الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكسله..... نورووز البصره الجميل

رزاق عبود

2005 / 3 / 24
الادب والفن


"الكسله".... نورووز البصره الجميل

كل العالم، تقريبا، يعرف ان نورووزعيدا قوميا للشعب الكردي، يمجد فيه بطولة الرجل الكادح "كاوه الحداد" وثورته ضد "الضحاك" جلاد شعبه. وان الفرس يحتفلون به كعيد لبداية السنه الفارسيه. وكذلك يحتقل ألأفغان، والباكستانيون، وبعض الشعوب الشرقيه الأخرى بهذه المناسبه. وكلمة نورووز تعني حرفيا اليوم الجديد. العرب الوحيدون،ربما، الذين يحتفلون بنورووز، بهذا المعنى هم اهل البصره. ففي ليلة ذلك اليوم يدب نشاط رهيب كخلية نحل في كل بيت . "صواني الكليجه" تنتظر بالمئات امام المخابز وألأفران، ان تتحول هذه القوالب الملفوفه بعنايه فائقه الى اطيب المعجنات في العالم.

انواع الحلويات، والكرزات، والملبس، والقند، والفواكه، والزبيب، وورق ألآس العبق تحتشد في "الصينيه" تيمنا بان العام سيكون عام خير وفير. وتجتمع كل عائله حول الصينيه المليئه بكل ذلك حتى منتصف الليل منتظرين "دورة راس السنه الجديده" على راس ثور، او ديك، او حمامه، ...الخ. في اليوم الجمسل 21 اذار عصرا، تزحف الجموع نساءا، ورجالا، واطفالا بملابس جديده زاهيه . عوائل باجمعها تسير في موكب بهي عفوي حامله الصواني، و"العلاليك"، وسلال الفاكهه، واكياس الكرزات والحلويات. متابطين، او حاملين "بسط" الجلوس، وادوات العزف، وخاصة الطبله الشعبيه والدفوف. هذه الالوف من البشر تتجه كلها مهما كانت حالة الجو حارا قائضا، ام غائما ممطرا فا لكسله لا بد منها. وهناك تفترش هذه الالوف ما حملته من البسط،، والبطانيات، والجرائد القديمه، والكارتونات، وما استجد من حصران النايلون، او حشائش الساحل. تجلس ألألوف لتتمتع، بجمال النهر الخالد شط العرب، الذي يولد له تؤم في كل عام في مثل هذا اليوم . نهر بشري ملون زاهي بديع يغطي مسافة الكورنيش طولا، وعرضا، وتفرعات. وكما يقول اهل البصره حينها، واصفين ازدحام الناس: "تذب الملح ما يوكع بالكاع".

الكل سعيد، وفرح، ومبتهج يستمع الى الفرق الشعبيه "الخشابه"، وهي تطرب الناس بايقاعاتها، ورقصات الغلمان ذوي الملابس المزركشه تذكر بعهد السلاطين. و"الدكاكات"، اي ضاربات الدفوف من الزبير، والبصره القديمه، والغجر كلهم حاضرون. الزوارق تنقل الناس الى الضفه الاخرى، الى التنومه، دون مقابل. الفرق الشعبيه كلها، ومعها الشباب، والأطفال ترقص، وتغني. تقطع النهر على زوارق خاصه ذهابا، وايابا، واحيانا يحتلون سفينه شراعيه قديمه "مهيله" مسرحا عائما للرقص، والغناء، والمشاهد، والحركات البهلوانيه المضحكه . بين استغراب، ودهشةالبحاره الهنود الذين يصادف يعضهم الحدث لاول مره. ثم "ياخذهم الواهس" ويبداون بغنائهم، ورقصاتهم الخاصه، وقفزاتهم المفاجئه، والمتكرره،مثل الشواذي، الى النهر. تسري اليهم عدوى المشاركه.

وتحتل فرقة "تومان" الشهيره مكانها الاعتيادي على احد الزوارق، او السفن الشراعيه، وهو يعزف الناي "الفيفره" بلهجة البصره بواسطة انفه. ولعله الوحيد في العالم الذي يعزف بهذه الطريقه حتى ينزف انفه. تومان هذه الشخصيه العجيبه ، الافريقي الاصل، والبصري الاصيل، ورمز الفكاهه، والمرح، وعنوان السخريه، والدعابه في شوارع البصره، وساحاتها.

العباره الرسميه "الطبكه" على غير عادتها مزينه بسعف النخيل، والزهور، والاوراق الملونه، وألاعلام. الناس تتجمع، وتتراص، حتى يصبح، من المستحيل تقريبا، ان تجد مترا واحدا لا يقف، او يجلس فيه احد.عوائل باجمعها، فتيات يتمايلن بغنج، ودلال، واشارات غزل وحركات ساخره، وساحره. عباءات سوداء، واشرطه ملونه، وظفائركانها حبال السفن. شبان يعرضون فتوتهم، ويغمزون للجميلات،شعور محلوقه حديثا، وملمعه "بدهن هندي". الصغار، يرقصون، ويمرحون، ويتقافزون بحريه. الكل يغني، ويطرب، وكأن الناس تحضر حفل زفاف الالاف في يوم واحد. انه فعلا عرسا بصريا جماعيا.

الطعام، والشراب متوفر، ومبذول وفي متناول الجميع. تزول الحواجز بين الغني، والفقير. ابن القصر وساكن الصرائف. الكليجه، والكبه، والدولمه، وخبز عروق، والكرزات، والبارد، والدوندرمه، والحلويات، والزبيب، والكشمش، وقمرالدين، والعالوجه، ومن السما، وغيرها، وغيرها. مائده مفروشه، ومتاحه، ومباحه للجميع. وليمه بصريه سخيه, فرح بصراوي جميل، "سفره" عامره، كما يقال هناك. ذلك الخيرالجنوبي الرائع، والنهر الراقص، مع الوان الشمس الغاربه، تتراقص امواجه مع ضربات الطبول، والدفوف. الناس تمرح وتضحك، وتغني، وتسعد بلا كلفه.

كرنفال البصره الاممي. العيد التضامني الجميل الذي لم تنقله شبكات التلفزيون العالميه كما تفعل مع هرج ومرج البرازيل. الكرنفال، الذي تجاهلته وكالات الانباء. يعيش في الضمائر، والقلوب، وفي حنايا روح المحبين، وعاشقي نسق البصره المتفتح، والمتطلع لفضاءات اوسع. عندما كنا صغارا، لم نكن نفهم من "الكسله" غير وفرة الطعام، والكرزات، والحلويات، وذاك الفرح، والأحساس الجميل بالحريه... وعندما كبرنا، ووعينا، عرفنا انها طيبة البصره، وصيغة تضامنها مع الاقليات، والتعايش، والتسامح، والانفتاح، على نوافذ العالم كله.

في السبعينات حاولت السلطات البعثيه تأطيرالاحتفالات، واعطائها طابع حزبي. فلم يخرج الا القليل من الناس، بعد ذلك. ثم شوه صدام الكورنيش الجميل بانصبة الحرب، وتماثيل القتلى، ومواقع المدفعيه، والمتاريس الرمليه، والمواقع الكونكريتيه . ولكأن مفارقه الصوره تريد، ان تقول، شتان ما بين فرح اهل البصره العفوي، وطيبتهم المتأصله، وبين حروب صدام، وهمجيته.

ترى هل بقي في البصره اناس تحتفل؟هل لا زال الشاطئ اخضرا، موردا؟ هل لازالت القوارب تزدحم عند الساحل تنتظر"العبريه" بابتسامات جميله، وايدي ممدوده للمساعده؟ هل يصطف باعة الماء البارد ليوزعوا مائهم المثلج، بدون مقابل، وهم ينادون سبيل يا عطشان؟ ومن لا يعطش في البصره؟ هل لا زال الناس يضعون اقواس الفرح من سعف النخيل في افراحهم، واعيادهم؟ هل لا زال الناس ينتظرون "دورة راس السنه" ملتفين حول الصواني، وهم يتنشقون عبير ورد الآس الذي لم اجد لعبيقه مثيلآ في كل حدائق وجنائن العالم ؟ هل لا زالوا يرشون ماء الورد على رؤوس الماره يوم نورووز الجميل؟

ايه يا بصرتي الجميله؟ هل محت الفاشيه فرحتك الى الابد، ام ان شعبك المنتفض في اذار 1991 "شهر العيد" اراد ان يقول للطاغيه، ان البصره بصرتنا، والفرحه فرحتنا. وسنعيد للبصره حبها، وتسامحها وفرحها، و"كسلتها"

رزاق عبود
12/3/2005

ملاحظه
نشرت هذا الموضوع بتوقيع "بصراوي" بتاريخ2 نيسان1992 في نشرة "الكلمه" التي كانت تصدر في لندن. وكان يقوم باعدادها وتحريرها وطباعتها وتوزيعها صديقي الحبيب الاستاذ محمد سلمان حسن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزائر تقرر توسيع تدريس اللغة الإنجليزية إلى الصف الخامس ال


.. حياة كريمة.. مهمة تغيير ثقافة العمل الأهلى في مصر




.. شابة يمنية تتحدى الحرب واللجوء بالموسيقى


.. انتظروا مسابقة #فنى_مبتكر أكبر مسابقة في مصر لطلاب المدارس ا




.. الفيلم الأردني -إن شاء الله ولد-.. قصة حقيقية!| #الصباح