الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الساحة الفلسطينية ما بين الأمل بالسلام والتقاط الأنفاس

نقولا الزهر

2005 / 3 / 26
القضية الفلسطينية


من الواضح أن الوضع على الساحة الفلسطينية يدخل في الأشهر الأربعة الماضية في مرحلةٍ جديدة نسبياً، ورحنا نرى أيضاً تغيراً نسبياًً في الخطاب السياسي، و هنالك أجواء سياسية إن لم يحكمها أمل كبير بحلولٍ وتسوياتٍ للقضية الفلسطينية، فعلى الأقل بفترة يلتقط الشعب الفلسطيني فيها أنفاسه ويستعيد فيها بعض قواه ويعيد تشكيل بيته الداخلي. وهذا منطق كل ثورة أو انتفاضة أو مقاومة للاحتلال فهي لا تسير دائماً بمسارٍ مستقيم، بل تحكمها مسارات منحنية ومتعرجة، وهي قبل كل شيء تخضع بشكلٍ أساس لموازين القوى على الأرض ولتأثير العوامل الخارجية الإقليمية والدولية.
وفي الواقع لا يختلف الخطاب السياسي الفلسطيني الحالي من الناحية الاستراتيجية عن سابقه(في عهد الزعيم ياسر عرفات)، فهو لا يطال ثوابت النضال الفلسطيني حول الدولة والقدس وحق العودة، إنما يختلف في التكتيك والنضال المرحلي وأساليبه وأشكاله ولغته. فيحاول هذا الخطاب (خطاب أبي مازن وفريقه في فتح) أن يتكلم مع الأمريكيين والأوربيين والإسرائيليين بلغة براغماتية فيها الكثير من الإحساس بثقل الواقع الصعب وبرودة الديبلوماسية أكثر بكثير من حرارة الإيديولوجية والشعارات والحماس.
وضمن الحالة العربية التي نعرفها جميعاً، بما تتسم من ضعف وتفكك على كل المستويات، وضمن الوضع الدولي الراهن الذي تستفرد به الولايات المتحدة الأمريكية، وفي سياق الحرب العالمية التي تشنها هذه الأخيرة على الإرهاب والتي جرَّت إليها كل أوربا بما فيها روسيا، وفي ظل الحصار الخانق المفروض من كل الجهات البعيدة والقريبة على الشعب الفلسطيني بالسلاح والمال، وصلت الانتفاضة الفلسطينية في الواقع إلى مفترق طرقٍ صعبٍ وقاس، فإما أن تستمر محافظةً على نَظْمِها القائم على (العمليات الاستشهادية وقتل أكبر عدد من الاسرائيليين) مقابل قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين بالطائرات والدبابات الإسرائيلية واغتيال قيادات المقاومة؛ وإما التهدئة والتقاط الأنفاس واستراحة المحارب. في اعتقادي على مفترق الطرق هذا كان الخلاف الأساس بين أبي عمار وأبي مازن حينما كان رئيساً للوزارة.
وفي اعتقادنا أن الشروع في التهدئة ومعاودة التفاوض مع الإسرائيليين قد قاد إليه في العمق عامل آخر هام، يتعلق بتغيرات وتطورات حدثت لدى الطرف الآخر(أو السلطة الأخرى) على الساحة الفلسطينية وهو حماس التي تلقت ضرباتٍ قاسية على يد الجيش الإسرائيلي تمثلت باغتيال عدد من كوادِرها وقادتِها البارزين وعلى رأسهم الشهيدان: الملهم الروحي أحمد يا سين والرنتيسي سكرتير التنظيم في الداخل ، و قد دفعت هذه الخسائر قيادة حماس في الخارج والداخل للقبول بالتهدئة والشروع في حقبة سياسية مع الإسرائيليين، وكذلك المبادرة إلى الدخول في العملية السياسية الداخلية(الاشتراك في الانتخابات المحلية وعن قريب في الانتخابات التشريعية). وبالإضافة إلى ذلك فهنالك الكثير من التقارير والتحاليل التي تشير إلى بروز بعض القادة المعتدلين لدى حماس في الداخل مثل محمود الزهار واسماعيل هنية وغيرهما الذين يميلون إلى تطعيم عنف المقاومة بالأساليب السياسية السلمية أكثر.
وهنالك عامل داخلي آخر ربما هو الأهم قد قاد إلى التهدئة، هو معاناة الشعب الفلسطيني على كل المستويات، فبالإضافة إلى تضحياته البشرية قتلاً وسجنا ونفياً، يعيش في ظروف إنسانية قاسية جداً تحت وطأة حصار الجيش الإسرائيلي و(جدار شارون) وانعدام فرص العمل وتدهور المستوى المعيشي، وكذلك تحت وطأة الفساد ونهب المستوزرين والمستوظفين والفلتان الأمني. وأدت هذه المعاناة الشعبية إلى بروز الكثير من هيئات المجتمع المدني التي بادرت إلى رفع شعار الإصلاح وترتيب البيت الداخلي الفلسطيني كأولوية، وبرز في هذا المجال الدكتور مصطفى البرغوثي المرشح المنافس الرئيسي لمحمود عباس في معركة الرئاسة الأخيرة. وامتد شعار الإصلاح ليكون مطلباً رئيساً حتى لدى الحزب الحاكم(حركة فتح).
ويجب ألا نهمل العوامل الخارجية في هذا المجال، ولا بد من الربط بين ما يستجد على الساحة الفلسطينية وما يجري في المنطقة من أحداث جسام وخاصة الصعوبات التي تواجهها الولايات المتحدة في العراق. ومنذ مؤتمر الدول الثمانية في جيورجيا في جنوب الولايات المتحدة أخذت تطفو على السطح(المساومة الكبرى) بين أوربا وأميركا لجسر الهوة التي نشأت بين الطرفين غداة الحرب على العراق، وسحب الأمريكيون مفهوم أوربا القديمة وأوربا الجديدة وتفاهم الجميع على عدم فشل أميركا في العراق، وفي آن السماح لأوربا بالاحتفاظ ببعض المصالح والنفوذ في منطقة الشرق الأوسط، في هذا الإطار يمكن فهم التفاهم الفرنسي الأمريكي والألماني حول العراق ولبنان وسوريا، وفي الإطار ذاته يمكن فهم بعض التغير في الخطاب الأمريكي حول القضية الفلسطينية وتشكيل الدولة والعودة إلى إقامة الصلات مع الفلسطينيين وتقديم مساعدة مالية أمريكية لهم، وظهرت هذه التغيرات في الخطاب الأمريكي بشكلٍ واضح في تحركات كونداليزا رايس في رحلتها الأخيرة إلى القارة الأوربية والشرق الأوسط. وفي هذا الإطار أيضاً تمت تفاهمات قمة شرم الشيخ التي ضمت شارون ومحمود عباس وحسني مبارك والملك الأردني.
وفي العالم العربي لاقت هذه المساومة الكبرى بين أميركا وأوربا قبولاً بشكلٍ أو بآخر في المغرب العربي ومصر والسعودية ودول الخليج والأردن. وضمن هذه المساومة الكبرى الدولية والإقليمية مرِّر القرار 1559 حول لبنان وسوريا في مجلس الأمن(عدم اعتراض الجزائر).
وبطبيعة الحال علينا ألا نهمل تأثير الانتفاضة(غير المنتصرة وغير المهزومة)على المجتمع الإسرائيلي أمنياً واقتصادياً. فلقد فشل شارون في فرض الاستسلام على الفلسطينين الذي وعد أن يحققه بعد عام من استلامه السلطة، وحين قطع الأمل بتركيعهم بادر إلى خطته في الانسحاب من قطاع غزة. كل هذه العوامل التي ذكرناها قد أدَّت إلى نقل الساحة الفلسطينية من العنف إلى التهدئة والممانعة السياسية عند حدود الثوابت الاستراتيجية.
ما يبعث على الأمل في المرحلة الراهنة على الساحة الفلسطينية، هو محاولة بناء المؤسسات، والشروع في تكريس الحياة الديموقراطية داخل المجتمع الفلسطيني، وبدأنا نلمح في المؤسسة السياسية الفلسطينية شخصية المدير أكثر من شخصية الزعيم والقائد والأب والأخ الأكبر.
وفي الواقع، فقد أظهرت المؤسسة السياسية الفلسطينية حذاقة وسلاسة مرموقتين في نقل السلطة أثارتا إعجاب الجميع بعد وفاة الزعيم الراحل ياسر عرفات، وقد تفوقت في ذلك على كل الأنظمة العربية، باحترامها المشهود للدستور وبنوده. ولقد شكلت الانتخابات الديموقراطية التنافسية التي جرت لانتخاب رئيسٍ للسلطة حدثاً بارزا مثيراً للاهتمام في العالم العربي، ودقت إسفيناً عميقاً في أسلوب انتخاب الرؤساء العرب وتقاليد نجاحهم بنسبة (99.99%)، وبالإضافة إلى ذلك فقد حسمت الانتخابات الفلسطينية جدلاً كان ولا يزال يدور في العالم العربي حول مشروعية إجراء الانتخابات في ظل الاحتلال؟
وهنا لا بد من التساؤل؟ كيف يمكن أن يعيش شعب يرزح تحت الاحتلال بدون مؤسسات تمثيلية وبدون مجالس وبدون هيئات للمجتمع المدني؟ وثانياً ما هي الأطر والفضاءات التي يمكن أن يتحاور فيها هذا الشعب؟ ولماذا نذهب بعيداً فيما يتعلق بهذه المسألة، فعودة بسيطة للتاريخ العربي الحديث نرى أن التأسيس للتقاليد الدستورية الحديثة ولتقاليد الانتخابات في الدول العربية بعد معاهدة فرساي قد جرى في ظل الاحتلالات والانتدابات، وهذا ما كان يجري في مصر وسوريا والعراق(مذكرات خالد العظم ومذكرات أكرم الحوراني). وفي الواقع لا يوجد أي تناقض بين انتخاب المؤسسات السياسية التمثيلية وبين النضال من أجل الاستقلال؛ ولماذا لا نتأمل التجربة الهندية مع الاستعمار البريطاني ؟ وفي هذا المجال يبدو أن حتى منظمة حماس قد حزمت أمرها فقررت أن تدخل في معركة انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني بعد أن اشتركت في الانتخابات البلدية.
إني أختلف مع البعض من المحللين والكتاب الذين انداروا مباشرة ليصنفوا محمود عباس في " الخط الأمريكي"؛ في اعتقادي أن ياسر عرفات ومحمود عباس كلاهما ينتمي للخط الوطني الفلسطيني الذي لا يقبل بالاستسلام والتنازل عن الثوابت الفلسطينية ولكن لكل منهما رؤيته ووجهة نظره حول الخروج من المرحلة الراهنة إلى الاستقلال.
وهذا الخلاف لم يكن سراً فأبو مازن منذ بدايات الانتفاضة الثانية لم يكن مع عسكرتها، فهو لا يرى الظروف الدولية الراهنة المحكومة بهيمنة الولايات المتحدة، ولا العلاقات العربية الواهنة المتفككة أنها تتفق مع هذه العسكرة، لأن هذه الانتفاضة ضمن هذا الحصار الدولي والإقليمي تبقى غير قادرة على الوصول إلى أهدافها.
وفي النهاية يمكننا القول أن الوضع الفلسطيني لا يزال معقداً، وأن السلام ليس في متناول اليد، فلا يزال آلاف الأسرى في السجون الإسرائيلية، وبناء الجدار لا يزال مستمراً والانسحاب من المدن في الضفة الغربية لم يبدأ وإذا نفذ في بعضها فهو مجزوء. وإلى الآن الكرة في ملعب الولايات المتحدة، فهي لا تحاول على الإطلاق ممارسة أي ضغط على إسرائيل، ولا يزال شارون مصراً على تفكيك حماس والجهاد الإسلامي ولا يكتفي بقبولهما في الهدنة. وفي الواقع إذا لم تعطِ إسرائيل ثمناً سياسياً مقابل التهدئة فالأمور تبقى محكومة بإمكانية العودة إلى العنف..
الأخبار من مؤتمر القاهرة بين السلطة والفصائل تحمل إلى الأسماع رياحاً فلسطينية داخلية جديدة حول مرجعية موحدة للنضال الفلسطيني وحول تنظيم وتوزيع السلطة وحول الانتخابات وضماناتها وعدالتها.
على أية حال، وضمن كل الاحتمالات، يتمنى كل عربي أن تكون فترة التهدئة هذه فرصة للتأمل ومجالاً لتوحيد القرار الفلسطيني في الاستراتيجية والتكتيك. ولا يمكن أن يأتي الاستقلال بغير ذلك........
نقولا الزهر
دمشق في 16/3/2005








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغرب: حملة -تزوجني بدون مهر-.. ما حقيقتها؟ • فرانس 24 / FR


.. كأس أمم أوروبا 2024: ديشان يعلن تشكيلة المنتخب الفرنسي.. ما




.. هل تكسر واشنطن هيمنة الصين بالطاقة النظيفة؟


.. سكان قطاع غزة يعانون انعدام الخيام والمواد الغذائية بعد نزوح




.. إسرائيل تقدم ردها لمحكمة العدل الدولية على طلب جنوب إفريقيا