الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قروان ع الباب

محمد أيوب

2005 / 3 / 22
الادب والفن


قروان ع الباب
قصة قصيرة
بقلم : د . محمد أيوب
تحسس جدران زنزانته السوداء بأصابع يده .. إنه يألف هذه الجدران .. بدأ يتعود عليها تدريجيا ، على الرغم من رطوبتها ، هذه الرطوبة وتلك اللزوجة تشبهان إلى حد كبير رطوبة ولزوجة جلد الضفدع.. حتى الحياة داخل هذه الزنزانة أصبح لها مثل تلك الرائحة التي تصدر عن الضفدعة إذا حاول أحد إيذائها .. وعلى الرغم من كل هذا فقد بات يألف هذه الجدران وهذا النمط من الحياة - لم يدرك لذلك سببا - أهو الاستسلام للقضاء والقدر؟ أم إنها العزيمة الصامتة زرعت هذه الألفة ورعتها ؟ .
كان يمضي معظم أيامه في التحرك بين الجدران الأربعة.. يستعيد بعض أبيات الشعر التي حفظها أثناء دراسته ، أو يحاول أن يسرّي عن نفسه بحك نوى الزيتون بأرضية الزنزانة حتى يثقبها ، ثم يحاول إخراج محتويات النواة بواسطة بقايا أعواد الكبريت التي تكون ملقاة في القناة الصغيرة بالقرب من باب الزنزانة .. فإذا تجمع لديه عدد كاف من حبات الزيتون أخذ ينسل بعض الخيوط الرفيعة من الفوطة التي في عهدته ، ثم يفرك عدة خيوط في كفيه ليصنـع منها خيطاً أكثـر سمكاً ، يمرر عليه قطعة الصابون ليزداد قوة ومتانة ، .. يبدأ بعد ذلك في إدخال حبات الزيتون واحدة اثر الأخرى ليصنع مسبحة يستعين بها على قضاء وقته ... فإذا أصابه الملل هرب إلى الجدران السوداء من أثر هباب تراكم عليها .. يبدو وكأن هذه الزنزانة كانت مطبخاً صغيراً في يوم من الأيام - فهي في سعة مطبخ متواضع - معتمة كأنها القبر ، لا ينير ظلمته أشد المصابيح إضاءة ، وعلى الرغم من أن المصباح مضاء ليل نهار ، فإنه لا يكاد يشتت شيئاً من ظلمة هذه الجدران، ومع ذلك فإنه يهرب إلى هذه الجدران يحاول الانتصـار على سوادها القـاتم .. يمسك بقطعة الصابون التي في حوزته ، يخط أبيـاتا شعرية على أحد الجدران ، ويكتب بعض الآيات القرآنية ، وعلى جدار آخر رسم عدة مربعاتً صغيرة يضع في كل منها علامة عن كل يوم يمر بين الجدران الأربعة ... فقد كان يـعرف أن اليوم قد انتهي حين ينادي أحد السجانين للمرة الثالثة " قروان ع الباب " وبتناولهم وجبة العشاء ينتهي يوم آخر... فإذا ما تسلل الملل إلى نفسه حاول أن يسري عنها بالنظر من خلال الفتحة الصغيرة الموجودة بالباب .. كان ينظر إلى السجان وهو يروح ويجئ في الممر .. يدق كعبيه بالأرض ، وعصا غليظة تتدلى من جلدة بين أصابعه .. كان يحاول من خلال هذه الفتحة أن ينظر إلى نزيل الزنزانة المقابلـة ويتحدث معه بالإشارة .. يسأله: ما الأخبار في الخارج؟ ولا يتوقع أن يسمع جواباً فهذا النزيل حل ضيفاً على الزنزانة ليلة أمس فقط ! و لا بد أن يخاف من الكلام ! ترى ما هي تهمة هذا النزيل ؟ أهي حبه للحياة ؟ للناس ؟ أهي مثل التهم الموجهة إليه يا ترى ؟ ها قد مضي عليه شهران بين هذه الجدران الأربعة ! حتى أنه بدأ يعتقد أن من يدخل جوف هذه الغرفة كالجنين الميت في بطن أمه .. لن يرى النور أبدا .. إلا أن فرحة غامرة تشمله حين ينظر من تلك الكوة التي في أعلى الزنزانة، يصيح لنفسه جذل ا: آه الدنيا بخير ..لا زال القمر في السماء ينير الأرض للناس ، ويضحك مع نفسه .. ما دام القمر يرسل أشعته من خلال الكوة العليـا فل ابد وأن يعيش بالأمل .. سيرى النور مرة أخرى ، وستصبح هذه الجدران السوداء مجـرد ذكرى ! يضحك حين يذكرها أو يتحدث عنها إلى أولاده !
لم يكن يزعجه من رتابة أيامه وبطء حركة الزمن سوى تلك الكوابيـس التي تهاجمه كل ليلة ... نفس الكابوس يتكرر ! حتى بات يخشى قدوم الليل ، على الرغم من أنـه يريحه من كثير من عنـاء النهار ... بات يكره الليل من أجل ذلك الكابوس المرعب ، بمجرد أن ينـام وبمجرد أن يغوص في أعماق بحر النوم تطل عليه من فتحة الزنزانة عينان تشـعان بصورة غريبـة! ليس فيها من الحب شئ! ومن بين العينين تتبين له ملامح أنـف ضخم مثل حبة الكمثرى فوق شنب أصفر مائل إلى الشقرة ، لكنه مبروم بعناية فائقـة ، ثم ينفتح باب الزنزانة ، وفجأة يجد نفسه معلقاً من يده بواسطة أساور حديدية إلى برواز حديدي لشباك غرفة جدرانها كاتمة للصوت .. يصرخ فلا يسمعه أحد ... يحاول أن يستريح فلا يستطيع ... يحاول ابتلاع ريقه فيشعر أنه أكثر جفافاً من الحطب المشتعل .
تهتز الدنيـا أمام عينيه ، ثم تنـفلت يداه ويسقط وقد اختلط لديـه الوعي باللاوعي ؛ فيرتطم بالأرض بشدة ويمتلئ جسده بالكدمات.. حاول أن يغير موضع رأسه ، فقد كانت جدته العجوز تقول له إنه إذا رأى ما يزعجه في نومه فما عليه إلا أن يغير من وضعه أثناء النوم .. أن يجعل رأسـه مكان قدميه وقدميـه مكان رأسـه .. فعل ذلك على الرغم من عدم قناعتـه به – لعـل وعسى - لعل أفكار هذه الجدة العجوز تنجح أخيراً، ويقرأ بعض آيات القرآن ، ومع ذلك يأبى الكابوس أن يتراجع عن لياليه .. كان في بداية معرفته بهذه الجدران يكره النهار من كثرة ما يراه في ضوئه.. يتمنى قدوم الليل، حتى الليل نغصه عليه ذلك الكابوس اللعين .. وحتى الفتحة الصغيرة في باب الزنزانة ... يبدو أن هناك من اقتنع بضرورة إغلاقها ، ربما كانت أكثر مما يحتاج إليه .. أغلقت الفتحة لتحرمه من آخر منفذ له يطل منه على عالم السجن الذي كان يراه أوسع مما يتصور على الرغم من صغره ! إنـه يشعر بحريته الحقيقية هنا ! يستطيع أن يطلق لأفكاره العنان دون خوف ! حتى لسانه تمكن أن يطلقه بلا تردد.. فليس هناك ما هو أسوأ من زنزانة في سجن .. إنه يستطيع أن يشتم .. أن يلعن وأن يسب .. لم يكن في الخارج ليجرؤ على مجرد التفكير في أي شيء خشية أن تقوده أفكاره إلى السجن .
لقد كان على الرغم من حريته الظاهرية في الخارج حبيس الخوف القابع في جوفه ، وها هو الآن في السجن ! فمم يخاف ؟ ليطلق لأفكاره العنان ، وليقل ما لم يكن باستطاعته قوله في الخارج .. سيلعن ويشتم .. سيقول كل شئ - أي شئ - ويدق باب الزنزانة بعنف .. يهزه بشـدة ، ويأتي الحارس على صوت الطرقات .. يشتمه الحارس ، فيستجمع كل ما يستطيع فمه أن يفرزه من لعاب ويبصق في وجه السجان ويقول : من تظن نفسك ؟ أنت مجرد سجان ! أقل حتى من شرطي قذر ! ويمسح السجان البصقة عن وجهه مهددا متوعدا : لن تنل ولعة هذه الليلة ! يبصق مرة أخرى ويمزق سجائره ثم يدوسها بقدمـه قائلا : هذه هي سجائرك التي تهددني بها ، وينصرف السجان ويغلق الفتحة بقطعة خشبية وضعت خصيصا لذلك .. لقد منعوه من النظر خلال الفتحة ، لكنه لن يعدم الوسيلة .. سينظر من تحت الباب وسيرى ولو مجرد أقدام من يمرون أمامه وسيعرفهم من أقدامهم .. خلا طارق إلى نفسه .. لم يكن يود أن ينصرف السجان .. كان يود لو تبادلا العزف على هذه السمفونية من الشتائم .. لكنه الآن وحيد ، وسيأتيه النوم ومعه ذلك الكابوس المزعج .. نام هذه الليلة ، لم يزره الكابوس .. زاره بدلا منه حلم لذيذ .. رأى نفسه يسير في حديقة واسعة مترامية الأطراف كأنها الجنة.. فيها كل ما تشتهيه الأنفس ، وجداول ماء تنساب بين أشجارها ، وقلوب مرسومة علي جذوعها ، وكيوبيد يرفرف بجناحيه يوزع سهامه على هذه القلـوب ، وحبيـبان يختلسان القبلات تحت ظلال شجرة ياسمين في ليلة قمرية . همس لنفسه : لقد كان هذا الكابوس حلماً في ليلة صيف ! وفي الصباح استيقظ على صوت السجان يقول: قروان ع الباب .

ملاحظة : القروان : وعاء الطعام








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس


.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في




.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب


.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_




.. هي دي ناس الصعيد ???? تحية كبيرة خاصة من منى الشاذلي لصناع ف