الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تخلف جهل.. وحضارة جهالة

عبد الإله بوحمالة

2005 / 3 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


الحضارة الغربية، بشقيها الأمريكي والأوربي لم تصل إلى ما وصلت إليه من تقدم علمي وتكنولوجي وعمراني.. هكذا طفرة واحدة بين عشية وضحاها، بل إنها تدرجت مع التاريخ صعودا وهبوطا، قوة وضعفا، بحيث لامست في مسيرتها قعر الظلام والهمجية قرونا طوالا وتخبطت في الوحل والدماء، قبل أن تهتدي بجهدها وجهد ما ورثته من حضارات عملاقة سبقتها إلى طريق الشمس والعلم والأنوار، وقبل أن تتوضح أمامها دروب الحرية والانعتاق وحقوق الإنسان والحيوان وكل المبادئ السامية الأخرى، وتقطع في ذلك هذه الأشواط القليلة مقارنة مع تاريخ ممتد بطوله وعرضه من السبات والتخلف وقانون الغاب وسفك الدماء.
وهي الحضارة التي، إن نظرنا إليها من آخر سنوات عمرها نجد أنها فقط قبيل عقود قليلة، فجرت أضخم الحروب الوحشية وأبشعها على الإطلاق، الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهي التي تكالبت على العالم في سباق استعماري محموم لم تكن له في حقيقة الأمر أية تغطية أخلاقية أو مبررات مبدئية أو إنسانية مقنعة اللهم إلا الجشع والطمع واستعباد العالم والتهالك على خيراته وثرواته.
هذه الحضارة جاءت مرة أخرى تفرض على العالم بوحي من جنون عظمتها وسطوتها وقوة تدميرها قيما مستحدثة نابعة من وثنية المال والمصالح المادية البورصوية، وتسوقه إلى نمط حياتها المعلبة اللاهثة وعلاقاتها الاجتماعية المسوخية، وكأن الشخصية الغربية الأوربية بأبعادها الثقافية والقيمية هي المطلق المسطح الخالي من النتوءات والشوائب، أو هي النموذج الصحيح الوحيد الممكن الذي يجب أن يسود العالم ويهيمن على زمامه في القرن الواحد والعشرين هذا.
وهي حين فعلت ذلك في الماضي كما تفعله في الحاضر وتتكبد في سبيله أحيانا خسائر مهولة، على فرض أن نيتها خير، لم تفعله لأجل سواد عيون أناس لا زالوا يهيمون خلف قطعان الإبل والماعز في السهول والوديان والبراري والصحارى، هنا أو هناك في قارات التخلف والفقر والجوع المعروفة في العالم. ولا من أجل من لا يزال يحتمي بالكهوف والمغاور وبيوت القش والطين ويتدفأ بحرق البعر، بل من أجل ذلك الإنسان الأوربي والأمريكي السوبر وحده لا غير. من أجل رفاهيته ورخائه ونعومة عيشه، وضمانا لتفوقه وسيادته، وحفاظا على المؤشر البياني الذي يرسم شكل حياته دوما في وضع التصاعد المضطرد.
نحن، في الحقيقة، بالنسبة لهم مجرد سوق رائجة نهمة مستلبة ببريق السلع المادية والفكرية، ومجال غير مشبع لتصريف الفائض من منتوجاتهم. وأرضنا بالنسبة لهم مناجم زاخرة بمعادن وثروات وكنوز لا صاحب لها، وحتى إن كان لها صاحب فهو في نظرهم غبي مغفل ومتخلف لا يقدِّرُ قيمتها وبالتالي لا يستحقها. ثم إننا نحن وأرضنا وبحرنا وسماؤنا معا بالنسبة لهم ولغطرستهم حلبة للصراع وساحة للقتال ومكبا للنفايات وحقل تجارب واسع يختبرون فيه سموم أسلحتهم وكل مفردات الفتك والفناء التي يصنعونها ويصدرونها لنا، بحيث لا مجال لأن يقوموا بذلك في عقر دارهم أو بين بعضهم البعض.
إنني أريد أن أقول في هذه الكلمة بخلاصة شديدة إن حضارة كانت هذه بعض العناوين الكبيرة في تاريخها، وتلك بعض القيم التي تتنطع لها، لا يحق لها أن تقود العالم ولا أن تسوده بقوة السيف أو تقدم نفسها كمثال أو تدعي لنفسها أفضلية ووصاية على الآخرين مهما كان تخلفهم ودرجة بدائيتهم، لأن الفرق بينها وبينهم أن تخلفهم تخلف جهل وأمية بينما تخلفها هي تخلف جهالة ووحشية، والنوع الأخير أشنع. أما إذا كان هاجسها المادة والمال واحتكار الثروات كما يفترض أن يكون، فحري بها أن تعلن نفسها حضارة تجارة وسوق وبيع وشراء لا حضارة قرصنة واغتصاب وإبادة، وأن تترك للآخرين مجال التمتع بحرية التقييم والانتقاء أو المنافسة وتقديم البديل الأجود أو المغاير.
أما إذا كنت مخطئا أو غير منصف في تقدير الرسالة النورانية التي تحملها هذه الحضارة وتبشر بها، فإنني أطالبها، بحق المتخلف الجاهل، أن تترك لنا، على الأقل، حق معافرة تخلفنا، الذي كانت هي من أسبابه الرئيسية، بما ملكت أيدينا بدون قفز على التاريخ ولا حرق للمراحل ولا عمليات قيصرية تولد كائنات شائهة، لأن هذا هو السبيل الأصح للبناء من أسفل وعلى أساس صلب ومتين، إذ أن أمة متقدمة بالطفرة أمة متقدمة شكلا لا مضمونا، لأنها أمة استهلاك وتبعية لا أمة إنتاج وعلم وإبداع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ctمقتل فلسطينيين في قصف جوي إسرائيلي استهدف منزلا وسط رفح


.. المستشفى الميداني الإماراتي في رفح ينظم حملة جديدة للتبرع با




.. تصاعد وتيرة المواجهات بين إسرائيل وحزب الله وسلسلة غارات على


.. أكسيوس: الرئيس الأميركي يحمل -يحيى السنوار- مسؤولية فشل المف




.. الجزيرة ترصد وصول أول قافلة شاحنات إلى الرصيف البحري بشمال ق