الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دور المال في خراب العراقيين

نصير عواد

2013 / 1 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


هطل المطر على بغداد فأغرق شوارعها. في اليوم التالي خرج المسؤولون يبشرون بتوزيع المنح المالية على المتضررين من مياه الامطار، فهل ينبغي علينا أن نفرح ونكتب قصائد مدح وثناء، أم نضع علامات الاستفهام خلف هذا السخاء الحاتمي الذي نزل فجأة على حكومة فاقدة للمصداقية وسبق لها أن بددت وسرقت الملاين من ثروة البلد؟. خصوصا وأن الكثير من هؤلاء، الذين يوزعون المُنح مبتسمين أمام عدسات المصورين، لم يُفصح حتى اليوم عن ذمته المالية وعن مصادر جمعها، واثبتت الأحداث أن بعضهم قادر على الكذب والمساومة وازاحت كل من يقف في طريقه ويهدد ثروته التي جمعها من استغلال المنصب وغسيل الاموال المنهوبة. الرأي أن ليس أسوء من وجوه السياسيين الحالكة والمنتشرة على شاشات التلفزة، تلوك الكذب والنفاق، إلا هذه المنح المالية التي لا تعز ولا تغني، وأسوء من الاثنين هو قبول الفقراء بهذه المنحة التي هي أقل بكثير من حقوقهم الشرعية. والمؤلم أنه كلما زاد تبجح العراقيين بفطنتهم وبأنهم "مفتحين باللبن" سهل التحايل عليهم وشراء ارادتهم وصمتهم بالفتات. فبسبب الطيبة العراقية المبالغ فيها ظن البعض أن هذه المنح والأموال تُقدم لوجه الله تعالى، وأنها عربون محبة وحرص على حل مشاكل المواطنين وأن أصحابها "فاعلوا خير" يتصدقون على الفقراء، مع أن كل ما يجري في الشارع العراقي من دناءات وسرقات وصراعات يقول عكس ذلك.
نتذكر جيدا كيف خرج الصحفيون إلى الشارع في تظاهرة للمطالبة بحقوقهم ثم خمد صوتهم بعد أن وزعت عليهم مُنح مالية بائسة لا تكفيهم طعام أسبوع واحد في الشهر، وفي الفرات الأوسط تذمرت العشائر وجيء بها بـ(اللوريات) إلى مراكز المدن للتظاهر فوزعت على شيوخها مبالغ مالية ومسدسات شخصية، والقائمة تطول مع بقية شرائح المجتمع. ثم سرعان ما عرفت حكومة "المظلومين" ديدن الشارع العراقي وصارت بين فترة وأخرى تلوّح له بصيد جديد تلهيه وتشغل باله، مرة بمستحقات الشهداء والسجناء والمهجّرين بسبب الديكتاتورية ومرة أخرى بتعويضات ضحايا الارهاب والحرب الأهلية وثالثة بحقوق المتقاعدين والأرامل، صار معها الشغل الشاغل للمواطنين هي كيفية الحصول على التعويضات والحقوق المادية، وانحسر قاموسهم بمفردتي الربح والخسارة؛ بمعنى إن المواطن هنا، وهو يأكل من لحم ثوره، ليس أفضل حالا من السياسي في قبوله الرشوة وصمته وموافقته على عملية الاستغفال الجماعي الذي تمارسه الحكومة، حتى صار المواطن بنفسه يبحث عن مناسبة جديدة ورشوة جديدة. الأمر الذي شجّع الساسة المتخاصمين على التنافس في استمالة الشارع العراقي وعلى المزايدة في رشوته تارة بتوزيع البطانيات وتارة أخرى بأجهزة التدفئة وثالثة، هي الأكثر خطرا ونفاقا، المطالبة بتوزيع نسبة من فائض مردودات النفط على المواطنين الجالسين في بيوتهم، انعكس ذلك مباشرة على الشارع، صرنا نسمع رواد المقهى في المناطق الشعبية يتحدثون بالأرقام عن كميات النفط المصدرة يوميا للخارج وعن حصة كل واحد من جلاس المقهى، بعد أن اشتروا لذلك حاسبة رخيصة الثمن.
كنّا ننتظر، بعد سقوط الأمطار، أن يخرج علينا محافظ بغداد ومجلسه الموقر بحلول مقنعة أو بمشروع استراتيجي لتصريف النفايات ومياه الأمطار إلا أنه تحدث بخجل عن محاسبة المتسببين بانسداد المجاري، وتوسع بالحديث عن رصد مائة مليار دينار لتعويض المتضررين، لا ندري كم سيوزع منها على المتضررين حقا وكم منها سيدخل جيوبهم؟. مساعدة الفقراء والمنكوبين فضيلة ولكنها حين تدخل باب الدعاية السياسية وشراء صمت الشارع المتذمر من انسداد الأفق السياسي ونقص الخدمات والمشاريع فإنها، الدنانير، ستكون عملية ألهاء وأضعاف للنفوس ودغدغة للجانب الرخو عند الإنسان المحاصر بالحاجات والأزمات. إن التوظيف السيء لأموال الدولة في شراء الذمم والأصوات والأنصار يُعد الأخطر على البنية القيمية للمجتمع العراقي التي انهكها الحصار والبؤس والحروب، وإن الذي يجري بالعراق هو توظيف شيطاني للأموال يخفي بين ثناياه تفتيت اللحمة الاجتماعية وفرز العناصر المتذمرة، خصوصا إذا عرفنا إن هذه المُنح والمساعدات تُعطى في مناسبات معينة ولشرائح وفئات معينة وليس لكافة أبناء الشعب العراقي. وليس مصادفة إنه كلما تنوعت هذه المنح زادت من الجهة الأخرى نسبة المخبرين السريين والسجون السرية والاجهزة الأمنية، حيث سيلجأ السلطان في الأزمات إلى تطويق الشوارع وملء السجون بمن نسى من هؤلاء عطايا الحكومة وخرج إلى الشارع للمطالبة بحقوقه في العمل والتعليم والدواء.
بعد عشرة أعوام من احتلال العراق وظهور شرائح سياسية هجينة وخائفة، بات من الواضح أن شراء صمت الشارع، الغارق في قلقه وأزماته بالأنبار وكردستان وبغداد، هي من أولويات هذه الشرائح، إنْ كان ذلك على شكل منح مالية أو زيادة في الأجور أو توزيع قطع أراضي. ورغم معرفة السياسي العراقي بأن ذلك لا يحل المشكلة وأنه يساعد فقط في تأجيل الصدام، وإن البلد بحاجة إلى مشاريع استراتيجية لانتشاله من محنته وبحاجة إلى وطنيين مخلصين هدفهم خدمة وبناء الوطن، وأن المال لوحده لا يصنع ولاء دائم، إلا أن السياسي الخائف أثبت بؤس معرفته بأساليب الحكم وعدم قدرته على البحث عن حلول جذرية، خدمية واقتصادية، تؤدي إلى تطور البلد وإلى بناء علاقة طيبة بالمواطن تعمق فيه روح العمل والبناء والولاء الوطني. وهذه الأخيرة تحتاج إلى الوقت والنبل ووضع الوطن أمام العين في حين إن السياسي العراقي، المُشبّع بأخلاق الغنيمة، في عجلة من أمره.
.. صحيح أن الأموال الممنوحة مصدرها خزينة الدولة وأن لا أحد من هؤلاء الساسة صاحب فضل على العراقيين إلا أن كثرة هذه المُنح وانكشاف النوايا الخبيئة خلف توزيعها ووجود الشبهات حول مانحيها، يجعل من قبولها مثلبة ونقيصة. فمن يسرق أموال اليتامى ويسطو على مفردات البطاقة التموينية من أي موضع يرق قلبه على مَن غرقت بيوتهم بسبب مياه الأمطار؟ وقد قيل قديما لا تُقبل الصدقة من سارق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أوضاع مقلقة لتونس في حرية الصحافة


.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين: ماذا حدث في جامعة كاليفورنيا الأ




.. احتجاجات طلابية مؤيدة للفلسطينيين: هل ألقت كلمة بايدن الزيت


.. بانتظار رد حماس.. استمرار ضغوط عائلات الرهائن على حكومة الحر




.. الإكوادور: غواياكيل مرتع المافيا • فرانس 24 / FRANCE 24