الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
كثافة الرمز وأفق الدلالة في سرديات أحمد الزبيدي
فاطمة الشيدي
2013 / 1 / 14الادب والفن
1.
تمثل تجربة أحمد الزبيدي السردية مرجعية أدبية أساسية للسرد العماني المعاصر، وذلك لما لها من أفق ممتد من حيث البدء في الزمن، والتجديد والتقنية الفنية في اللغة، ومن حيث تعدد الأشكال السردية، وجماليات اللغة الجامعة بين الشعرية التي تعطي النص بعدا فنيا خاصا، وبين التقنيات السردية التي توثق عرى النص، وتحكم القبض على مفاصل الحكاية، ومن حيث الخصوصية الفكرية والفنية والزمانية والمكانية التي يكتب ضمنها، فهو قد اختص ذاته وقارئة بمساحة أدبية خاصة (فكريا وزمانيا ومكانيا) يتحرك ضمنها، وبالتالي فقد امتلك خصوصية الفكرة، وذاتية الطرح الخاص الذي يجعل كل من يكتب بعده في أدبيات التدوين والسرد المتعلق بالتاريخ والذاكرة الجمعية، متعالقا معه وسائرا على هداه.
وإذا كان عبد الله الطائي هو رائد السرد العماني؛ فإن الزبيدي هو رائد التجديد والحداثة السردية في عمان بلا منازع. فمن خلال ثلاثة إصدارات (منشورة) تجمع القصة الطويلة، والقصة القصيرة، والرواية كتبت في بداية الثمانينيات من القرن الفائت، حيث كان غياب الأنموذج العماني السردي فادحا، إلا أنها تظهر للقارئ عمقها وتوجهها الفني والإنساني من أول حضور ومصافحة، كما أنها تشي بعمق ناصها، وثقافته واطلاعه وتوجهاته الفكرية والسياسية، إضافة أنها توضح عمق اشتغالات كاتبها الفنية فهي قد نسجت بتماسك ودقة وإحكام، وطاقة فنية مبهرة، مما يدلل على تلك الموهبة الفنية الفذة، والقدرة الأدبية الفائقة.
2.
الرمز هو اكتشاف لشكل موضوعي محدد في شكل آخر، وهو يمثل مجالاً غامضاً وفسيحاً من الذاتية المفتوحة والمتعددة الدلالات، ويهتم الرمز "بإظهار غير المرئي أو المعني عن طريق ما هو مرئي" ويعرف هيجل الرمز بأنه "شيء خارجي مباشر، يخاطب حدسنا بصورة مباشرة" والرمز هو "المنهج الذي يعالج الموضوعات عن طريق صيغ شكلية جمالية لأشكال رمزية، في تخط لواقع الأشياء ومظهرها الخارجي، للوصول إلي جوهر هذا الواقع، الذي يمكن إدراكه عن طريق الوجدان، كما يمكن إدراكه بواسطة الحواس التي تزيد معلوماتنا عن العالم المحيط بنا" *
والرمز هو قوة المخيلة في صناعة عوالم سردية وشعرية أكثر خصوبة وجمالا، والكتابة الرمزية هي محاولة لتجسيد العالم الحقيقي، بشكل أكثر اتساعا واختلافا، ولاشك أن تعقيدات العالم خاصة السياسة والاجتماعية والدينية ومحاصرته بالتابوهات الكثيرة (الجنس والدين والسياسة) في العالم العربي تحديدا تجعل الكثير من الكتاب يلجأون إلى الرمز.
ولاشك أن القارئ لكتابات أحمد الزبيدي السردية سيجد أن أبرز ما يمكن أن يلمسه لمس اليد، ويقبض عليها منبهرا بكل حواسه الخمس، سواء كان ذلك القارئ المستمتع بنصه، والواقف عند حوافه فقط، أو القارئ المتعمق في نصه، والباحث عن دلالات أكثر عمقا، وأكثر تعددا في التأويل. لأن طاقة الرمز الكثيفة والعميقة والخاصة في سرديات أحمد الزبيدي تبدو واضحة وجلية وعميقة، كما أراد لها الكاتب من أول مصافحة للنص وحتى آخر تلويحة له.
ففي روايته " أحوال القبائل"* وفي مجموعتيه "إعدام الفراشة"* ، و"انتحار عبيد العماني"* يبلغ الرمز مبلغا عميقا وحادا، حيث لا تميل تلك السرديات، أو لا تريد أن تميل إلى القول الصريح، أو المعنى المباشر، فهي تقول كل شيء من وراء حجاب لغوي رهيف، وبإيحاءات فنية عميقة وجارحة.
والرمز لدى الزبيدي متجدد ومتعدد، ويبدأ من عتبة النص وهو العنوان، كما نرى في "إعدام الفراشة" و"انتحار عبيد العماني" حيث تحمل طاقة الرمز إثم المعنى، وبلاغة الوصول بالقارئ لما يعرف وما لا يعرف. ثم تمتد في التوغل في جسد النص، حيث تتخذ الشخوص أسماء ومعانٍي رمزية، بل وحتى إذا وجدت الشخصية ذات الملمح الإنساني الطبيعي فهي شخصية غير كاملة الحضور الفيزيقي، أو مكتملة التكون الإنساني، فلابد أن تلتحم بالرمز في إحدى مكوناتها الذاتية، أو في تخلق رمزي خارجي، ضمن علاقاتها الجانبية بالأشياء والأشخاص والأمكنة، أو في تفاعلها الرمزي مع رمز موازٍ إلى جوارها.
3.
تعب..
من صدف البحر
لملمت ذاكرتي
وخبأت وجهي الرخامي
أسرجت أفراسي العاشقة
وأشعلت ناري على فلوات السفوح
فما غرد الورد
ما زفني هدد المنجوي
ولا كحلتني الطيور
هكذا يتغنى الرفيق مسلّم، أو يغني لطفول صديقة النضال، ورفيقة الروح في رواية "أحوال القبائل"، وهكذا نجد الشعر منثورا في هذه الرواية، نتعثر بجماله، ونغرق في رمزيته العالية. وإذا أردنا أن نحلل تلك الطاقة الفنية، الرمزية، الشعرية، المبهرة في سرديات أحمد الزبيدي، أو نعلّلها، أو نبرهن على حضورها الرهيف والشفيف، فليس لنا إلا أن نعزوها لروح الشاعر التي تسكن الزبيدي، فمنذ أول ولوج محاذر أو مباشر لأي نص له، تجد الشاعر بانتظارك، تجده جالسا مقرفصا بين مرابع نصه، وعلى حوافه وزواياه، إنه هناك يجلس شاعرا وثائرا ومتمردا وساخطا وواعيا، إنه شاعر النص، وناص الشعر، ينثره بين زوايا النص السردي بحكمة وروية، أو بجنون وتخبط وثورية، قد يروي لك لاحقا حكاية، وقد لا تنتظر منه حكاية، إلا أن الحكاية الحقيقية نفسها تكمن في ذاته، في ولعه، وتحليقه، وسخطه وجنونه، في تمرده وصراخه ومبادئه، وكفره بالحياة والبشر والوجود والعالم، في عشقه الممتد من كل حبة تراب، حتى كل قطرة ماء، من أظافر الحبيبة حتى شعرها، إنه يكتب ليعيش، وليجعل النص يعيش معه، وفيه وبعده، ويجعله شاهدا على حضوره وغيابه معا، يكتب تاريخه وتاريخ وطنه، يكتب ذاكرته وذاكرة شعبه، يكتب كي لا يَِِنسى، و كي لا يُنسى.
الشاعر في أحمد الزبيدي شاعر عميق وجارح وحاد، ولكنه شاعر اختار السرد، لما يتيحه من كتابة التفاصيل وتأريخ الذاكرة، لذا فكان لا يحفل بالشعر حين ينثره بكل طاقاته وجمالياته في ثنايا النص، وكأنه مجرد ترانيم أو هواجس على هامش الفكرة.
لكن الشعر كان أكبر من أن يتغافله، أو يغفل عنه، لذا كان حاضرا بقوة أكثر مما أراد السارد، لذا كان النص بكليته قصيدة شعرية عميقة وثائرة ومتمردة، وحافلة بالصور والمجاز والرمز.
الرمز السياسي، والرمز الفني، والرمز الديني، والرمز الاجتماعي، الرمز الذي هو حياة النص والناص معا، الرمز الذي يريد أن يقول فيقول، بقوة لا ترهبها الحقيقة، ولا تعافها الصراحة والنقاء، الرمز الذي يعلي قيمة الحقيقة ويكثّف عبورها نحو الخلود والتاريخ.
الرمز الأعمق من المباشرة في الكلام، الرمز الكثيف الذي يحتمل الكثير من التأويل والتحليق، والكثير من الدلالة والمعنى، ومعنى المعني، أو ما وراء المعنى.
فالشاعر الذي يسكن روح ونص الزبيدي، الشاعر المشغول بالتدوين للفكرة والذاكرة والمعنى والتاريخ، هو أيضا مشغول بالاشتغال الرمزي الشعري الكثيف والعميق والبعيد الدلالات، مشغول بشعريته التي تفيض من النص، فتشغل قارئه لا عن المعنى، بل عن الذهاب خارجه، ولذا فهي تقوده إلى المعنى، وتشغله بالبلاغة والنظم والمجاز.
ولذا فلا عجب أن نرى الكثير من النصوص الشعرية منثورة في رواية أحوال القبائل، ليخبر الراوي عن الشاعر الساكن داخله، ويحرّض القارئ على انتظار ديوان شعري مكتمل الروح والحضور.
يقول :
وعفوكمو
عين صغارنا
عفوا
أنا مازلت عند حسن الظن
وبعض الظن مأثمة
هدّ رجالي التعبا
وحطينا الرحال بألف ثغر
غير أن ثغوركم أحلى
مقابركم تحرك في مشاعرنا
بقايا ذكريات البحر
ومقبرة بعرض البحر
ما غرقت
ولن تغرق
ففيها صاري المحبوب
وفيها بعض أشيائي
4.
في مجموعته "أثر الفراشة" المتكونة من ست قصص هي: "إعدام الفراشة"، و"ربيع الماء الآتي" ، و"المواسم" ،و"النعش" ، و"زهران المسكري والمستر تابو" ، و "ملحق عبيد العماني" يظهر الرمز جليا خلاقا، فالفراشة هي رمز عميق للثورة أو للمرأة، أو للطبيعة أو للأرض، والإعدام رمز للموت والقهر والذل، وهو بالتالي متصل مع الفراشة بالإضافة في دائرة رمزية مفتوحة على التأويل والاحتمالات.
وربيع الماء الآتي هو كل محتمل قادم بالخير والجمال، أو بغير ذلك، والمواسم ليست الفصول ولكنها التحولات البشرية، وما يرافقها من تغيير جلود، وأفكار ومبادئ وأحوال، تفترض تغييرات أكثر من تغيير الطبيعة لجلدها، والنعش الذي هو رمز للموت وللقتيل وللشهيد يتكرر بصورة كبيرة جدا في المجموعتين، إنه الموت الحقيقي المادي، أو الموت المعنوي، والوأد العميق للفكرة، وللحياة والحب والإنسان والأفكار والمبادئ والثورة، إنه الموت المقنّع برداء الرمز ليصبح النعش، حالة حضور وليس حالة غياب.
والمستر تابو رفيق زهران هو رمز عميق وبليغ لكل محظور وممنوع، ولكنه مرغوب وممارس ممن يحق لهم مالا يحق لغيرهم، و"عبيد" رمز لكل وهن وضعيف، أو مستضعف وبالتالي فهو رمز لكل بسيط وهامشي، وعادي ومهمل وكادح ومكدود، رمز لعابري الأرصفة، ومجتازي الشوارع، وآكلي اللقمة بالعرق والتعب، الفقراء والبسطاء والحالمون بالرغيف والسقف والموت معا.
إنه مرآة الحزانى والثكالى والأيتام والمتسكعين والميتين، إنه رمز فضفاض صالح لكل زمان ومكان، ولكل شخوص الحكاية التي قيلت والتي لم تقال، التي حدثت وتطورت، والتي لم تقال، وقد تقال وقد لا تقال.
والمطر رمز للخير المرتقب الذي قد لا يأتي، وقد يكون وسيما كما يصفه أحيانا، فيكون أكثر عنجهية وغرورا، أو أكثر تحيزا وانتماءً، ومالك الحزين رمز للمعتزلين والصامتين الرافضين الهاجرين متع الحياة لجماليات الوحدة والصمت مثله، والمدينة رمز لكل الفجوة بين الأرض وما عليها، بين الطبيعة والمدنيّة، والوفد رمز لكل قادم، ومغتصب، وباغٍ وشارٍ وبائع، والمزامير رمز لكل قصيدة مقفاة بالألم، ومدبجة بالحنين والغياب والوجع.
5.
في أحوال القبائل يحضر الرمز شعريا خصبا عميقا، منفتح الأوجه والأضلاع على القراءات المتعددة، والتأويل الواسع، المتعدد الدلالات، ولكن الخيط السردي وحكاية " عوض الريحة" وابنه "خالد" الذي كان يوما " الرفيق فهد" فباع النضال والقضية وقتل الرفيق، وكفر بالمبادئ،ليصبح بعد ذلك سمسارا رخيصا، وبائعا متجولا لكل القيم والأحلام والأفكار التي رطن وخطب وحدّث بها ذات يوم، لتنقضّ عليه لاحقا كأفاعي تمنعه من النوم وتسلبه الأمان والطمأنينة والدفء والحياة، تلك الحكاية، أو ذلك الخيط السردي يجعل القارئ لا ينفلت من الحكاية نحو الرمز، إلا بمقدار ما يبحث عنها فيه، أو يذهب به إليها، ويجعل القارئ والكاتب يتحركان ضمن لعبة السرد، وضمن ملابسات الحكاية، فيجد القارئ ملامح الحكاية جليّة، ومحدداتها واضحة من "شخوص" (عوض الريحة – خالد/ فهد – سطيح الشاوي- طفول – مسلّم – رحمة)، و"المكان" صلالة، ولكنه يذكر أيضا صحار وصور كشركاء للفعل المكاني.
يقول :
"صحار .. يا صحار
يا لجين من كنوز آسيا
يا زينة الوطن المنذور للصدفة
المطروح على أعتاب البحر
وبوابات الصحراء
ومن صحار إلى صور كانت هناك سيوف وخناجر وفرسان ساقوا الغيم. ونازلوا العواصف في لجج العاتيات. ومن أرحام نجمة الصباح عشتر تواصلوا والوطن بدور .. بدور
كل بدر حكاية
كل بدر غواية"
وهناك "الزمن" أيضا؛ الذي يتحرك بين 9 مايو 1965، و1970 وما بعدها، والحبكة وهي الثورة، وما حدث فيها وبعدها من تحولات في الحياة والمبادئ والأفكار والبشر والقيم، ومن ثمة "النهاية" التي أراد بها خالد ركوب موجة الغنى والمناصب، ليصبح شيخ القبيلة بمساندة خارجية ولكن القبيلة/الشعب تدرك اللعبة وتتنكر له، وتتنصل من أحلامه الوضيعة، وترفض تسلقه لأحلامها، وحياتها, فتتخلى عنه ليظل في تخبطه وانحساره وذله ومهانته.
وبذلك فإن رواية الزبيدي "أحوال القبائل" تمثل نصا روائيا عميقا من حيث التقنيات السردية، وتحريك الشخوص، والأحداث، والنهاية الموجعة، كما يمثل من جهة أخرى قانون التغيرات الاجتماعية والسياسية والإنسانية، وأثرها على تحول وتبدل القوانين والأخلاق والطباع الإنسانية، كما يمثّل من جهة ثالثة ذاكرة نصية وتاريخية ووطنية للتحولات السياسية والاجتماعية العمانية، كما تقدم تحليلا عميقا ومتوازيا من جميع الجوانب للثورات الشعبية التي لا تزال قريبة عهد بنا، وتبين جوهرها، وما يحدث غالبا فيها من تقلبات ومواقف وتغيرات وركوب موجات حسب طبيعة البشر، ومرجعياتهم الفكرية والدينية والإنسانية في تنبؤ مستقبلي وهذا داب الشعراء.
ولكن الرواية تقول كل ذلك برمزية عالية وشعرية مدهشة، ينقص منها كثيرا وضوح العنوان، وقوته في فضح مدلولات أقل حذرا وغموضا والتباسا وكشفا، من دال العنوان نفسه.
6.
وفي مجموعته انتحار عبيد العماني التي تتكون من "انتحار عبيد العماني"، و"السيدة صلالة" و"العمانية في السكة" ، و"رضوان" و"الجثة" ، و"الكولي" يسير الزبيدي في ذات الكثافة الرمزية الشعرية العالية التي تفتح أكثر من أفق من الدلالات الخصبة والمتنوعة، كما تنفرد هذه المجموعة بشكل أكبر بأنسنة الجمادات، أو بتقنيع الإنسان بصورة جماد، وتقنيع الجماد بصورة إنسان، وأميل للمعنى الأخير أكثر، فالزبيدي يلبس الأرض، وصلالة صورة امرأة، ويجعلها بتلك الصورة تتحدث إلينا من وراء رمزها أو قناعها، وتكون مهمتنا الشاقة الوصول إلى ما وراء القناع، فمن هي تلك السيدة؟ أو العمانية التي في السكة؟ ثم يلبس الثورة كفن جثة ويجعلها تتحرك بيننا في ثبات وحياة، لتقول لنا كل ما تريد من خلف روائح الكافور، وبياض القطن والكفن، ونحن نناور القبر التي خرجت منه، أو لم تدخله أصلا لنعرف من هي صاحبته الطيبة.
يقول في قصة السيدة صلالة
"حزن الدوري فلم يملك إلا أن يصدح.
صدح .. وصدح
ما جاوبه رجع الصدى
وخانته الريح فما حبلت بالنشيد الجميل
غير أنه لم يملك إلا أن يتقدم
أن يشق طريقا في الغابة
أو ضريح
برج الأفعي
أطبقت الأفعى على الدوري، والتفت على الطفلة صلالة وهي تضحك:
- إلا حتفها بظلفها
- ربما .. "قال الدوري"
- كأنك تعرف النهاية
تطلع الدوري إلى السحابة السوداء، وانتظر حتى أرسلت رذاذها .. ارتعشت الأفعى ,, وضحك الدوري"
إلا أنه يزيح الرمز قليلا في قصة " الكولي" التي هي أكثر القصص تخلصا من الرمزية، والميل للواقعية في حكايتها البسيطة، حول فكرة العمل والعمال، وأحلامهم البسيطة التي تتكسر على مصاطب الحياة الجافة، تلك الحكاية التي تشبه الشارع، وتحكيه، وتروي بلسانه كل ما كان من سقوط الأحلام على جنبات الطرق وفي جيوب وكروش الأغنياء.
ثم يأتي لنا بـأسماء حقيقية "رضوان" "خنتور"، و"طفول" ، و"زهران" و "عبيد" فنفترض أن لهم حضورا إنسانيا طبيعيا، فنبحث عن لون أصواتهم، وحجم أجسادهم، وأدوارهم التي عبروا بها الحياة، إلا أننا نجدهم أكبر من الذات حد الفكرة، لقد أسبغ عليهم أردية رمزية رفيعة، فلا نعرف لهم وجوها ولا أقداما ولا أجسادا، بل لسن وأرواح فقط، فكل منهم يتكلم من خلف قناع الرمز الذي أريد له، أنهم يحملون رموزا أثقل من آدميتهم، ومن أدوارهم الحقيقية في الحياة والموت والشهادة، إن كل منهم ذاكرة تاريخية كاملة للفكرة والحدث، إنهم رموزا ثقيلة مثقلة، وعلى القارئ الذي لن ينفك يبحث عن فك بعض أسرارهم، ومعرفه بعض أخبارهم، الاجتهاد كثيرا للوصول للقليل من الرؤية، والكثير من التأويل المنفتح على ذاكرة تاريخية ناصعة، تصلح أن تكون مرجعية لتلك الرموز فقط.
7.
بين الرمز السياسي والرمز الفني، بين النضال والكتابة التي هي أيضا نضال بشكل ما، بين الفنية والتدوين، بين التاريخ والذاكرة واللغة، تدور وتشتعل، تهمس وتشهق، تعلو وتهبط، تدور وتلتف، تحاور وتناور، تدوّن وتشتغل كتابات أحمد الزبيدي السردية بعمق ووعي، وروية وكثافة رمزية ذاهبة في المعنى الجارح، ومتعددة في الدلالة البعيدة والعميقة.
وفي استحضار فردي للذات، وفي كتابة جمعية للتاريخ، وفي عشق إنساني للأرض، وفي تدوين ملتبس للآخر، واستحضار عميق للماضي، ينثر أحمد الزبيدي في مضان الكتب، ومجامع الحرف ذاكرته، يبعثر تاريخه ليلملم تاريخنا، يكتب عنه لنقرأه عنا، ينتصر للذاكرة الجمعية، والهزيمة الجارحة، والصمت المطبق، يستنطق المسكوت عنه في تاريخنا وثقافتنا على الصفحات، كي لا تذهب في المحو والغياب، ويتشرب دم الأرض، وضحكات الشهداء، كي لا تُنسى، يعري فحيح الخيانات وذاكرة الهزائم وتحولات الكائن، وفوضى العبث القدري والإنساني في الذاكرة المشربة بالدم والقهر والعذابات، ليهب لها الخلود، وينسج منها درسا تاريخيا خالدا ومتجددا للإنسان على هذه الأرض.
يقول في "إعدام الفراشة" .. "وبالرغم من أنني أيضا لم أحاول الإحاطة بملابسات جدي "خنتور" ولا إحراج جدتي "طفول" فلقد قطعت الجدة الطيبة أغنيتها الشجية، وقال لي ذات يوم:
- هذا الرأس الصلب ستحمله كــ "قيرون حيرتي" .
- كما حملت أسلافي "الهداهد" رؤوسها وقطعت الآفاق إلى هنا..
أليس كذلك ياجدتي؟
- كرون احيرتي" أيها الولد الحميري، حملت رأس هذا الوطن مدار الأبدية"
وهذا ما حدث فعلا، فقد حمل الولد الحميري، أغنيته ووطنه ورأسه الصلب إلى الآن، وإلى هنا بيننا ،وإلى طويل العمر بإذن الله سيظل يحمله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- المدرسة الرمزية ، الموسوعة الحرة
- أحمد الزبيدي " أحوال القبائل" رواية، دار الفارابي 2008 ط1
- أحمد الزبيدي "إعدام الفراشة" مجموعة قصصية ، دار الفرقد 2008 ط2
- أحمد الزبيدي "انتحار عبيد العماني" مجموعة قصصية، دار كنعان ط 2 2008
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. وفاء سيلين حلاوي: -تستهويني السينما الهادفة التي توصل رسائل
.. مصر.. فتح تحقيق بعد خلط القرآن بالموسيقى
.. مهرجان الموسيقى العربية اليوم.. حفل عمرو سليم وفؤاد زبادى وم
.. هنا الزاهد تعتذر عن فيلم إن غاب القط وأسماء جلال بدلا منها
.. المغنية أوليفيا رودريغو تسقط بفتحة على المسرح خلال حفل موسيق