الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سطوة الحكاية

صبحي حديدي

2005 / 3 / 22
الادب والفن


لا تفاخر الثقافة الدانماركية بالكثير من النجوم الذين طبقت شهرتهم الآفاق وقدّموا للإنسانية ذلك الطراز من القِيَم الكونية، التي تعبر بسهولة حدود البلد والنطاق المحليّ إلى رحاب عالمية شرقاً وغرباً. هنالك، مثلاً، الفيلسوف سورين كيركغارد (1813ـ 1855) صاحب التأثير العميق في الفكر اللاهوتي الحديث والفلسفات الوجودية. هنالك، كذلك، الروائية والقاصة كارين بليكسن (1885ـ 1962)، كاتبة العمل الشهير «خارج أفريقيا» الذي خلّده الأمريكي سيدني بولاك في الفيلم الشهير الذي يحمل الإسم ذاته، وصاحبة الأسلوب الفريد الذي يجمع العجائبي والجمالي والإيروسيّ والأرستقراطي في مزيج واحد تخيّم عليه روحيّة ألف ليلة وليلة والحكاية المفتوحة المتوالدة أبداً.
لكنّ الإسم الأبرز، دون ريب، هو ذاك الذي بدأت الدانمرك (على نحو باذخ تماماً، ومبرّر أيضاً) الإحتفاء بذكرى ولادته المئوية مطلع العام، حيث ستبلغ عشرات مظاهر الإحتفال أوجها في الثاني من نيسان (أبريل) القادم، يوم ميلاده. إنه هانز كريستيان أندرسون (1805ـ 1875)، الذي لا يختلف الكثيرون في اعتباره مؤسس قصة الأطفال بالمعنى الحديث للمصطلح، خصوصاً في جوانب النضج الفنّي والسعة الرمزية والتمثيل الأخلاقي والمدلولات الإنسانية العريضة وعلم جمال الطفل وحسن مخاطبة وجدانه وعقله وروحه. وليس غريباً، هكذا، أن يضع الفيلسوف كيركغارد كتاباً كاملاً عن واحدة من روايات أندرسن، وأن تستلهمه الروائية بليكسن في العديد من أقاصيصها.
والدانمارك، مثل كلّ بلدان العالم، تضمّ الكثير من المعالم التاريخية والأثرية والمعمارية والثقافية التي يحرص زائر البلد على مشاهدتها لأسباب شتّى. هنالك، بالطبع، قلعة كرونبورغ في هلسنغور، والتي تُعرف عالمياً باسم أكثر شهرة هو «قلعة إلسينور». كيف لا، وقد خلّدها وليام شكسبير حين جعلها موقع مسرحية «هاملت»، حيث رائحة العفن تفوح من المملكة! هنالك، أيضاً، حدائق الـ «تيفولي»، مدينة الملاهي الشهيرة التي أطلقها جورج كارستنسن في العام 1843 لكي تعكس أوسع تمثيل ممكن لثقافات العالم، معمارياً على الأقلّ. هنالك، أخيراً وليس آخراً، القصر الملكي المطلّ على ساحة فسيحة، حيث يجري ظهيرة كلّ يوم تبديل الحرس الملكي على نحو يذكّر كثيراً بالطقوس البريطانية الشهيرة.
غير أنّ تمثال «الحورية الصغيرة» هو الأشهر على الإطلاق، والأكثر اجتذاباً للزائر، والأشدّ فتنة في الواقع. ورغم وجود عشرات التماثيل الضخمة ذات الخصائص الفنية والتاريخية المميّزة المدهشة، فإنّ هذا التمثال بالذات هو الذي يرمز اليوم إلى العاصمة كوبنهاغن، وربما إلى الدانمارك بأسرها، تماماً كما هي حال برج إيفل في فرنسا، وساعة بيغ بن في بريطانيا. هو أمر يبدو للوهلة الأولى مدهشاً حقاً، فالتمثال البرونزي الصغير يمثّل حورية بحر تجلس على صخرة قريباً من اليابسة، تستجمع يديها في حجرها، وتتجه بنظرها صوب البحر، مطرقة ساهمة حائرة. الحركة بسيطة تماماً، بل هي تبدو أقرب إلى السكون منها إلى الحركة.
غير أنّ الناظر إلى التمثال سرعان ما يقع تحت سلسلة من خيوط السحر السرّية أو الخافية، ويخضع لسلسلة أخرى من التداعيات الدافعة إلى تأمّل عميق يتجاوز كتلة التمثال وصورته الخارجية، ويصنع مباشرة جملة معقدة من الرموز والدلالات والإيحاءات. فالتمثال نحته إدوارد إريكسن في العام 1913 ليكون، في الأساس، بمثابة تكريم لشخص وأدب هانز كريستيان أندرسن، وتحديداً عمله الأشهر «الحورية الصغيرة» الذي ذاع صيته في طول العالم وعرضه.
والحكاية، للتذكير، تروي قصة حبّ بين حورية بحر وأمير من بني البشر كانت قد أنقذته من الغرق، واضطرار الحورية إلى التضحية بصوتها وأسرتها والوطن المائي الذي تنتمي إليه مقابل موافقة الساحرة الشريرة على تحويل ذيلها إلى قدمَين ترقص بهما أمام الأمير لكي يعشقها. لكنّ الأمير كان قد وقع في غرام الأميرة الإنسية التي عثرت عليه ملقى على الشاطىء، ظانّاً أنها هي التي أنقذته من الغرق. أمّا شرط استرداد الحورية لذيلها، وحياتها المائية الطبيعية تالياً، فهو أن تغرز خنجراً في صدر الأمير، وهو ما تتردّد الحورية في القيام به، وتقوم بدل ذلك بإلقاء نفسها في الماء فتتحوّل مباشرة إلى زبد.
والحال أنّ التمثال يلتقط الحورية في تلك اللحظة الفريدة من التبصّر ــ الحائر والجارح والحزين ــ في خياريَن أحلاهما مرّ. ولهذا فإنّ إطراقة الحورية تظلّ مدعاة جاذبية عميقة لبني البشر من زائري التمثال، الحائرين بهذا القدر أو ذاك في خيار صعب من نوع ما، أو المتأكدين ضمناً أنهم سوف يكونون في موقع هذه الحورية ذات يوم... ذات قرار! هذه قوّة الأدب، باختصار بليغ، وليس من المستغرب أنّ تمثال أندرسن صاحب الأدب (وهو تمثال طريف وجميل يقع في ساحة بلدية كوبنهاغن ويطلّ على الـ «تيفولي»)، لا يحظى بنسبة 10% من مجموع زائري تمثال «الحورية الصغيرة»، هذا إذا فطن إلى وجوده آلاف المارّة من عابري هذه المنطقة المزدحمة.
قوّة الأدب إذاً، وسطوة الحكاية التي تبدأ من الخرافة ولكنها تمسّ صميم عيش الناس، فتنقلب إلى أمثولة دافعة للتأمّل في أحوال البشر على سطح الأرض بدل الحوريات في قيعان البحار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لما تعزم الكراش على سينما الصبح ??


.. موسيقى وأجواء بهجة في أول أيام العام الدراسى بجامعة القاهرة




.. بتكلفة 22 مليون جنيه.. قصر ثقافة الزعيم جمال عبد الناصر يخلد


.. الكلب رامبو بقى نجم سينمائي بس عايز ينام ?? في استوديو #معكم




.. الحب بين أبطال فيلم السيد رامبو -الصحاب- ?