الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لوحاتٌ ورجلٌ من زمن المصاطب

محمود عبد الغفار غيضان

2013 / 1 / 15
الادب والفن



لوحةٌ أولى:
كانت رجولته مُقنعة وأخاذة، وكان صوته شديد التميز، له قامة معتدة بطولها وانتصابها، وقوام عداءٍ يحترف جلسة بهيئة الكاتب المصري لم أرها لسواه... بنقودٍ كثيرةٍ حملت علامة مائية لشكوكٍ أكدتها الأيام...؛ اشترى كلَّ المهابة التي عُرضت في سوق الأحد الذي جمع كل القرى والعزب المجاورة آنذاك... ثم راح يمارس طقوسَ الاستمتاع بالتجبر دون خشية أحدٍ إلا الله تعالى... بل إن هذا الاستثناء يمكن بترجمة أنيس عبيد "وضعه على المحك"... أمام بيته، كلما حلَّ العصر، يفترشُ حصيرًا بلاستيكيًّا لم تألفه البيوت المجاورة، دون أنْ تفارقه عُلب طارد الذباب والناموس الغريبة.... ينتقلُ إلى الداخل مع أقرب أذان للصلاة... وتدريجيًّا يكبُرُ صخبٌ تتكدس به الجنيهات الخطرة بأكياسٍ من القماشِ يميزها هلالٌ عند قاعها... أكياسٌ كانتْ تأخذ كل اتساخ شقاء الأصابع محاولة إبعادها عن أوراق عُملةٍ علَّمتها ظروف الفقراء ممارسة أبشع رذائل الهرولة أو أخبث حيل الاختباء فلا تحضرُ ولو بالمندل...
لوحةٌ ثانية:
أمام كل البيوت، وعلى مصاطب التواصل الاجتماعي بتعبيرنا اليوم، وعند كل حلقة "سيجه"، وحول طلمبات المياه، وعلى جُرُفِ الترعة الصغيرة حيث تغسل النسوةُ الجالسات لوقتٍ طويلٍ بعض الملابس والمواعين؛ صارَ موضوع الحديث الأوحد... حسده البعض ومجَّده... لعنهُ آخرون... واكتفى فريق ثالثٌ بنصحه بأضعفِ الإيمان مخافة بطشه... خطوة خطوة نصبَ الرواة المتعددون حوله "طوفًا" أحسنت شائعات مضفورةٌ بالقليل من الحقائق مزج طينه بقش الأرز كي يتحمل كل اتكاءات الحواديت ونعاسها عليه... بعد وقتٍ غير قصير... كان موكبُ زيارته الأول بسجنٍ المحافظة القريبة مِن فصيلة مواكب وزراء هذه الأيام... عددٌ كبير من سيارات البيجو مختلفة الألوان متكدسة بالناس والأطعمة ورزم السجائر.... اصطفت جميعها على الكورنيش بالقرب من سور المحبس الضخم حتى حانَ موعد الزيار... فتسابق الكلُّ إليه.
لوحةٌ ثالثة:
ورثتُ بلاغة القص مع شالِ جدَّي... وفيه درستُ كيف أختزنُ التفاصيل وأنقل العبارات كما قيلت وبالإيماءات نفسها التي صاحبتها في الأفلام أو الحياة... أنتظر الآن على بعد عدة مترات من عالم أسطوري يكفي لآلاف الحكايات الليلة لأصحابي... عالم ملون بأزرق الملابس والوجوه وأسود أسياخ الحديد حول كل شيء... سأمزج بعض حقائقه بما يجود به خيالي وسيصدقني السامعون الصغار دون حاجة للقسم بالبخاري الموجود بديوان جدنا العمدة... ومع ذلك... وحدي بكل السياراتِ الكثيرة انتظرتُ أكثر من ساعتين لأني لم أجرؤ على مغامرةٍ لم أكن قد أتممتُ الاستعداد لها... لم أكن من النوع الشغوف برؤية الأسود منزوعة المخالب... نعم كان أسدًا أحبُّ رؤيته من بعيدٍ... لمْ يكن معه في القرية إلاه... وقد كان ذلك كافيًا.. وقت أنْ كان الكل يحتمي وراء المئات من بطون العشيرة.... كان يليق بمقعد العمودية وتليق حقًا به... لكن الفقر أجلسه ملكًا بسلطنة المزاج التي لم يُسمع أنها نبذت فقيرًا مغامرًا مثله قط... كانت كل الأفكار عن سر اختياره لهذا العرش بالذات مزعجة، لكن الأكثر إزعاجًا خلال انتظاري كان تخيُّل بعض الأعين الشامتة وهي تثقبُ إلى غير رجعة أجمل ما لفَّ حول جسده النحيل من كرامته ومهابته الفريدة.
لوحةٌ رابعة وأخيرة:
تنقضي المدة تلو المدة، يذهب مرغمًا ويعود حرًّا... وفي كل مرةٍ تخضب جبين حفاوة استقباله عفاريت كسلٍ يعشق رش تثاؤبات لا تتعب فوق رؤوس العواجيز الجالسين بمنتهى ظل جدران الشوارع للتشمس... يصبح رجوعه أمرًا عاديًّا ما عدا الرجوع الأخير، فقد كان خاصًّا جدًّا... كان قد تجاوز السبعين... تجاوز كل لحظات الوحدة والشقاء وعاد ليجد الكل بانتظاره في مشهدٍ غير متكرر بالنسبة له... لا صوت عند مدخل القرية المزدحم بالناس سوى أصوات الحديث عنه... تصل السيارة... يُفتحُ بابها الخلفي... يتسابق الجميع نحوه... يحملونه عن طيب خاطرٍ على أكتافهم... يبدأ موكبُ التحركُ الطويل على الفور ليمتد من موضع وقوفِ تلك السيارة إلى أن يبلغ.... دون اعتراضٍ لأحد.... المقابر!

محمود عبد الغفار غيضان
مجموعة "زمن المصاطب"
15 ديسمبر 2013م








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل