الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شهرزاد والحكاية ..

عائشة مشيش

2013 / 1 / 5
الادب والفن


أرخت شهرزاد بظلالها على تراجيديا شكلت رؤوس النساء فيها قربانا للذكورية الحاكمة، تلك الذكورية التي أهينت كرامتها. والحال هو أنها ليست ذكورية عادية، بل إنها رمزيتها. فالعرش بأركانه وطقوسه وتاجه إنما ينطق رمزية السلطان ذي الفحولة المسورة بالسيوف والقوة، وكل الصفات التي يحاكيها الإنسان المهووس بالسلطة كما كان الحال لدى الإغريق في أسطورة هوميروس، حيث الإنسان كان يحاكي الآلهة الإغريق.
في حالة معكوسة كانت هيلين نذير شؤم على شعب طروادة، حينما أهانت مينيلاس، فكان أن دمر الآثينيون حضارة طروادة، ليس عن طريق القوة، وإنما عن طريق الفتنة والإغواء: هدية الحصان الذي فتن حكام طروادة، فأقبلوا عليه لكي يجدوا فيه حتفهم، كان بطل هذه الفتنة أوليس الماكر الذي استطاع بمكره وإغوائه أن يحقق ما لم تحققه كل جيوش أثينا. كان أوليس يعرف معنى الإغواء، وذلك هو ما أنقذه من خطر جزيرتي كاريبد وسيلا حيث كانت عرائس البحر تفتن، بأصواتهن الساحرة، ربان السفن بالتقرب إلى الجزيرتين حيث الهلاك والموت؛ ولم ينجح في ذلك إلا بعد أن طلب من جنوده إغلاق آذانهم بالشمع. أليست صوت الموسيقى فتنة وإغواء وإبطالا للعقل وتشغيلا للعاطفة ؟
على العكس من هيلين، كانت شهرزاد فائقة الذكاء والفطنة والمكر الجميل، حينما واجهت شهريار بشجاعة كي تهدئ من روع السلطان المجروح، فبدل الحرب والقتل والسيوف، كان الذكاء والإغواء قمينان وجديران بأن يحولا مجرى الأحداث المأساوية: كل ليلة يتزوج شهريار ويستمع إلى حكاية، فلا يكاد يتبين نور الفجر، ويستيبن بياضه، حتى تكون المرأة الحاكية قد لبت شهوة السلطان في الانتقام. تبدأ كل ليلة بزواج وحكاية وتنتهي بموت الحاكية المرأة كقربان.
من يوقف هذا الرهان الدموي ؟ ليس في الرجال من يفعل ذلك، ولا في النساء من يستطيع ذلك. فقط الجمال الروحي لشهرزاد ومكرها الفطري يستطيع أن يوقف هذه اللعبة المأساوية، لعبة الموت، حيث الروح لا تبلغ أن تساوي قدر الحكاية. على الحكاية أن تكون أقوى من السلطان نفسه بكل أركان عرشه ودروعه وحاشيته وغلمانه وجواريه.
كيف للحكاية أن تكون أقوى من السلطان ومن السيف ؟ كيف للحكاية أن تجعل العرش خاليا من الملك ؟ على الحكاية أن تكون أكبر من نفسها ومن كل هذا المشهد الرهيب. هذا ما فكرت فيه شهرزاد التي امتزجت عندها الحكاية بالإغواء والفتنة، اللسان الفصيح والمبدع والمخترق للسلطة وفحولتها. الحكاية الفاتنة واللسان الفاتن. أليست الفتنة أشد من القتل ؟
هي كذلك بالفعل ! فالفتنة بلبلة وشغب صامتان، لكن قادران على زعزعة ثبات العقل وهيبة العرش وقوته. تقلب الفتنة الوضع، فيصبح العقل جنونا والقوة ضعفا والسيف حريرا والبأس حبا والغضب حلما والعنف عاطفة والقسوة ليونة والكآبة فرحا والقلق انشراحا والسياسة شعرا والظلم عدلا والتوتر سكينة ... هكذا تصبح الحكاية الفاتنة رحمة مزدوجة: تنقذ السلطان من الكراهية والنساء من الموت. تلك هي عبقرية شهرزاد: المرأة التي جمع فيها الحسن والجمال وفن اللسان ونور العقل وعمق الحكمة والمكر المليح ...
قال الشاعر مظفر النواب:
كيف تجرأتَ تدّقُ علينا في الليل
فإن اللذات تنام وراء الباب بدون ملابسها
ويسيل لعابك...
كيف اللذات تكون بدون ملابسها؟

طرقت شهرزاد قلب شهريار حيث ترقص اللذات وترقد العواطف وتنتفض الشهوة وتتمرد الرغبة وكل الأشياء الجميلة التي لا تخلو منها أعتى القلوب. أيها الأمير، أنا سأحكي لك حكاية ! تقول شهرزاد وحال لسانها يقول: أيها الأمير، أنا سأفتنك فتكف عن القتل ويهدأ روعك ! ذلك أن الفتنة هي أيضا إغواء وإغراء. أن أغري يعني أجعل المعنى أقوى وأضخم من حجمه، فأجعل الطرف الآخر يضعف أمامي. في كل إغواء مغامرة ومقامرة ! ألا يغري المال بالسرقة ؟ ألا تغري الحسناء بالعصيان ؟
أن تغري شهرزاد الأمير معناه أن تجعله يتوقف عن القتل رغبة في المزيد من الإغراء، فينتصر الفن على بأس السيف، وتنجو باقي النساء من لعبة الأمير القاتلة. تبدأ الحكاية بالفتنة والإغواء، وينسكب الحكي كقوس قزح لمعانا فاتنا يعطل مركزية العقل ويؤجج المشاعر ويخصب العواطف، فيدخل الجسد في حكاية لا نهاية لها. تلد الحكاية حكايا أخرى فاتنة تلد هي الأخرى حكايا تطيل أمد الإغراء والفتنة، فيصبح الأمير "مهزوما". وإذا كان عقل الشيء هو مسكه وربطه، فإن فتنة العقل تعني جعله يفلت عن عقاله، وتقولها العرب أيضا عن المجنون ! رجل مفتون أي مجنون، فمنزلة الفتنة هي منزلة جنون. وفي السياسة تمرد وعصيان يستدعي القتل، قال الحجاج:

يا أهل الكوفة إني والله لأحمل الشر بحمله، وأجزيه بمثله، وإني أرى أبصارا طامحة وأعناقا متطاولة ورؤوسا أينعت وحان وقت قطافها، وإني لصاحبها ... إن للشيطان طيفا وإن للسلطان سيفا !
حولت حكاية شهرزاد نهار الملك ليلا أبديا، فلم يعد يستفق إلا من أجل سماع باقي الحكاية الفاتنة التي ما أن تنطلق حتى يجد السلطان نفسه في بحر تتقاذفه الحكايات الفاتنة، فالحكاية ترميه من حكي إلى حكي، وفي حكي تفاصيله مغرية تفتن القلب وتذيب الروح فتملأها حنانا وعاطفة وشوقا وتطلعا للمزيد ... فالحكاية حكايات ينسكب منها الخيال كالماء الزلال وكإكسير الحياة.
أتبثت شهرزاد أن الحب والفن والحكي والسر الفاتن دواء شاف لكل روح مجروحة أو مهانة مكتئبة. ولم يستفق السلطان وتنتهي الحكاية اللامتناهية إلا بعد أن كانت شهرزاد قد أنجبت منه أطفالا، فاستحال عليه قتلها وانتهت اللعبة المأساوية وتوقف الرهان وانتهى الألم وانتصر الحب.

عائشة مشيش








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحياتي
شامل عبد العزيز ( 2013 / 1 / 4 - 23:04 )
مبروك لكِ المقال الأول في الحوار المتمدّن

ما نتمناه هو الاستمرار ولو بين فترة وآخرى في اختصاصكِ
خصوصاً فيما يخص قضايا المرأة مع العلم أن الموقع يشجع هذه الكتابات للوجوه الجديدة مع
ملاحظة أن الموقع
لديه عدة أبواب تخص المرأة في مجتمعاتنا والمعاناة التي تعترض طريقها في مجتمعات يغلب عليها الطابع الذكوري ولعدة أسباب
مع التقدير


2 - حصان طروادة والربيع العربي
محمد مختار قرطام ( 2013 / 1 / 5 - 06:01 )
تحياتي للكاتبة
اولا اهنئك للمقال الاول في الحوار المتمدن
ملحوظة لعنوان التعليق فأن كل دول المنطقة يوجد بها حصان طروادة وسيفتح في الوقت المطلوب منه كما نرى الان في تلك البلاد الطروادية . اي المطرودة من المدنية والقابعة تحت حكم الظلام والتخلف والجهل الذي مازال يسيطر على العقول والعباد وهانحن الان وامام العالم اجمع مازلنا نعيش في تلك الجزيرتين التي تهاب منها سفن العالم كما يحدث الان في الصومال من خطف وترويع فأننا ايضا مخطوفون داخل تلك الجزر فهل من محرر لنا
اما بالنسبة لموضع مقالك المرأة فهي بداية حياتنا ونحن نخشى من حواء ونقول انها السبب في خروجنا من الجنة ونزولنا الى الارض والشقاء ولكن لا احد يقول ان أدم هو السبب الذي لم يستطع ان يقاوم شهوتة او يسيطر عليها وكان طامع في جسد حواء وهكذا تبين القصة سذاجة أدم كما تؤكدها شهر ذاد في تعاملها مع شهريار
اما في الحضارات المحترمة ستجدي المرأة ملكة وتقود دولة وشعب الى النصر والتقدم والازدهار كما حدث في عهد حتشبسوت ونفرتيتي وكانت تقف دائما بجوار الملك او تقود الشعب والتاريخ مليئ بالحقائق ولا تنسي شجرة الدر وهزيمة جيش الصلبيين في مصر


