الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إحسان عبد القدوس... لماذا الآن؟!

حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)

2013 / 1 / 20
الادب والفن


منتهى الحب... قراءة استعادية
إحسان عبد القدوس... لماذا الآن؟!

ربما بدا من الغريب اللافت أن يقدم أحد على تقديم قراءة لمجموعة قصصية للأديب إحسان عبد القدوس في مثل هذه الفترة التي تموج بالاضطرابات وتسودها حالة من عدم اليقين على كل الأصعدة. ولكن لعل هذه الظروف هي التي دفعت إلى أن تكون وسيلة التعامل معها والتصدي لها هو العودة إلى المفاهيم التي عبرت عنها الكتابات الأدبية لعبد القدوس وغيره من المعاصرين له. ولعل المجموعة القصصية "منتهى الحب" الصادرة عام 1959 تمثل هذه المفاهيم المطلوبة للتصدي لكل الاضطرابات والتشوشات السائدة في مختلف المشاهد من الصورة الراهنة في العالم العربي، بل على مستوى العالم أجمع أيضا.

الحرية... سلبا ومنحا
ربما يبدو موضوع "الحرية" رئيسيا في كثير — إن لم يكن — كل القصص القصيرة التي ضمتها المجموعة والبالغ عددها 59 قصة؛ فالحرية هي المحور الرئيسي سواءً بالفقدان أو بمحاولة الاستعادة أو بالممارسة الفعلية. واللافت في تناول إحسان عبد القدوس أن الشخوص أحيانا تتنازل عن حريتها بمحض إرادتها مثل بطلة قصة "الملاءة اللف" التي استسلمت لكل من الخطيئة ورغبة زوجها في أن ترتدي البرقع والملاءة، فكان أن خضعت لعشيقها في بيت مخدومها ولزوجها في المنزل. هذا الأمر يمثل في حد ذاته ممارسة للحرية وإن كانت بشكل غريب؛ حيث يمارس المرء الفعل من أجل الحصول على نقيضه!
حرية الإرادة تتبدى أيضا في قصة "جريمة" التي قام فيها بائع الملوخية بممارسة فعل الحرية بأن قتل السيدة التي دعته للصعود خمسة طوابق وهو محمل بالملوخية دون أن تشتري منه في النهاية. إنها ممارسة الحرية للتصدي للظلم الاجتماعي؛ ولكنها ممارسة مثلت أقصى مستوى من الرقابة على الآخر وهو الاغتيال، وفق تعبير إرنست همنجواي.
إلا أن ممارسة الحرية تأتي في كثير من الأحوال على حساب أطراف أخرى، وشخصيات إحسان عبد القدوس لا تتعامل مع قضية الحرية من منطلق المسئولية، إلا من رحم ربي؛ فالحرية منفلتة ولا تعمل إلا على خدمة مصلحة الطرف الذي يمارسها دون النظر إلى عواقب ذلك على الطرف الآخر.
الشخصيات تفعل ما تريد، وقتما تريد. وعندما يتم حرمانها من هذا الحق، تبدأ في التمرد على نفسها وعلى المجتمع، سواء كان بالمرض أو بالانخراط في الخطيئة أو بارتكاب القتل، وكلها أفعال تعبر — من زاوية ما — عن الحرية، فحتى تمرد الإنسان على جسده بالمرض هو نوع من الحرية اللاواعية التي يمارسها الإنسان عوضا عن عدم قدرته على ممارسة الحرية الواعية.
إذن، الحرية قيمة مطلقة الأهمية لدى إحسان عبد القدوس كما يظهر من قصص المجموعة وغيرها من المجموعات والروايات التي خطها المبدع الراحل بقلمه. إنها مهمة لدرجة أن شخصيات القصص ترتكب فعل القتل وتدوس على الآخرين وتنخرط في الرذيلة من أجل ممارستها، بل يتطور الأمر إلى ممارسة الحرية في سبيل التخلص منها، وهو أمر يمثل قمة الرغبة في ممارسة الحرية.

البساطة طريقا للعمق
عندما يبدأ المرء في قراءة المجموعة القصصية يشعر أن هناك سحابة لطيفة من البساطة تهيمن على تفكيره. والبساطة هنا تأتي على مستويي الفكرة وطريقة التعبير عنها؛ فلا عبارات معقدة، ولا جمل متكلفة، هذا من ناحية الأسلوب. أما من ناحية الفكرة فهي غاية في الوضوح، ولا تحتاج إلى "كتالوج" لشرحها مثلما هو الحال في الكثير من الأعمال الأدبية التي تأتي غامضة ملتبسة بدعوى الحداثة. ولكن بقدر هذه البساطة في الفكرة وأسلوب التعبير عنها، يأتي عمق الدلالة؛ فلكل قصة مغزى يترك في نفس الإنسان أثرا من الصعب محوه.
وكما قلنا في معرض تعليقنا على جزئية الحرية، نقول إن الشخصيات تفعل ما تريد وقت أن تريد، وهذا قمة البساطة. فما الأمر إذن عندما لا تفعل ما تريد؟! تمرض أو تتمرد! هكذا بكل بساطة. إذن، ردود الأفعال البسيطة والحركة التلقائية للأفراد تساهم كثيرا في إيصال المغزى العميق إلى ذهنية القارئ. إذن، يمكن القول بكل "بساطة"، إن هذه المجموعة القصصية رفعت شعار "البساطة طريقا للعمق".

المرأة... شيطان أم ملاك؟!
في غالبية قصص المجموعة نجد أن التزام "إحسان عبد القدوس" بالدفاع عن المرأة راسخا، حتى وإن ظهرت كالشيطان في بعض القصص مثل "بداية عربيد"؛ حيث جعلت الطفل يعرف طريق الغواية. لكنه يرى أنها بالفعل مظلومة لأن الحرمان الاجتماعي دفعها إلى ما وصلت إليه. كذلك — والشيء بالشيء يذكر — يحمل المجتمع مسئولية العربدة التي قام بها الطفل بعد أن شب وصار يافعا؛ فلولا حرمانه من الشعور بالاحتواء الأمومي، لما كان قد تحول إلى هذا الشيطان، الذي صار عليه.
كذلك في قصة "الخادمة"، البطلة سارقة، ولكنها لم تسرق إلا لكي تعبر عن حبها لمن أرادته حبيبا، ولكنه رفض أن يمنحها ما أرادت إلا نظير المال، مما دفعها إلى السرقة. وفي قصة "الملاءة اللف" كذلك نجد المرأة شيطانا ولكن هذه الشيطنة نجمت عن الفعل القاسي الممثل في رغبة الزوج فرض السيطرة الذكورية عليها بارتداء "الملاية والبرقع"، فكانت الخطيئة نوعا من التمرد على القهر؛ نوعا من ممارسة الحرية في رفض القهر.
ومن التعمق في تفاصيل القصص، يمكننا أن نلاحظ أن المرأة تلعب دور الدافع للكثير من أفعال الأبطال سواءً كانوا أطفالا أم رجالا، وسواءً كانت هذه الأفعال خيرة أم شريرة. ففي قصة "الأغا"، نجد أن الطبيب يترك كل أحلامه وطموحاته في القرية، ويتجه إلى المدينة نتيجةً لرغبته في الارتباط بابنة سيد القرية. وكذلك في قصة "جريمة"، نجد أن الباعث على الجريمة هو المرأة التي دفعت الرجل إلى الصعود لطوابق خمسة دون شراء شيء.
الرومانسية تأتي كعنصر أساسي في نساء "إحسان عبد القدوس"، فها هي بطلة قصة "الحب والدبلوماسية" تموت بالالتهاب الرئوي من انتظارها لحبيبها، وبطلة قصة "أحلام الصغار"، تتحمل كل عيوب وخطايا ومساوئ حبيبها في سبيل الحفاظ عليه لأنه من اختاره قلبها لكي يكون ساكنه. وإلى جانب الرومانسية، يأتي العذاب، فهناك المرأة التي عذبها جسدها وعدم قدرتها على السيطرة عليه، وهناك المرأة التي قلتها طموحها معنويا، وكذلك المرأة التي أنهى ذكاءها حياتها نفسيا، والمرأة التي تتعذب بسبب فقدان حبيب هي من نأت بنفسها عنه.
المرأة، إذن، عبارة عن إنسان متكامل في قصص هذه المجموعة، فهي مصدر الحب وصانعة البطولة، وكذلك هي مصدر العذاب لها ولغيرها، والسبب في الجريمة، وكذلك السبب في اكتمال الحياة. المرأة حرة ومسئولة، وأحيانا تستخدم حريتها لأجل نفسها فقط، ولكنها تستخدمها أيضا بما يضر بالآخرين. المرأة إنسان له كل الحقوق والواجبات، يقوم بكل الأفعال الخيرة، ويرتكب كل الآثام، وهو ما يعبر عن الالتزام الكامل من جانب "إحسان عبد القدوس" بقضية المرأة وحريتها. هي إنسان متكامل ليس أقل من الرجل ولا أكثر، لها من السمات الإيجابية ما له، وعليها ما عليه. وبالتالي، لا تستحق معاملة أقل منه.

نفوس معقدة
منطقيا كان "إحسان عبد القدوس" في معالجته للنفس الإنسانية. فلما كان الإنسان مركبا ومعقدا في شخصيته، كان لا بد أن يظهر ذلك في الأعمال الأدبية لـ"عبد القدوس". فالشخصيات في المجموعة القصصية مشوشة وحائرة ومرتبكة في تصرفاتها، على الرغم من أنها تحيا بكامل إرادة حرة، ولكن فيما يبدو أن هذه الإرادة الحرة كانت مصدر تعذيب وشقاء للإنسان. فها هو بطل "أحلام الصغار" يترك كل العز والحياة المرفهة ليعود إلى الجلوس على مقهى ريش، ويحيا حياة البؤس وشظف العيش. لكنه اختياره. كذلك الأمر نفسه ينطبق على "العودة إلى القرية" والتي فضل فيها البطل أن يعود لقريته على أن يبقى في المدينة على الرغم من أنه كان يتوق إلى العيش فيها، ولكنه لم يجد نفسه كما يريد فعاد إلى القرية.
وعلى الرغم من اختلاف الدوافع بين الأبطال بين خيرة وشريرة، فإن ما يجمعهم كلهم رابط واحد وهو الحيرة في التصرف واختيار المصير، فما كان اختيارا زاهيا، بات فاشلا، وبالتالي تعين التخلص منه وهو ما وضح بشكل كبير في القصتين المذكورتين في الفقرة السابقة.
كذلك، تأتي الخيانة الزوجية والانغماس في حياة الخطيئة كأحد الأساليب التي يرتضيها بعض الأبطال كمحاولة لإيجاد طريق في الحياة لم يستطيعوا فيه أن ينالوا الحياة السوية. ومرة أخرى، يبرز في هذه الجزئية التزام "إحسان عبد القدوس" فيما يتعلق بالمرأة فهو هنا لا يفرق بين رجل وامرأة ويترك الكل يفعل ما يريد، ويتخبط كما يريد؛ فالكل إنسان لديه لا مرأة ولا رجل.

الكثير والكثير...
في جعبة هذه المجموعة القصصية الكثير و الكثير من الأمور التي يمكن الحديث عنها إلا أن المقام يضيق؛ فالأمر يحتاج إلى العديد من المقالات والتعليقات النقدية لكي يتم استيفاء هذه المجموعة القصصية الرائعة الرائدة حقها في النقد. وعلى الرغم من بعض السلبيات، تمثل هذه المجموعة القصصية واحدة من نقاط الارتكاز في أدب "إحسان عبد القدوس" نظرا لما تضمه من ثراء في رسم الشخصيات الإنسانية، والدقة مع البساطة في التعبير عن المشاعر الإنسانية، وهو ما ظهر جليا في قصة "قصة حب" والتي عبر فيها عن العشق الإلهي بكل دلالاته الصوفية فيما لا يتجاوز الصفحتين وبأبسط الألفاظ وأدقها وأوضحها. كذلك كان الفكر الاشتراكي واضحا في الكثير من القصص بخاصة التي تناولت حياة المهمشين, وهو البعد الذي يحتاج إلى موضوع كامل من أجل تناوله لا مجرد فقرة في قراءة نقدية مختصرة للمجموعة القصصية.
ومن بين السلبيات التي يمكن ذكرها في هذه المجموعة التعبير المباشر للغاية عن الفكرة. فعلى الرغم من أن هذا الأمر قد يرجع إلى "سحابة البساطة" التي سبق أن تكلمنا عنها، فإن هذه البساطة تنقلب إلى مباشرة واضحة تحرم القارئ أحيانا من الحق في التفكير والسعي وراء المغزى العميق الذي يختفي وراء هذه البساطة.
القراءة الاستعادية لهذه المجموعة تبرز أهميتها الآن نظرا لافتقارنا البساطة في التعبير والفهم، وكذلك بسبب الارتباك والاضطراب الذي نعيش فيه والذي يشبه تماما ما يعانيه أبطال قصص المجموعة. إلا أن هذه الشخصيات وجدت من يعبر عن معاناتها بكل بساطة فوصلت رسالتها للقارئ
هي مجموعة قصصية بسيطة الأسلوب عميقة المغزى يربط بين جنباتها خيط واحد من مشاعر الارتباك والسعي نحو الحرية والالتزام بإنسانية المرأة إيجابا وسلبا. إنها مجموعة يمكن تسميتها "منتهى الإنسانية" لأنها تعبر بالفعل عن الإنسان بكل مميزاته وسلبياته ووضوحه وتعقيده. إنها فعلا مجموعة تستحق القراءة الاستعادية لنستعيد بها الوضوح في رؤيتنا لأنفسنا.
******








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - محمد عبد القدوس لن أعيش في جلباب أبي
عبد الله اغونان ( 2013 / 1 / 20 - 22:01 )
محمد عبد القدوس أخواني معروف ابن احسان عبد القدوس تزوج بنت الداعية محمد الغزالي
لو كان هناك أفر لهذه القصص فكيف لم تعمل في ابن احسان عبد القدوس
سبحان الله يخرج من الاصلابهم من يعبد الله ويدافع عن دينه
راجعوا أخباره على النت
ولكم واسع النظر

اخر الافلام

.. بدء امتحان اللغة الأجنبية الأولى للثانوية العامة..التعليم: و


.. عمرو الفقي: التعاون مع مهرجان الرياض لرعاية بعض المسرحيات وا




.. ثقافة البرلمان تشيد بتفاصيل الموسم الثاني لمهرجان العلمين وت


.. اللهم كما علمت آدم الأسماء كلها علم طلاب الثانوية من فضلك




.. كلمة الفنان أحمد أمين للحديث عن مهرجان -نبتة لمحتوى الطفل وا