الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عمى الوان

يوسف ابو شريف

2013 / 1 / 24
حقوق الانسان


كان ابني البكر شريف يتأرجح بين السنة الثانية والثالثة من عمره حين كنت أتابع نموه بشغف، مجساتي تراقب أقل حركة يقوم بها لتسجلها، وتصبح الملاحظات المسجلة بشكل تلقائي جزءاً من البوم يشبه البوم الصور، ألبوم مشاهدات يزيد من هوسي بوجوده أمام عيني ، وتوقي لقدوم اليوم الذي نجلس فيه معا نضحك على عثرات طفولته كصديقين يستعيدان ذكرياتهما القديمة.
قبل أسبوع بدأ درس الألوان ، وباشر الصغير منذ ذلك الحين يصنف أشياء حياته حسب ألوانها ويسرف في رد كل ما يحيط به إلى لونه. (بطيحة حضلاء، سمامة صفلاء، إسالة ملول حملاء نقف، وحضلاء نمسي) .ولم يكن يهم بابا عدم اكتمال اللفظ طالما أن البطيخة خضراء فعلا، والشمامة صفراء، وطالما شريف يتوقف عند الإشارة الحمراء ، ويمشي إذا صارت خضراء، فما يضير بابا بعد ذلك إذا سقط هذا الكم من النقاط الأصلية من حديث من يتدرب على استخدام لسانه للتو.
أراحني موضوع الألوان لبعض الوقت من مهمة منع الطفل من لمس بضائع المتاجر كلما دخلنا للتسوق ، فلقد استبدل الصغير إصراره على المشي في المتاجر ـ ومعاينة كل مايعرض على الرفوف المنخفضة باليد، وتجربة متانتها حين تسقط على الأرض ـ بجلوس في عربة التسوق جلوسا مؤدبا واصطياد الأشياء بسنارة الألوان الجديدة التي صنعها له بابا
ـ بابا هذا كيس أسود ؟
ـ كيس أسود.... عظيم يا حبيبي.
ــ سيالة حملاء
ــ (برافو) يا عمري سيارة حمراء
وتجّول الصغير في رحاب مدى بصره، بين فستان أزلق ، وطماطم حملاء، حتى وصل إلى سيدة ذات أصول إفريقية:ـ
ـ وهذه املأة بنية.
ـ لا يا حبيبي... هي امرأة سوداء ..قلت هذا متأكدا من إجابتي... ضاحكا من قلة خبرة الصغير
ــ املاة بنية، بنية يا بابا ..
سرعان ما وافقته الرأي حين رأيته يتأرجح بين حماس الثقة وبكاء الخيبة لأعيد اليه المرح الذي كان يلهب رغبته بالتعلم قبل أن يكتشف المرأة موضع الخلاف.
عدت الى البيت حيث ماما تستعد لاستقبال الصغير بحدقتيها المتسعتين كالعادة تشجيعا لما يجلبه الصغير من أخبار عاجلة ومهمة جدا من العالم الواسع الذي يخرج يوميا لاسكتشافه.
ــ طارت الحوامة البيضاء قريبة من رأسي ، واختفت خلف البيت، هي تسكن في ذلك البيت العالي
ــ طائرة مشاكسة سنمسك بها معا إذا رأيناها في المرة القادمة .
ــ أعطتني الخالة في المتجر بالونا أصفرا لكنه طار مني إلى السماء الزرقاء
ــ ربما يكون قد وصل إلى القمر الأصفر مثله الآن، وهو سعيد بذلك
ــ ورأيت امرأة بنية تشتري باذنجانا أسودا؟
ــ ضحكت ماما ضحكة مدوية حين سمعت باللون غير المعروف في قاموس ألوان بني البشر ، وخرجت عن نص مسرحية المرح اليومية حين وجهت سؤالها إلي:ـ
ـ هل رأى امرأة سوداء ؟
فهم الصغير سؤال ماما الذي لم يصمم في الأصل له، وعاد الى رنة التحدي ــ أنا اقول المرأة بنية ياماما بنية، والباذنجان هو الأسود .
غمزت لماما حتى لا تفسد للصغير حماسه للتعلم، بالشعور بخيبة الخطأ وقلت لها :ـ
ــ لا تعكري مزاجه يا حبيبتي ، ستعلمه الأيام تلقائيا.
مرت شهور على حكاية المرأة البنية استطعنا خلالها إعادة الصبي إلى صوابه بطريقة تدريجية ، وحمدنا الله على أن عملية التصحيح كانت خفيفة لطيفة على نفسية الصغير ولم تنزع ثقته بالعالم والعلم والمعلمين من حوله.

وشاء القدر أن أتعثربعد ذلك بأسابيع قليلة بكتاب يتناول في أحد فصوله محاكمة من محاكمات الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا . اقتطع دماغي من المحاكمة الطويلة العريضة مقطعا صغيرا أثار اهتمامه ، بينما عيناي تكملان مشوار القراءة دون تركيز بعد تخلي وعيي عن إكمال المشوار وتفضيله الوقوف عند ذلك المشهد للتحليل
يقول رئيس الادِّعاء للمتهم مانديلا
ــ سيد مانديلا، في الكثير من خطاباتك التحريضية تستخدم كلمة بيض لتدلل على أصحاب البشرة الفاتحة من أهل هذه البلاد ، مع أنك تعرف بأن لونهم ليس أبيضا تماما، فهو في الحقيقة طحيني ، أو اصفر مائل الى البني أو الأحمر. سمه كما تشاء لكنه في كل الأحوال ليس أبيضا كالورقة التي أمامك، ولفظ البيض تستخدمونه في مجموعاتكم العنصرية بهدف التمييز وهذه إشارة إضافية تدلنا على صحة االتهمة الموجهة لك بالتحريض العرقي فبم تدافع عن نفسك؟
أجاب المتهم على الفور:
ــ السيد ممثل الادّعاء ، في مذكرة الاتهام الموجودة أمامكم والمكتوبة من هيئة الادّعاء التي تمثلونها وردت لفظة أسود أوسود أكثر من مئة مرة استخدمت من قبلكم للإشارة إلى سكان هذه الأرض الأصليين . مع أنك تعرف بأن لوننا ليس أسودا تماما ، فلوننا حسب ما يقوله علم الألوان هو بني ، نتراوح فيه بين البني الغامق والفاتح، ولم أشاهد في حياتي رجلا أسودا بمعنى السواد كما هو حال الفحم، فهل نستطيع بناءً على ذلك اعتبار مذكرة الإتهام التي بين يدي عدالة المحكمة مذكرة عنصرية، كتبت بالفاظ عنصرية صرفة ، لا مكان لها في محاكمة عادلة ؟
لولا قصة شريف والمرأة البنية لمررت على هذا المقطع من الكتاب مرور الكرام ، دون أن أتعمق فيما يقف خلفه من دروس لي أنا شخصيا. فموافقة نيلسون مانديلا على نظرية شريف ابني في إعادة تسمية ألوان البشر نبهتني إلى أني قضيت عمري ألوّن أهم شيء على هذه الأرض ـ وهو الانسان ـ بألوان الخطأ .
أربعون عاما مرت على عمى الألوان عندي دون أن أتنبه بأن اللون الأبيض والأسود ليسا ألوانا للبشر، وأن هذه الألوان زرعت في وعي الكثير من سكان هذه الأرض، ليس بهدف توصيف البشر حسب ألوان جلودهم الطبيعية، بل لحضهم على تصنيف أنفسهم كمخلوقات تختلف عن غيرها. فالأبيض والأسود هنا لم يتواجدا فقط لقلة الألوان في الطبيعة، أو لقلة الكلمات في اللغات البشرية، أوعجز الإنسان عن اختراع لفظ يصف به كل لون من ألوان البشر بدقة ، بل وجدت بوعي عنصري تمييزي يقظ، يقول أن الاختلاف بين هذا الإنسان وذاك كاختلاف الأبيض والأسود، ولا يمكن أن يصبحا شيئا واحدا في يوم من الأيام.
هذا هو مثال واحد بسيط على الكثير من المسلّمات التي ترقد في وعينا اخترعها شخص ما في يوم ما ، وأراد أن يكرّس بها تميّزا ما لشيء ما فأخذناها بالتربية وكبرنا معها دون أن نحاول ولو لمرة واحدة أن نردها إلى أصلها المنطقي.
بقيت إلى اليوم أحلل خطأي ذاك، وأقيس عليه أخطاءً أخرى كثيرة مشابهة خارج إطار الألوان، لكنها مزروعة في وعي الإنسان. وذهبت في رحلتي التصحيحية تلك بعيدا لدرجة أني حدثت نفسي باقتراح على المرحوم (مايكل جاكسون) بتغيير اسم أغنيته (بلاك أند وايت)، أو التعدي على حقوق المؤلف لكثير من الأغاني العربية مثل(البنت بيضا وانا اعمل إيه) علني بهذه التغييرات البسيطة أكفّر عن ذنبي التاريخي ذاك حين كان قلبي مصابا بعمى الألوان.
في النهاية بدأت أصدق حديث أختي ـ الأم المجربة ـ حين قالت لي :ـ
وستكتشف أثناء تربيتك لأبنائك يا عزيزي بأنك تتعلم منهم أكثرمما يتعلمون منك.
صدقت أختي فلقد أردت في ذلك اليوم أن أعلم ابني درسا صغيرا في الألوان، فإذا به يعلّمني درسا كبيرا في الإنسانية والمنطق (الله يرضى عنك يا بني ).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أولادي أيضا
جهاد علاونه ( 2013 / 1 / 24 - 08:26 )
هل تعلم أن أولادي أيضا يريدون تعليمي الصلاة والصيام؟ كثيرا ما يحاولوا تعلميمي خصوصا تطبيعي على طباعهم وتعويدي على عاداتهم..وأحيانا يهددونني بالقوة إما أن أمشي كما يريد علي وإما أن يتمرد عليّ عليّ ويترك البيت ويهاجر وقد علها مرتين ولنفس السبب حين لم يجد ي جيبي مالا يشتري به ما يريده من السوق


2 - عزيزي ابا علي
يوسف ابو شريف ( 2013 / 1 / 24 - 08:35 )
ارجو ان لا تتهمه بممارسة الاضطهاد الديني ...أو الضغط الاقتصادي .....وتروح لاطشو مقالة من تبعاتك الي بنعرفها
الله يخليلك اياه يا رب ...... بس ارجوك ابعدو عن ابني شريف لانو شريف بعدو مش مندل على سولافة التهديد بالهجرة من البيت ...


3 - السيد ابو شريف
ابونضال ( 2013 / 1 / 24 - 18:59 )
عزيزي ابو شريف. وقفت طويلا حائرا امام مقالتك في محاولة للمفاضلة ايهما اجمل النص ام الفكرة العظيمة التي ساقنها اليها الحوار البسيط الذي دار بينك وبين طفلك(او بينك وبين انت الطفل) .


4 - عزيزي ابو نضال
يوسف ابو شريف ( 2013 / 1 / 24 - 21:00 )
العشرة التي تقضيها مع اطفالك تتطور، فيكونوا حلما ثم يصبحوا واقعا مفرحا ،واعلى درجات التطور التي تصلها العلاقة بينك وبين طفلك هي أن يصبح الطفل جزءا من ضميرك فينهاك حبك لابنك عن اقتراف مالا يمليه عليك ضميرك لأنك القدوة أولا ، ولان علاقتك مع ابنك تتحول فيما بعد الى وحدة قياس تقيس فيها انسانيتك


5 - مقال جميل
ابوعمرو ( 2013 / 1 / 25 - 07:37 )

مقال جميل كالعادة يا ابوشريف ، وان كنت شخصيا اجد حصر تصنيفه تحت محور محاربة العنصرية تقييدا للمعاني العظيمة التي استخلصتها من القصة ، اطربني جدا العزف على الجانب التربوي واحترام قدرات وطاقات الاطفال العقلية التي لايمكن التكهن بنتائجها لو احسنا توظيفها وتوجيهها .....

العنصرية شيء مقيت اقلها خطرا العنصرية ضد اللون ، لو تأتي الى بلادي يااستاذ ، للقمت ابنك كل يوم ملعقة كاملة الدسم بالعنصرية ، وانت تتلذذ بذلك ...

اشكرك واتمنى لك التوفيق


6 - لله درك ابا شريف
عصام ( 2013 / 1 / 25 - 11:30 )
كلما ازدت قراءة لمقالاتك كلما ازداد اعجابي بموهبتك الفذه بفن المقاله
لقد ابدعت هذه المره ... اذ نقلتنا من صورة الى اخرى بسلاسه متناهية ثم اوصلت لنا فكرة موضوعك بطريقة فنيه ولاسيعني الا ان اقول انك فنان اذ تقدم افكار من خلال صور فنية وليس بصوره جرداء ينأى عنها القارئ _ كما يكتب البعض_.
اما الموضوع فقد احسنت اختياره داء مقيت كما وصفها ابا عمرو وقد وضحها رسولنا الكريم في ابسط قواعدها حيث قال في حجة الوداع - ا أيها الناس ألا ‏ ‏إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا ‏ ‏لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا -بالتقوى أبلغت قالوا بلغ رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه


7 - ابو عمرو
يوسف ابو شريف ( 2013 / 1 / 25 - 17:40 )
تحية لوجودك دائما ،المحور الذي اقترحته(محاربة العنصرية)هو اصح المحاور لتنضوي المقالة تحت رايتها ، لكن في محاور الحوار المتمدن لا يوجد محور اسمه محاربة العنصرية فقط .... انما هو مربوط دائما بالهجرة وحقوق الجاليات ، لذلك لجأت الى هذا المحور(حقوق الانسان) على انه
الأقرب وليس الأصح
صدقت يا عزيزي العنصرية أمر لا تمارسه الا الأمة المشرفة على الانهيار .ــح


8 - الأخ عصام
يوسف ابو شريف ( 2013 / 1 / 25 - 17:50 )
صرت أحس بأن صفحتي ملتقى للأحبة ،وعندما أكتب موضوعا جديدا و تتأخر علي أهم بسؤال الباقين أين عصام يا جماعة كاسة الشاي خاصته مصبوبة ، آمل أن يأتي قبل أن تبرد
اهلا وسهلا أخي عصام تعشيت ولا لسا ؟


9 - ابو شريف
انسان حر ( 2013 / 1 / 25 - 20:05 )
مقاله رائعه ابو شريف احسنت فالدول التي تنشر العنصرية في اراضيها سوف تكون على شفير الحافة
وهذا ما تعمله الدول الاستعمارية مع الدول الضعيفة اذ تنشر بينهم الفرقة بالعنصرية
فتجد الدول مقسومة عدة اقسام والقسم الواحد عدة اجزاء
والجزء عدة فروووع ...الخ
اما انت اخي ابو علي فلا اقول لك الله يعين اولادك عليك
ولا يصح عليك الا المثل القائل
علم في المتبلم يصبح ناسي


10 - إنسان حر
يوسف ابو شريف ( 2013 / 1 / 27 - 02:45 )
العنصرية طريقنا الى الجاهلية .....والجاهلية طريقنا الى الفناء


آن الأوان أن نقول لكل عنصري بيننا (انك امرؤ فيه جاهلية )ـ

تحية لك ولولوجك المفرح دائما الى صفحتنا


11 - اين مقالك الاول
ابوعمرو ( 2013 / 1 / 27 - 20:44 )
لا اجد مقالك الاول :( انا وكلب هايدي ) في ارشيف مقالاتك !!!

ما المشكلة ؟


12 - وانا ايضا يا عزيزي ابا عمرو
يوسف ابو شريف ( 2013 / 1 / 27 - 23:45 )
كتبت للحوار المتمدن بهذا الصدد فلم يجيبوني ......لكن المقالة موجودة على محرك البحث

اخر الافلام

.. جولة لموظفي الأونروا داخل إحدى المدارس المدمرة في غزة


.. اعتقال أكثر من 1300 شخص في الاحتجاجات المناصرة لغزة في عموم 




.. العالم الليلة | الآلاف يتظاهرون في جورجيا ضد مشروع قانون -ال


.. اعتقال طالبة أمريكية قيدت نفسها بسلاسل دعما لغزة في جامعة ني




.. العالم الليلة | الأغذية العالمي: 5 بالمئة من السودانيين فقط