3 - الاستاذة عائشة مشيش المحترمة
فاتن واصل ( 2013 / 1 / 5 - 14:15 )
كثيرا تساءلت لماذا لا تكتب عائشة وخاصة حين قرأت عدة مرات كلماتك العذبة وأفكارك الجميلة وخيالك الأخاذ على صفحتك بالفيسبوك، واليوم وجدت مقالك الأول فسعدت جدا لأنى أعرف أن لديك الكثير، استمتعت بالمقال وقد لاحظت أنك تمتلكين ناصية اللغة ولا تخافين، وهى كما تعرفين جسر التواصل بين عقلك الجميل وقراءك، تمنياتى لك بالتوفيق وألف مبروك على المقال الأول وننتظرالذى يليه.
أما عن الاغواء فقد كنت بالأمس فى نقاش عن فكرة إلقاء كل اللوم على حواء فى الاسطورة وكأن آدم غر وطفل ساذج ضحكت عليه وغررت به إمرأته!! ثم توريث صفات مثل الغدر والاغواء بهدف الايقاع بالرجل على كل بنات حواء، وتجدين هذا فى القصص والروايات والنكات وأحاديث القهاوى وفى الوعى الجمعى للنساء قبل الرجال، وحتى فى الأحاديث النبوية والقرآن .. مظلومة حواء وبناتها لكن من يعرف .


4 - استاذ شامل عبد العزيز
عائشة مشيش ( 2013 / 1 / 5 - 20:22 )
أستاذ شامل تحياتي
الحقيقة اني مرتبكة من تجربتي هذه الجديدة علي رغم ان مقالتي هذه نشرت في ملحق جريدة الدستور من قبل , وبهذا تكون المرة الثانية لي في هذا ..
الا اني لا اخفي خوفي من مسؤولية النشر لما فيها من مجازفة ..أتمنى أن اكون في مستوى طموحاتي وفي مستوى المتلقي لي ..
تجياتي وتقديري


5 - الاستاذ محمد مختار قرطام .
عائشة مشيش ( 2013 / 1 / 5 - 20:33 )
تحياتي
أشكر مرورك ..
أكيد سيد قرطام ..سيأتي من يحررنا من بحر التخلف الذي نسبح في ..أملي في جيلنا لن ينقطع والاجيال الاتية ..ستنجلي الغمة أكيد ..
حواء سيدي لا خوف منها ..ولا خوف عليها ان تربت في تربة جيدة ..قوامها الحرية والاعتزاز بالنفس والاحساس بالذات ..وهذا رهين بتغير كل منظوماتنا ..حين نتحرر من الاستبداد والظلم تتحرر المرأة ..لانها جزء من الكل ..
كل التقدير لك سيدي


6 - أستاذة فاتن واصل
عائشة مشيش ( 2013 / 1 / 5 - 20:41 )
سؤالك والله خطر على بالي كثيرا ..
ولا اخفي عليك ان طموحي ان اكتب ..وان انشر ..الا ان دراستي وانشغالي بمراجعي تبعدني عن ذلك , الا ما انثره احيانا على الفايسبوك من خواطر وموضوعات تشغل بالي كمواطنة عربية مهمومة بمشاكل وطنها الكبير ..وبهموم نصف سكانها وهي المرأة ,
الاغواء سيدتي ارتبط بالمرأة بسبب الاساطير والخرافات التي ورثناها عن الاجداد .. فأول حكاية بدأ بها الحاكي ..هي اغواء حواء لادم ..وكأن آدم كان طفلا سهل التغرير به .. بدأت الحكاية وصدقها الكل ..
تحياتي وامتناني لكي استادتي وصديقتي

اخر الافلام

.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي


.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل




.. ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ


.. عدت سنة على رحيله.. -مصطفى درويش- الفنان ابن البلد الجدع




.. فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي