أو محسوما.
بدلا من سؤال "من أنا؟" على طريقة ديكارت، يفضّل نعيمة البداية من تجربة الصوت أو الهاتف الشرقية، الصوت الذي "يأمر" بعقد جلسة رسمية مع القدر، وأخذ قرار سريع حول "نهاية العالم" الخاصة بنا. وحين يسأل الشرقي "من أنا؟" فهو لا يقصد ذلك، بل يسخر من نفسه. قال: "من أنا لأروّض الأيّام فأجعلها رهن إرادتي ؟" . ما يقلق الشرقي هو دوما صوتٌ ما وأمرٌ ما، "لا يعرف مصدره ولا يفهم معناه" .
إنّ الحداثة هي انتقال روحي خطير من تجربة "الصوت" الشرقية إلى ثقافة "الأنا" الذي يملك أدوات السؤال عن نفسه "من أنا؟". وبلادة الشرق الخاصة هي تحاشي السؤال "من أنا ؟" وتعويضه بسؤال "صوت من هو ؟" . ولاسيّما حين يقع اختزال العلاقة مع الصوت الغائب في العلاقة مع "الموت" أو "القبر" أو "الآخرة". إنّ الشرقي لا يحمل في ذهنه من كل تجربة الزمان سوى مشكل "اليوم الأخير": إنّه يقف دوما في الجهة المقابلة من حياته على الأرض، ولا يقف أبدا قبالة العالم من بدايتها. هو كائن يؤرّخ لنفسه دائما انطلاقا من نهايتها: إنّه كائن ما فتئ يحوّل "المستقبل" اليومي والشخصي إلى "آخرة" أخلاقية وعامة حتى يسيطر على كل لغزية الموت وينجح في تدجينها.
وهكذا بدلا من مساءلة الأنا البشري، يخيّر الشرقي أن يصرف كل حياته لملاحقة الأصوات الخارجة عن ذاته والاستجابة لها أو الجبن أمامها. قال: "أنا جبان لأنّني حتى الساعة لم أحاول اكتشاف المجاهل الهائلة في دنياي. فما سألت نفسي مرة من أنا ؟ ولماذا أنا كما أنا وليس غير ما أنا ؟".
ولكن أيّة شجاعة في أن نسأل "من نحن ؟" أو أن يسأل المرء "من أنا ؟". هل فعلا لا نبدأ في التفكير إلاّ حين نطرح مثل هذه الأسئلة ؟ إنّ "الكلب لا يسأل ’’لماذا’’" فماذا ينقصه كي يكون نفسه ؟
على خلاف فلسفات الذات الحديثة التي تقدّم الإنسان وكأنّه جهاز دقيق من الملكات، فإنّ نعيمة يقدّم النفس البشرية وكأنّها "جيب هائل ضمنه جيوب ضمنها جيوب وجيوب" . وما أبحث عنه يوجد دوما "في جيب خفي من الجيوب الكثيرة التي يتألف منها كياني. وذلك الجيب لم أهتد إليه قبل الآن" . إنّ ما نسميه "الفكر" هو يقع دوما "فوق الفكر" الذي لدي عن نفسي. ولذلك يفترض الشرقي أنّه لا حدود للفكر القادم إليه دوما من صوت ما. أمّا فكره هو فيكاد لا يُذكر. وهو لا يتردد في السؤال : " وكيف تكون لفكري حدود ما دام له ما يفكّر فيه ؟" . ولب المشكلة هو: كيف يمكنني أن أعيش تجربة "الصوت" الغائب واللامحدود بشكل "يومي" و"شخصي" محدود ؟
قال: "عمري (هو) عمر فكري. ومن يدري ما هو عمر فكري؟" . ولكن ماذا لو أنّنا لم نفكّر أبدا من قبل ؟ هل كنّا أمواتا ؟ أم أنّ مجرد الحياة لا يحتاج إلى تفكير.
إنّ من لا يُدخل الزمان في تعريف نفسه لا يمكنه إثبات وجودها. قال: "أنا الزمان، والزمان أنا" . "والدقائق تعدو، وأنا كالأبله أحاول سدّ الطريق عليها فأنتهي بسدّ الطريق على نفسي" . كيف يمكن للناس أن يثبتوا أنفسهم خارج عنكبوت الوقت ؟ ربما بواسطة قتل الوقت ؟ بحيث "يطردون السأم بالسأم ويهرّمون الدقائق بالدقائق" . ولكن من يستطيع أن يهرّم الزمان ؟ "وأيّ صباح ليس بالجديد ؟" لكنّ الأنا الشرقي لا يزال يجد صعوبة في التمييز بين الجديدين: جديد اليومي وجديد العصر. وذلك من فرط تورطه الحاد في ثقافة الانتظار الكبيرة: انتظار كل أنواع الآخرة في حياة واحدة.
لذلك يبدو الشرقي معلّقا بين قيامتين: قيامته الخاصة في حياته، وقيامته العامة في حياة أخرى. إنّ حركاته اليومية هدر لآخرة ممكنة لم يستغلها بعد. ولا يملك من الثروات الكبرى سوى "الشعور العنيد بأن الذي يقوم بهذه الحركات هو هو. إنّه أنا" . الأنا في الشرق هي الثروة الأخلاقية الوحيدة للبشر. وما عدا ذلك فهي آخرة وآخرون وأشكال لا حصر لها من التأخير. ولذلك علينا أن نسأل: متى يبدأ الأنا الشرقي في مزاولة مهامّه العادية ؟ أن يكون هو بلا أيّ آخر كبير ؟
ولكن هل يوجد "أنا" خارج النظام ؟ قال نعيمة: "أنا في النظام والنظام فيّ. فما أكبرني ! ولكن النظام يفهمني فيسيرني. وأجهله فأنصاع له. فما أصغرني !" .
لا يتحرر من النظام إلاّ من أصبح النظام ولكن بواسطة حريته. هل يكفي أن يكون الأنا حرا في الانتماء حتى يكون حرا حقا ؟ ليست كل حرية هي حرية انتماء. بعض الحريات أشكال طريفة من العبودية، أي من العجز عن قتل العبد الذي فينا وتحويله إلى معركة انتماء من الداخل إلى أنفسنا الحرة. إنّ النفس لا تصبح حرة إلا متى "بلغت الحرية التي يموت لديها الموت" ، أي يمّحي أمامها نموذج من الحياة لم يعد حيّا منذ مدة طويلة. ينبغي أن تنتهي حياة الأشياء كي تبدأ حياة الأنا.
ومن بإمكانه أن يقول بكل انتصار : "اليوم شعرت بأن نافذة جديدة على الحياة قد انفتحت في داخلي" . لا يبدأ الشرقي في حياته إلاّ في مناسبات نادرة جدا. إنّه حيوان انتماء من الطراز الرفيع. وأكبر أحلامه هو الرضا عن الوجود وتحويل الحياة إلى احتفال متواصل بالنظام.
أيّها الأنا الشرقي "فكرك لا يزال طفلا يحبو" . وعلينا أن نسأل: كيف نساعده على النهوض نحو نفسه الكبرى ؟
لا يزال الشرقي يعتقد أنّ "الأجساد جميعها سجون- حتى الصحيح منها والجميل" . وهذه بحدّ ذاتها أكبر تهمة يجرّها كلّ أنا وهو خجول من مواصلة الانتماء إلى نفسه على هذا النحو. لكن من عادة الشرقي أن يؤجّل انتباهه من سباته غير الشخصي إلى آخر أيام حياته: هو لا يصبح شخصا أو فردا حقا إلاّ عندما يبدأ فجأة في كتابة تاريخ حياته وكأنّها قد بلغت نهايتها أو كأنّها ارتقت فجأة إلى مصافّ القصة التي يحق لنا سردها على أنفسنا بدون خجل. ونعني تلك اللحظة التي شعر فيها الشرقي أنّه دخل ثقافة "الأنا" وإن كان لا يدخلها إلاّ متأخّرا.
عوّل الشرقي على عديد الشرائع والفنون والفلسفات والآداب كي ينجح في خلق الأنا المناسب لنفسه. لكنّه لم يفلح بعد في "ترجمة" كل هذه الأجهزة الرمزية إلى "قوة تخلق فيه المناعة ضدّ جميع الأضاليل والأوهام...والبشاعات التي ما تزال تشوّه حياة الإنسان على الأرض" . إنّ انتقال الأنا الشرقي من معارك الجماعة إلى معارك المناعة ما يزال مطلبا خجولا. لا يتحرر الأنا إلاّ بقدر ما يجرؤ على عيش حياته وكأنّها قد انتهت بالشكل الذي عرفه إلى حدّ الآن. وأنّ غربة ما عن نفسه وعن الآخرين قد باتت ضرورية.
كيف يمكن لأحد أن يتحرر دون قدرة فظيعة على النسيان ؟ وهل يمكن لأحد أن "يشتهر" بقدرته على "النسيان" ؟ أليست الشهرة هي أفظع أنواع الذاكرة ؟ الأنا الشرقي مشهور أو هو لا يؤمن إلاّ بما يشتهر ويتحوّل إلى صنم أو معبود. إنّه مثل "تاجر ساعات وينسى" . الأنا هي ساعة الوجود لكنّ تغييرها ليس متاحا لأحد. كأن يقول مثلا دونما توجّس: "لقد انتهت حساباتي مع العالم...بل حريّ بي أن آخذ ثأري من الدنيا ". ولكن إلى أيّ حدّ يمكن للحرية أن تكون وداعا لأيّ شيء ؟ وهل يحقّ لمطلب الحرية أن يكون ثأرا رسميا من ثقافة بعينها ؟ كلّ ثأر هو أمل مخنوق في "موت أنيق" ، أي في خلود ربما كان قد تأخّر موعده وصار مع الوقت ضربا من عدم اللياقة إزاء أنفسنا.
لكنّ الشرقي يصرّ دوما على أنّه لا يخاف موته وأنّ أكبر فضائله تتمثل في "أن يألف الموت فلا يخشاه ولا يهرب منه" !. صداقة الموت ربما كانت أكبر ادعاءات الأنا الشرقي، وعليه أن يبرأ منها يوما ما. إذْ "من يستطيع أن يتخذ من الموت صديقا له ؟" يشعر الشرقي أنّ "الحياة أساءت إليه" عندما جعلته هو في ذلك المكان وليس شخصا آخر يمكن أن يحمل وزره بدلا عنه في مكان آخر. ولكن لماذا لا يكون الأمر بالعكس: ربما هو قد "أساء إلى الحياة فارتدّت إساءته إليه ؟" . يسيء الشرقي إلى الحياة عندما لا يهديها الأنا الذي تستحقه. لكنّه لن ينجح في ذلك إلاّ عندما يفهم آخر الأمر أنّ ما يجري في الأنا "ليس في حاجة إلى بطاقة هوية" . ثمّة ضرب من "اللاّمسمّى" في كل أنا، وعلينا أن ندخل في حوار جذري وداخلي معه، حتى نعرف من نحن. نحن الجزء غير المسمّى من أنفسنا. وكل ما هو مسمّى هو دينٌ لغيرنا فينا. وعلينا أن نتخلص منه يوما ما. إنّ أسماءنا هي "الذات الميتة" التي ينبغي توديعها إذا أردنا أن "نستقبل ذاتنا الحية" . إلاّ أنّ أخطر ما في الأمر هو أنّ ذاتنا الحية ليست فكرة نعثر عليها في كتاب. إنّ الأنا لا يفكّر بالضرورة حتى يجد نفسه. وربما "هي تأتيه من مصدر غير الفكر" . إذ عليه أن يسأل في آخر المطاف : " لماذا أنا- أنا، ولست غير ما أنا ؟" . فمن المؤكد أنّه ليس هناك أيّ ضرورة في أن نكون من نحن ولا ما نحن. لكنّ الشرقي يؤبّد كلّ أشكال نفسه ويحوّلها إلى قدر شخصي، إلى حدود وحصون لا يريد الخروج منها. قال: "تلك الحصون هي اسمك ولقبك ومركزك وسمعتك بين الناس، وزوجك وابنك وبيتك وما احتواه..." .
لكنّ الشرقي لا يكتفي بتحويل الحياة إلى واجبات وأعباء ومهامّ. إنّه يحبّ دائما أن يضفي عليها هالة من الأبويّة أو من التقديس: هو حيوان مقدِّس وحيوان أبويّ بامتياز. وما فتئ يبني المعابد في نفسه وخارجه، في جسده وفي دولته. ولكن "ما رأيك لو أقفلت جميع المعابد في العالم أبوابها؟" . ماذا لو تمّ الاستغناء نهائيا وفجأة عن صناعة الآباء وعن صناعة الآخرة وتمّ تحويل جميع المعابد إلى حدائق حيث يتمرّن الإنسان على "معرفة نفسه" من حاجة إلى أيّ أبويّة، "تلك المعرفة التي لن تأتيه من المدرسة ولا من المعبد، وتأتيه من نفسه" .
لكن بين الشرقي وبين نفسه يقف دائما أبٌ ما، يحول دونه ودون أن يولد يوماً ما على نفقته الخاصة أو على آلامه الخاصة. ولذلك حتى ثورات الرجل الشرقي هي ثورات أبوية أو تحتاج دوما إلى آباء: إنّ الخلاص هو دائما "الخلاص الذي وعدني به أبي...أبي الذي لا اسم له. أبي اللاّمسمّى" .
كلّ حرية أو ثورة لا تزال تحتاج دوما إلى أب، وإذا لم تجده هي تخترعه ولو كان بلا اسم، جعلت منه "اللاّمسمّى". ولذلك لا يتحرر الشرقي إلاّ إذا طرح السؤال عن نفسه وقال: "من تقول إنّك أنت ؟ "، ولكن بلا أيّ شروط أو ضمانات مسبقة، أي من دون مستقبل جاهز للاستعمال، أعني من دون هوية جاهزة في الانتظار قادرة على مدّه بجميع الأجوبة سلفا، فتجعل من حياته عبء آخر لا يُحتمل.
ويشبّه نعيمة الأنا بحصاة لا تفرّق بين "ما هي" و"من تكون" : "فالحصاة التي غيّبها الثلج عن ذاتها باتت تحسب الثلج ذاتها، وباتت تسعى بكلّ قدرتها للحفاظ على تلك الذات، والزيادة في حجمها، غير عالمة أنّها تحاول المستحيل. فلابدّ للثلج من الثوبان. والحصاة لن تجد ذاتها الأصيلة إلاّ إذا هي خسرت ذاتها الزائفة التي هي ركام الثلج" .
ولذلك قبل خوض غمار أيّ سؤال هووي من قبيل "من أنا؟"، يجدر بالشرقيين أن يسألوا أوّلا "أين أنا ؟...وما هذا الذي أنا فيه ؟" . فالشرقي لم يبدأ بعد في طرح الأسئلة المناسبة حول المكان، حول مكانه داخل خارجة نفسه. وليس يمنعه من ذلك سوى "تفاهة الثقافة" : أي تلك القدرة على الاستقالة من حياته بشكل أنيق. وهو لن يعود إلى العمل على ذاته كما تستحق إلا إذا تجرّأ على الشعور بأنّه مساوٍ للكون المحيط به، وقال لنفسه : "أنا المكان كله والزمان كله...إنّني أسع الكون ويسعني الكون. فلا أنا أضيق به ولا هو يضيق بي" . هذه العودة الأخيرة إلى النفس والكون في كرة واحدة لم تتحقق بعدُ في ذاتنا العميقة، وهي لن تتحقق قبل أن يتمّ اكتشاف روعة الإنسان بحدّ ذاته قبل أيّ روعة أخرى خارجه. قال: "السرّ في الإنسان وليس في الأرض" . على الإنسان أن يتجرّأ على أن يهدي نفسه لنفسه من دون أيّ مقابل. وذلك أنّ "نفسي التي تأبى التنازل عن نفسها – قفص. وكل ما يحيا به الناس من يوم ليوم- قفص. ما عدا الشوق إلى المدى- إلى الانطلاق – إلى الانعتاق." وكلّما ظنّ الإنسان أنّه يملك شيئا ما حوّله إلى قفص. "حتى جسده ليس ملكه" . وعليه أن يتعوّد على السكن في منزل لا يحتاج إلى امتلاكه لأنّه هو. وليس عليه سوى أن يفتح الكوّة التي تطلّ على كيانه من الداخل . قال: "في تلك المرجة انفتحت في داخلي كوّة أطللت منها على الكنز المدفون في أعماق كياني. وذلك الكنز هو نفسي" .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش


.. -إيقاعات الحرية-.. احتفال عالمي بموسيقى الجاز




.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب


.. الدكتور حسام درويش يكيل الاتهامات لأطروحات جورج صليبا الفكري




.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس