الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قرية الحنيّة !!! همٌّ في الذاكرة ووجعٌ في القلب .

محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)

2013 / 1 / 16
الادب والفن


قرية الحنيّة !!! همٌّ في الذاكرة ووجعٌ في القلب .
مروجها الخضراء ممتدة بأعشابها الناضرة وورودها الباقية , وسهولها المنبسطة إنبساطاً يفتح النفس ويبعث السرور فيها .
أغصان أشجارها متشابكة , يداعبها النسيم القادم من أعالي جبال الجليل الغربي في فلسطين , فتطرب وتسمع حفيف أوراقها وتغريد بلابلها أعذب معزوفة غنتها أوتار الحياة .مساءً كنت أسافر على جناح الحلم والخيال , الشمس وهي تلامس الأفق مودّعة تذبح على خطّه وريدها فتترك بقاياها , بقايا خيوطها الشمعية شفقاً يتوهج فينعكس على سطح البحر ليضفي عليه سحراً وجمالاً . نسائم الغروب تسري لطيفة مُضمخة بندى اللأعشاب تنعش القلب وتبعث السّعادة . يحل الغروب وتلملم الشمس آخر بقاياها في شموخ وكبرياء فيشيع شيء من الدفء والحنان . ومما يزيد قرية الحنيّة هذه الروضة جمالاً ورونقاً ظهور الهلال بعد الغروب ، فكأنه طوق من ذهب يزيّن ثوبها ، ولشدة جمالها فالشمس تضاحكها ، والماء الازرق يلحظها ، صورتها في الماء كانت محترقة . وعبر المسافاتِ تبدو الجبالُ في العُنفُوانِ كأشباحَ هائلةً لا تُخيفْ .
ومن الحنيّة جنوباً ينتصب امامك سفح جبل مرتفع شامخ كشيخ وقور، يصغي للنجوم كأن في أذنه صمم ، رزين كل الرزانه ، حزين من انبعاث دخان المشاحر من سفحه الشمالي ، في حين نجد البدر يستهزئ به ويضحك من صمته ومن هرامته ، إنه جبل جب سويد .في اسفله إبتكر الأهالي قناة الري التي اوصلوا من خلالها تلك المياه إلى المزارع والحقول .
مياهها عذبة تتدفق من باطن الأرض لألوف السنين ، إنها نبع العزيّة .
لم يقم في الحنيّة ومنذ وقت بعيد مسجد ولم تنتصب على ارضها حسينية . لم يعرف الناس فيها سوى ان الدين عند الله الاسلام ، فلا مذاهب ولا فرق كلامية او اسلامية .
كما لم تنتشر فيها كما اليوم اجهزة التلفاز ، كان ليل القرية بعد العاشرة موعد انتهاء البث التلفزيوني يبدو ثقيلاً ، حتى لكأن ساعاته لرتابتها تبدو دهراً .
دخل القرية مقيما دائما وليس زائرا اول جهاز تلفاز بالابيض والاسود كان قد وضعه ابو موس مهنا حكيم في دكانه ، كان هذا الجهاز وقتها النافذة الوحيدة التي يطلّ من خلالها اهل القرية على العالم ، والدرب الذي يربطهم بالحاضرة ، كان وجه المذيع عرفات حجازي والمذيعة سعاد قاروط العشي يطل على اهل القرية كل مساء عبر القناة رقم ٧ الوحيدة .
وقتها كنّا صغاراً نتشوق لرؤية هذه الآلة السحرية ، ولكن لم يكن لنا حظّ بالجلوس لرؤية البرامج إلا من خلال شقوق القصب من وراء جدار عريشة آل المصري ~ آل البدوي اليوم بعد حصولهم على الجنسية اللبنانية ~ كنّا ونحن نسترق السمع ونسرق الرؤيا أحياء في ثياب موتى ، لا نتحرك ولا نسمع حتى زفيرنا والشهيق مخافة ان ينتبه صاحب العريشة لوجودنا فيطردنا ونخسر بذلك رؤية فيلم السهرة الذي كان مسموحاً برؤيته للصبايا ومن هم اكبر منّا سناً .
كان ثمة ما يشبه الصراع بين سائق التاكسي ابو ليفة وابو صالح الشاذلي وقد أورّثا هذا الصراع إلى ابو موسى مهنا وعلي قاسم . ابو موسى نموذجاً للإنسان الحنون الطيب صاحب الاخلاق الرفيعة ، اسعاره مغرية لطلاب المدارس خاصة ، التسعيرة بعشرة قروش للجلوس داخل السيارة وفي صندوق السيارة خمسة قروش ~ فرنك ~ .
كانت الرحلة الاولى في الصباح الباكر مخصصة لطلاب المدارس ، كان يقود سيارته بنا إلى مدينة صور وكأنه يسابق الريح .
كان يحشرنا كمتاعٍ داخل السيارة وفي صندوقها ، ذات صباح فوجئ بحاجز للجيش اللبناني على الطريق العام قرب رأس العين .
الجندي الذي يتولى أعمال الحراسة كان طويل القامة وصاحب شاربين ، إبتسم وحاول أن يفهم كيف استطاعت سيارة أبو موسى إستيعاب هذا العدد من الاطفال ...
طلب منه انزال جميع الطلاب إلى الأرض ثم أمره بإعادتهم اليها مرة اخرى . ابو موس صاحب خبرة ونحن نحفظ الدرس عن ظهر قلب . وبعدما انجز المهمة ربح ابو موسى سيجارة تبغ من الجندي واخذ يسابق الريح مجدداً . عند الظهيرة ككل يوم نتزاحم للجلوس في صندوق السيارة. وحال وصولنا إلى ساحة الحنيّة نفرّ من الصندوق كالعصافير ، اكثر من نصفنا كان لا يدفع الخمسة قروش ، يبدأ ابو موسى بالوعيد والتهديد لكنه في اليوم التالي يكتفي بفرك الاذن مع التهديد ان لا نعيدها مرة ثانية .
محاولاتنا كانت تتكرر كثيراً ، مرة بالهروب واخرى ما معنا خمسة قروش لأننا ضيعناها بالمدرسة وغداً نحضّرها لك ، وليومنا هذا لم نفِ بتعهداتنا لأبي موسى . أما تاكسي علي قاسم فكانت مخصصة للشباب وللصبايا ولكبار المسافرين ولم يكن لدينا نصيب بالصعود اليها .
ليست الجبال والمياه وحدها التي علقت بالذاكرة ، إنما طيبة وبساطة ومحبة أهل قرية الحنيّة لبعضهم ، هي جزء من الذاكرة غير المغيبة التي لا يمكن إغفالها عند الحديث عنها ، هذه القرية الفريدة ، إنها أيقونة الحياة !!!.
تحية الى قرية الحنيّة مسقط رأسي ومأوى رفات أجدادي قبل ان افقد الذاكرة !!!.
ليست لدي امنية سوى ان اراكِ وان اقرأ عنكِ ، وأن أسمع صدى أوجاعك ، قبل ان يتغيّر إيقاع الكلمات لدي .
بودابست - محمود كلّم








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اخي وفيق مهنا حكيم , الفضل يعود لك !!!
محمود كلّم ( 2013 / 2 / 11 - 03:57 )

الفضل يعود لك وللصور التي كنت قد نشرتها على صفحتك
أنها لم تكن ذكريات عادية أبدا !!!! تحمل الكثير و الكثير من المشاعر و الحنين و ... و .... , انها تجربة ايام طفولة تحمل في طياتها معنى الحياة... تجربة أشبه بحلم مرت سريعا لكنها تركت أثرا عميقا , و حين أتذكرها أندهش كيف جاءت و كيف عشتها و هي الآن تمر أمام عيني فأرى منها ومضات فتارة أضحك و تارة أبكي و تارة أدهش و لا أدري حتى متى أستطيع الحفاظ عليها لذا قررت سردها و لا أدري هل تستحق أما لا....لكني اردت أن أخطها و أطلعكم عليها ....لم أستطيع سرد كل شئ لأسباب خاصة ، لكني حاولت أن أنقل لكم أكبر قدر من هذه االصورة فأرجو ان تعذروني ....
الكثير منكم قد ارتسمت ملامح الدهشة على وجهه و يسأل نفسه في دهشة ماذا يريد هذا ... بل أن بعضكم قد لا يعرف حتى أسمي او ربما يتذكره بصعوبة بالغة....فأقول أنها فترة عشتها من حياتي في هذه القرية قرية الحنيّة ...انها اجمل لوحة شاهدتها ولم اعشق سواها .حاولت أن أنقل كل

اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي