الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


احتضار

سالم وريوش الحميد

2013 / 1 / 3
الادب والفن




_ (أحنا مشينا للحرب .. عاشق يدافع عن محبو بته )
كم خادعة تلك الكلمات ، كم من البشر سحقوا على أنغام هذه الأغنيات السمجة التي ملتها الأسماع
(اليوم عرسك يا أحمد ) ... تعالت الزغاريد تحمل سحب قاتمة لمستقبل مجهول ، وأُعدت كل تحضيرات العرس ، مع الصباح ذهبنا لحمام المدينة أنا وأصحابي تسبقنا ضحكات الفرح ، حلقت شعري لبست أجمل ثيابي ، تعطرت بعطر أبي ( ليت أبوك حاضرا لتكتمل فرحتنا )
قرأت ذلك في عيون أمي التي أذبلها البكاء
الحرب شرعت أبوابها لتختز ل عمر الورود
لم أحضر لمراسيم العرس ، ظلت عروسي تنتظر قدومي علني أكون واحدا من أولئك القادمين و الناجين من الموت في غفلة من قاذفات الجحيم ...
كم من الأحلام حملت على ذراعي , واقتنصت من الطيف ومضة هي واحة أمل استكمل بها بقية ثمالة عمري بعدما نشرت كل الألام على حبال ذاكرتي , خائف ألا يأتي ذاك الصباح ، أصوات ليست غريبة تطرق سمعي ، تأتي إلي محملة عبر الأثير ، تدق أبواب ذلك الرأس الذي يقتات الهموم والخوف ، أصوات ألفتها ، أسمعها بين الحين والحين ، غناء أشبه بالحداء ، وأنين المثخنين بالجراح ،
رائحة البارود تنتشر على طول الطريق المصبوغ بعتمة الليل
الجزع يأبى أن يفارقني ، كنت أظن إن بكاء أمي هو الذي يشرع أشرعة المساء ويأتي به مغلفا بحلته السوداء، تظللنا وحشة القبور في طقوس غرائبية ، حالة من ا لكآبة تجثم على نفوسنا حتى تأخذنا سنة من النوم رغم أن الموت محيق بنا ،
أبي الغائب في مدافن الوديان السحيقة هناك عند خطوط النار القصية يأتينا طيفا كل مساء أنصت إلى أمي تحاكيه تعاتبه (لمَ لمْ تعد مثلما عاد بقية الجنود ....؟) ، سنوات مرت ولم ينقطع ذلك الصوت الحزين عن العتاب ورائحة البخور التي راحت تشحذ بها ذاكرتي .. كلما جن هذا الزائر الثقيل ،
أصوات رحت أتخيلها ضجت بها كوة رأسي الصغير لم تفتر لحظة لم يصبها الوهن مهما حاولت أن أبعدها تخادعني ثم تتسمر برأسي فتأبى أن تغادره ، حياة لم أفقه منها شيئا غير انتظار سقيم لعودة غائب من المجهول ،
أصوات الانفجارات تحمل معها يافطات سود تعلق على الأبواب ( إن وعد الله حق ) ظلت ترسل إلينا كل يوم وفودها ، نعيق البوم يستفز فينا كل لحظات الخوف من الموت ، ساعة الوقوع تجتر ألاف الصرخات المكتومة من مدافنها بين حبيب وزوج وأخ وأم ثكلى نسمع نواحها وطفل يتيم ..
أنظر من مستطيل النافذة المطلة على الشارع أرى جارنا عباس العائد من جبهة القتال توا يحمل أبنته الصغيرة إلى الدكان ليشتري لها قطعا من الحلوى ، تفتر ابتسامة على شفتيه ، فرحا بسلامته لأنه تستر بلباس الصدفة من الموت لحظة أن أتى بإجازة ، تجتاحني رغبة بالبكاء أتطلع إلى البعيد لعله يعود ...الشمس تتكئ بتوءده على سطوح البيوت الجاثمة كالقبور
ابتسمت وأنا أراه يحتضن أمي بشوق يفوق حتى حبه لي ، ويطول عناقهما وكأنهما في غيبوبة تتخلل رأسي ألحان موسيقى حز ينة تعزف لهما لحن الوفاء و كأنها نذر ما بعد اللقاء ، وتطول ساعة العناق الحميمة وأنا أتوق لأن يحتضنني أن يقبلني أن يرفعني على كتفيه ،
، تتصارع الرغبات في داخلي ، فلم تفارقني أمي إلا ساعة أن يأتي إلينا ،
كتبت آخر صفحة من رحم الماضي وعلقتها على جدران الحاضر ، أبي لم يعد يأتي إلينا ، لم أر وجهه الذي غادر حيث المجهول لم يعد غير صورة بوجه كئيب كأنه يرثي أيام عاشها في حرب الثمان العجاف
أمي لازالت تمارس طقوسها اليومية بالانتظار المشوب بالقلق امتلأت ذاكرتي بآلاف الصور المشوشة ، وشل تفكيري أنا لا أفهم ما يحدث لي ،وأنا قابع هنا تحيط بي دياجير
ليل بهيم بدا كقطعة سوداء تضيع في ظلمته كل الهياكل والأجساد الخائفة ,,

،بيت أم أحمد القابلة المأذونة يافطة موضوعة عند الباب ،
كم من النساء لفظت ما بأرحامهن على يد أمي ليكونوا وقودا لتلك الحروب...
هكذا كانت تردد كلما تؤوب من رحلتها اليومية حاملة عدتها معها ..ومبلغ ز هيد . كنت أرافقها كلما
جاءت ساعة المخاض اللعين لامرأة تتو كأ على آلامها بأمل منقوص ، لا أحتمل أن أ سمع صراخها ، لازلت أذكر آلام الختان وأتحسس نفسي أخاف ذلك الكابوس المخضب بالدماء ، أسمعها تصرخ ولا أستطيع أن أهرب لزاما علي مرافقة أمي والعودة معها إلى البيت ، أشعر بقلقها خلف الأبواب المغلقة تحاول قدر الإمكان أن تستل ذلك الجنين الذي يأبى الخروج إلى عالم لا يرتجى منه خيرا ، رغم الصلوات والدعوات و بكاء الأم وهي تردد في حالة يأس يا... الله
أمن أجل نزوة عابرة تتحملين كل هذه الآلام ..؟ ،
لم أفهم حينها أن هذه هي سنة الحياة أنظر إلى عيون أمها تتوسل إلى الله أن يكون ولدا لأب شهيد ،
، رنوت إلى ابنة جارنا تمنيت أن ألعب معها غالبني النعاس فشطبت من ذاكرتي كل الأماني ،
( قدت حبال المودة منذ أن رحلوا وانقطع الأمل ) قالت أمي باكية كنت جالسا على حافة السرير وهي تمشط شعري تسترسل بالحديث عن أبي
أفقت من غيبوبتي (قصف بالقاذفات ( صراخ من بعيد
:- المكان مستهدف
حاولت الهروب لكن قدماي تسمرت في مكانها فقدت الإحساس بالاتجاه ،سقطت قربي قذيفة رمت بي في هوة سحيقة ، لم أستطع الخروج منها ،شيء أشبه بالملاك مد يده إلي حاول أن يخرجني لكني خفت أن يكون هو الموت ، زحفت بعيدا عنه ، حاول أن يجرني لكني تكورت على نفسي لم أعطه يدي ، الجثث تتوزع على طول خطوط التلال الترابية ،
ترمى حمم من النيران على السيارات المصفحة الهاربة من الجحيم ،
الهروب مستحيل تلك الشظايا تتجه نحوي ، السماء تنثرها كما تنثر الألوان في مهرجانات الفرح ..!
أين أنا من هذا العالم كله ..؟ ، قُطعت أحاديث المساء بعد أن كلت يدها من تمشيط شعري الأشعث وكأن لا هدف لها إلا الحديث عن أبي وهو يواجه معارك البقاء ، رغم إن القدر خط كلماته ليؤبنه ( ترجل من عربة الحياة وغادر إلى محطته الأخيرة (إنها إرادة الله ) ..
أنا وأمي أصبحنا حطام الحاضر ، أيقنت أن السيجارة هي حلم العاجز عن الوصول للحقيقة أخذت منها نفسا عميقا ، كتبت على الأرض خطوط بيضاء بالطباشير حوارية غريبة (البعد الرابع هو الزمن ) أمي تحظر علي البكاء ، الرجال لا يبكون ترفض إعطائي جواز
..مرور للنسخة الثالثة من الحرب ) وجدت نفسي وحيدا لن أهرب من قدري المكتوب ( ألم تقولي يا أمي إنها إرادة الله.. ؟ ز مت شفتيها وهي تحز م حقائب سفري
(كل القوانين تموت أمام عاطفة الأم ياولدي
، سأعيش ، أنا باق ، تضطرني لحظات الموت أن أمزق كل ما يحيط بي من شرانق لأخرج من بين أطنان الركام التي أحاطت بي
الأحلام ما عدت تصمد أمام عوامل التعرية ,
لازلت أحلم بابنة جارنا ... أراها ببدلة عرسها البيضاء تركض بخطوات واسعة في حقول تمتد وامتداد البصر شعرها يسافر معها ، تحمل بيديها بتلات الورد تتناثر على طول الطريق تسقط طرحتها تجرها وراءها فرحة بعودة الغائب ، يسبح جسدها بحزم من الأضواء البنفسجية ، أ راقصها ندور وكأننا نسبح في الفضاء ، غريب لم تر رأسي المفصول عن جسدي ...فرحتها أنستها ما أنا عليه ،
_ أعرف إنها تحبك ..؟ يا أحمد .. سأزفكما بعد أن تنتهي مراسيم الحروب
جفت منابع الدموع لكثرة الراحلين .. البرق تتكسر خطوطه عند الأفق ، المطر نزف آخر قطراته
صورتان تقاسمتا الحائط الكئيب لي ولأبي ... وامرأة تجلس هناك قرب موقد النار متقوقعة أحنى الزمان ظهرها تنتظر عودة أحدنا ، ياترى من الذي سيعود..؟ لم أسأ لها أي منا ترغبين عودته.. ؟ ، أعرف أنها ستخادعني وتقول كلاكما ... تريد أن تفرح بعرسي ، تريد أن تعود بها الأيام إلى آخر مضجع جمعها بأبي ..
_ ها أنا يا أمي لا زلت أحمل بذرات الحياة .. لن أموت ، سأ عود أليك
رنت إلي وبعينيها عتاب
_ أنا لم أكن مذنبا ، أنا مجبر على البعاد ، ..
أشاحت بوجهها عني حين رأتني بهذا الانكسار، الجراح عميقة ، ولازالت الخناجر تغور في الأعماق ..
أنا عائد من ديار الموت القصية ، لا احتمل نظرات العتاب ولا إشارات الاتهام .
أمي لم تغادر مكانها ، شجرة قميئة تقوقعت في ذات المكان تنتظر يوم الخلاص ، منذ أن رحلت عنها وهي تراني طيفا يبدد وحشتها ، استقر بي المقام هنا على الحدود الجنوبية يغطيني تراب النسيان وركام من القنابل المخضبة باليوانيوم زرعت في جسدي تقتات منه فتبرعمت وأصبحت غيلان ، أمي تسجر كل يوم تنور حزنها الأبدي ، وأبي هناك على الحدود الشرقية جدث مسجى تنهب أشلاءه الوحوش .. بحثوا عمن يستلم تلك الرفات .. لا أحد يعرف عنا شيئا .. الكل ضاع في غياهب المجهول ..
وقبل أن أدفن.. .. هربت أحمل أشلائي فوق رأسي المقطوع عز علي أن أفارق دفء أحضان أمي فجئت أطوف بين ملايين الموتى لألقاها ..كم كانت فرحتي كبيرة حين رأيتها جالسة في ذات المكان لازالت تنتظر عودتي ، رأيت أقدامها متجذرة غائرة في أعماق الأرض كأشجار النخيل ركضت نحوها ، تدحرج رأسي قربها ، لم تأبه لي ، هالني أنها لم تفرح بمقدمي ، أشعلت عود البخور وقالت بأسى
ابوك لم يأت بعد ..؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث