الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بيصارة كسيح بلا شواء

عبد الرحيم التوراني
صحفي وكاتب

(Abderrahim Tourani)

2013 / 1 / 1
الادب والفن


كان الوقت غروب الشمس، والشارع به زحمة سير. وكان يمشي باتجاه كشك الجرائد المقابل لحانة "ريش بار", حين لمح رجلا فوق كرسي متحرك يدفع عجلته ثم يقف أمام بائع السندويتشات. شم الرجل دخان الشواء ومضى يدفع كرسيه. لم يذكره أبدا هذا المشهد بحكاية الفقير وائتدامه برائحة الشواء وهو يأكل كسرة رغيفه اليابس، ولما هم بالانصراف، طالبه الشواء بثمن ماشم من رائحة، وما كان من الفقير إلا أن أخرج درهما، ورماه على مصطبة حجرية أمام الشواء، وهو يقول له: استمع إلى رنين الدرهم فهو ثمن رائحة الشواء.
لا لم تحضره هذه الحكاية الساخرة التي طالعها في كتاب المقامات وهو في مرحلة الثانوية. إلا أن ملامح الرجل الكسيح ذكرته في وجه يعرفه جيدا، يعرفه عز المعرفة كما يقولون. كان الكسيح متسولا. أو هكذا يذهب كل من قد يلتقيه فلا يتردد في التصدق عليه. أما هو فتبعه غير مصدق. متمنيا أن يكون مجرد شبه عابر بين ملامح الكسيح وصديقه القديم. لكنه وجد نفسه عاجزا على أن يواجهه. توجس من أن يكون هو. لم يلتقيا منذ أعوام. وقد بلغه أن مشاريعه أفلست، وأن صاحبته تركته بعدما تخلت عنه من قبل زوجته وأخذت الأولاد وغادرت البلد.
وقف عند سارية بالشارع ونادى باسم صديقه القديم.
- "عبد الرحيم.. عبد الرحيم..".
ومن الصدف أنهما يشتركان معا في نفس الاسم. تذكر مرة عندما قدم له صديقا له يحمل نفس اسمهما، فلم يكن منه إلا أن صاح في وجه الثالث ضاحكا: "الترينكا"، وهو اسم لعبة ورق تشترط جمع ثلاث أوراق متشابهة...
أعاد نداءه بصوت أكثر ارتفاعا.
- عبد الرحيم.. عبد الرحيم..
اقترب منه قليلا. تغطيه السارية الأقرب. تنفس الصعداء وحمد الله أن الكسيح لم يلتفت إلى النداء ولم يأبه بالمنادي. فعاد متابعا سيره صوب الكشك يبحث عن مجلته الفرنسية الأسبوعية التي تأخر وصولها. وصديقه الذي تأكد قبل قليل من سلامته مولع باللغة الفرنسية، ولا يتخاطب إلا بها منقوعة بكلمات عربية دارجة.
مرت أسابيع. نسي فيها قصة المتسول الكسيح والشواء، وأنسته مشاغله اليومية أن يسأل عن صديقه المفلس. إلى أن حل يوم أمس. كان خارجا من ممر لا يعرف اسما له، لكن الجميع يطلق عليه اسم ممر ورزازات، لأن به حانة تحمل اسم هذه المدينة الجنوبية التي قيل للناس إنها هوليود المغرب، إذ يتم استغلال طبيعتها وساكنتها لتصوير عدة أفلام أجنبية، أمريكية وغير أمريكية. وعند رأس الممر يقع دكان صغير يبيع حساء "البيصارة"، حين التقت عيناه بعيني الكسيح. هو نفس الكسيح. كان جالسا فوق كرسيه الحديدي يغمس كسرة خبز في بيصارته. فاتحا فمه المسوس الأضراس. فم يعتليه شنب طويل. أسرع في مشيته كمستعجل أو هارب من خطر داهم. كان يبتعد مهرولا خائفا أن يسمع نداءه باسمه. اسمهما. إنه هو. لم يعد له مجال للشك. كيف تخفى عنه نظرته. صارت خواء. أوأكثر حدة وغضبا.
الكسيح أيضا لم يكن يرغب في أن يراه على هذه الحالة. لقد التقت عيناهما وقالتا كل ما يمكن لهما أن يقولاه من كلام. كلام لا وصف لديه الآن.
ومع ذلك منى النفس أن يكون مخطئا وواهما. اتصل بأقرب الناس إلى الكسيح المفترض. حسن صديقه. عاشا طفولتهما ومراهقتهما وشبابهما معا. وعاشا بعضا من كهولتها أيضا معا، وبعدها فرقتهما الأيام، لكنهما ظلا يتتبعان عن بعد أخبار بعضها.

- ألو السي حسن.. هل لك أخبار عن صديقنا عبد الرحيم ل...
° هل التقيت به يتسول عند الممر...؟
- لكنه.. لكنه بلا رجلين.. كيف.. ومتى..؟
° آه.. كان المسكين أصيب بداء السكري و.....
- لكن كيف حدث هذا لصديقنا..؟
° حدث ذلك كما يحدث لجميع الناس من هم في حالته..
-لكن...
° اتركك من هذه "اللكن". أتعتقد أن ذلك لا يحصل إلا للغرباء الذين لا تعرفهم...؟...

انقطعت المكالمة. ولم يفارق وجه الكسيح صاحبنا. لم يعد قادرا على شم رائحة الشواء ولا اشتهاء حساء البيصارة. غير الكشك الذي يقتني منه المجلات والجرائد. واشترى من كشك آخر كتابا عن داء السكري.
(الحسيمة، المغرب)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي