الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قمّة الجزائر: هل يمكن للنظام العربي الرسمي أن ينحطّ أكثر؟

صبحي حديدي

2005 / 3 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


لا يليق بهكذا «أصحاب فخامة وجلالة» رؤساء وملوك العرب، إلا هذا «العميد» العقيد العتيد معمّر القذافي! الله يعلم أنّه لم يكن ينقص المشهد التراجي ـ كوميدي في القمة العربية الـ 17 سوى هذا الفيلسوف الأخضر المتخفّي، مع ذلك، في إهاب أخ قائد أعظم للجماهيرية الليبية العظمى، كي يحمل إلى أخوته القادة العظام سلسلة من الكشوفات ـ البشارات التي كانوا على الأرجح لا يتجاسرون على مجرّد تقليبها في الأذهان:
ـ أنّ رئيس وزراء الدولة العبرية أرييل شارون ليس ذلك السفّاح العتيق العريق، بل هو عميل عند الفلسطينيين!
ـ وأنّ الإرهاب إسلامي صرف، ولا إرهاب إلا في بلاد الإسلام، وفي فلسطين والعراق وأفغانستان تحديداً وحصراً...
ـ وأنّ الديمقراطيات العربية والآسيوية والأفريقية (وبينها مملكة أوغندا، مثلاً ساطعاً!) هي الديمقراطيات الحقّة، مقابل «الديمقراطيات الدكتاتورية» في الدول الغربية حيث الشعوب «كأنها كلاب تنبح» ...
ـ وأننا، أصحاب الفخامة والجلالة، تسقط عنّا الواجبات شرعاً (في ما يخصّ الحرّيات العامة واحترام حقوق الإنسان والديمقراطية) ما دام الغرب يعتبرنا متخلّفين...
ـ وأنّ اندثار العرب وشيك ما لم ينضمّوا إلى تكتّل «الفضاء الأفريقي»...
ـ واللّهم البندقية السورية [في لبنان] ولا البندقية الأطلسية...
ـ والفلسطينيون، مع رجاء أن لا يزعل «خونا محمود عباس»، أغبياء لأنهم لم يقيموا دولة سنة 1948، والإسرائيليون كذلك أغبياء لأنهم لم يضمّوا الضفّة الغربية سنة 1948...!
هل ثمّة صفة واحدة قادرة على تلخيص أو تشخيص هذا المستوى من الإنحطاط، الأقصى المفتوح المنفلت من كلّ عقال؟ وكيف للشعوب العربية، في هذه السياقات السياسية والإجتماعية والثقافية المحلية والإقليمية والكونية، أن تبتلع كلّ هذا الإنحدار والبذاءة والمسخرة والعجز والتبعية والاستسلام والكذب؟ أليس في منتهى نهايات المصائب العربية أن يعتلي «عميد القادة العرب» هذا منبر القمّة لكي يقول: «إذا كانت هذه الديمقراطية [أي ديمقراطية الإنتخاب والتعددية وتداول السلطة]، متشكرين.. مش عاوزين»... وكأنه يعتذر عن قبول سيغار كوبي أو عباءة كشمير؟ وما الذي يلزم أكثر من هذا كي يتبدّى الحاكم العربي في القاع الأدنى من الإنحطاط، وفي أسفل سافلين؟
وهذا «العميد» هو نفسه الذي وصل ذات يوم إلى العاصمة اليوغوسلافية بلغراد، أيّام جوزيف بروز تيتو، ترافقه طائرة خاصة، غير الطائرة الرئاسية بالطبع، تحمل النياق التي سيشرب من لبنها، والفرس المطهمة التي سيدخل بها قاعة قمّة عدم الإنحياز. وهو الذي طرد آلاف الفلسطينيين من جماهيريته العظمى إلى خيام نصبها في الصحراء، ورفض الإعتراف بدولة فلسطينية لأنها تناقض نظريته في دولة «إسراطين» التي تضمّ إسرائيل ـ فلسطين معاً. وهو الذي أسقط أخيراً كلّ «أوراق التوت النووية»، وأهدر من ثروات الشعب الليبي المقهور مئات ملايين الدولارات على مغامراته ومؤامراته ونظرياته...
غير أنّ الشعوب العربية ينبغي أن تكون مدينة، والحقّ يُقال، لهذا «العميد» العقيد العتيد لأنه كشف من السوآت الكثير ممّا حرص إخوته أصحاب الفخامة والجلالة على إخفائه أو تمويهه أو قلبه رأساً على عقب. لا أحد منهم كان سيقول لنا: متشكرين، مش عاوزين ديمقراطية! أو ليس عندنا لوردات... هاتوا لنا لوردات؟ لا أحد كان سيتجاسر على الحنين إلى استبداد صدّام حسين هكذا: أرأيتم؟ أيّام صدّام لم يكن الزرقاوي قادراً على دخول العراق! ومَن ذاك الذي كان سيعلن على رؤوس الأشهاد: «ليس هناك أمريكي أو هندي أو أوروبي فجّر طائرة، وهذه الأفعال محصورة في فلسطين والعراق»؟
أخطر تلك السوآت، وأعجبها في آن معاً، هي حكاية «تفعيل» مبادرة السلام العربية التي أُقرّت في قمّة بيروت سنة 2002، وعُرفت باسم «مبادرة الأمير عبد الله» وليّ العهد السعودي. لا نعرف، بادىء ذي بدء، ما المقصود بمفردة «تفعيل» على وجه الدقّة: نبش من باطن الأرض؟ نفض الغبار عن عاديات الزمان؟ إحياء العظام وهي رميم؟ النفخ في قربة مثقوبة؟ وفي الأساس: مَن سيفعّل مع مَن، إذا كان ما رُفض في الماضي مرفوض اليوم أيضاً في حاضر إزداد تشعباً وتعقيداً، وانحطّ فيه النظام العربي أدنى فأدنى فأدنى؟
المرء، مع ذلك، ينبغي أن يعترف ــ وأن يتذكّر جيداً ــ أنّ «مبادرة الأمير عبد الله» اتخذت في الأصل شكل مقترح تبسيطي تكشّف في سياق دردشة (غير بريئة على الأرجح) بين الأمير والصحافي الأمريكي الشهير توماس فريدمان، قبل أن ينقلب سريعاً إلى «مبادرة سلام» تهلّل لها الأمم شرقاً وغرباً. الجديد الخطير لم يكن يكمن في صدور المقترح عن المملكة العربية السعودية (بما كان يعنيه ذلك من شحنة سياسية ورمزية دالّة)، وعن الأمير عبد الله بالذات، وليّ العهد والحاكم الفعلي والرجل الذي عُرف عنه التشدّد في القضية الفلسطينية ومسألة القدس (الأمر الذي كان لا يستبعد غياب الإجماع حول المقترح في صفوف الأمراء السديريين، أو عدم اتضاح أيّ نوع من التوافق بين آل سعود والمشايخ الوهابيين، في أمر يمسّ ثوابت المملكة وجوهر موقعها السياسي والديني في المحيط العربي والعالم الإسلامي).
الجديد الخطير كان يكمن في تلك المقايضة الجديدة: الأرض مقابل التطبيع، والتطبيع الشامل كما لاح آنذاك (وكما توجّب أن نفهم من كلام فريدمان، وليس من التعليقات السعودية)، من النوع الذي تريده الدولة العبرية، وكانت وما زالت تسعى إليه. التطبيع الذي يُدخلها في عقد الشرق الأوسط كدولة مشاركة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وكعامل «منشّط» و«محرّض» وضامن لولادة «الشرق الأوسط الجديد». هذا ما حلم به الصهاينة الأوائل، وهذا ــ وليس «السلام» التعاقدي، أيّاً كان محتواه ومفرداته ــ هو ما يسعى إليه الصهيوني ـ السياسي، والصهيوني ـ العسكري، والصهيوني ـ رجل الأعمال، والصهيوني ـ المبشّر الثقافي.
والحال أنّ قرارات الأمم المتحدة، و242 بصفة خاصة، لا تشترط كلّ هذا «الغرام» بين الدولة العبرية والدول العربية مقابل الإنسحاب من الأراضي العربية المحتلة عام 1967. كذلك فإنّ مبدأ «الأرض مقابل السلام»، الذي استند إليه مؤتمر مدريد وبات حجر الأساس في إطلاق «العملية السلمية» العربية ـ الإسرائيلية، لا يقول بما يقول به اليوم الأمير عبد الله بن عبد العزيز: التطبيع التامّ بين الدولة العبرية والدول العربية كافّة. وفي هذا تكون «الأفكار» السعودية قد ذهبت أبعد ممّا ذهبت إليه مبادرات وجهود ومؤتمرات أخرى حول السلام في الشرق الأوسط، من مبادرة الملك فهد في العام 1981 (التي عُرفت بعدئذ باسم «خطة فهد») إلى مفاوضات كامب دافيد بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، مروراً بمؤتمر مدريد دون سواه.
في المقابل، إذْ أنّ التانغو يحتاج إلى راقصَين اثنين، لم يكن يلوح البتة أنّ شارون كان، ساعة طرح المبادرة مثل حاله اليوم أيضاً، مستعداً للإنسحاب إلى حدود 1967 (بما في ذلك القدس، والجولان، و.. مزارع شبعا!) مقابل أيّ طراز من الغرام العربي ـ الإسرائيلي. خصوصاً إذا انحصر هذا الغرام في حكاية «التطبيع التامّ» وحدها، وخصوصاً إذا كانت هذه الحكاية سوف تكرّر التجربة الإسرائيلية المريرة في التطبيع مع مصر والأردن: تطبيع مع الأنظمة الحاكمة، وعزلة تامّة عن الشعوب، بل حرج دائم مع الأنظمة ومقت دائم من الشعوب. الرقصة ما كان لها أن تتمّ، إذاً، إلا على صعيد نظري، لفظي، كلامي، مسرحي. وعرب قمّة بيروت كانوا طرف الرقصة الوحيد، وأمّا شارون فإنّ جثته كانت تظلّ أثقل من أن ترقص التانغو، ولعلّ أقصى ما كانت الدولة العبرية تقترحه للشراكة مع قمّة بيروت هو عزف الأنغام العتيقة على الطنبور العتيق ذاته...
ما الذي كانت الرياض تريده، إذاً؟ وما الذي أراده الأمير عبد الله بالذات، استطراداً؟ لماذا، إذا صدّقنا رواية فريدمان كما نقلها عنه ناحوم برنياع في «يديعوت أحرونوت» آنذاك، كان مكتب الأمير عبد الله متلهفاً على نشر مقال فريدمان الذي ينقل أخبار المبادرة إلى العالم، أكثر بكثير من لهفة الصحافي الأمريكي نفسه؟
كان ثمة مفاتيح عديدة للإجابة على هذه الأسئلة، لعلّ أوّلها تلك الريبة الغريزية التي تقود إلى القول بأنّ مبادرة الأمير عبد الله كانت موجهة إلى البيت الأبيض أكثر ممّا هي موجهة إلى أرييل شارون، وأنّ حاجة المملكة العربية السعودية إلى ترميم علاقتها مع الإدارة الأمريكية وتحسين صورتها أمام الرأي العام الأمريكي، كانت أشدّ إلحاحاً من رغبة الأمير عبد الله في إطلاق مبادرة سلام لا يمكن أن تحظى بشعبية داخلية، في أوساط مشايخ الوهابية بصفة خاصة. ولا ريب في أنّ تدهور العلاقات الأمريكية ـ السعودية تحوّل إلى ورقة ضاغطة في التوازنات الداخلية التي تحكم علاقات الأمراء السديريين بالأمير عبد الله وليّ العهد والحاكم الفعلي، وبات حُسن إدارة هذه الورقة معياراً لآفاق انتقال سلس للخلافة من الملك فهد إلى وليّ العهد.
وكان في وسع الأمير عبد الله أن يطلق مبادرته في سياق آخر، أكثر «رسمية» إذا جاز القول. ولكنّ اختيار الوسيط الإعلامي، والصحافي فريدمان بالذات، كان مؤشراً واضحاً على طابع الهجوم الإعلامي المضادّ الذي تنطوي عليه المبادرة، لجهة درء التدهور في العلاقات السعودية ـ الأمريكية بصفة خاصة. وينبغي الإعتراف بذكاء اختيار فريدمان لنقل الأفكار السعودية، خصوصاً وأنه سوّد الكثير من الصفحات في هجاء المملكة منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001.
مفتاح آخر كان يفيد أنّ الأفكار السعودية كانت تقدّم للإدارة الأمريكية طوق نجاة من نوع ما، يساعد الصقور مثل الحمائم على السباحة الآمنة في بحر ظلمات الشرق الأوسط، ريثما يحين استحقاق فتح الملفّ العراقي عسكرياً، وعندها يكون لكلّ حادث حديث. في عبارة أخرى، كانت الولايات المتحدة تحتاج إلى نوع من مضيعة الوقت في المنطقة، وليس أفضل من إلهاء الجميع بهذه المبادرة السعودية الجديدة، وصرف الوقت الضائع في امتداحها، والتشاور حولها، وتطويرها إلى سحابة دخان تغطي الزيارة الشاملة التي كان نائب الرئيس الأمريكي ديك شيني ينوي القيام بها إلى المنطقة... على خلفية تغيير النظام في العراق بالقوّة العسكرية، وليس على خلفية تحقيق السلام بالقوّة الدبلوماسية!
الدنيا تغيّرت كثيراً منذ العام 2002، ولا ندري حقاً كيف يمكن اليوم تفعيل مبادرة بدأت حبراً على ورق ومناورة خادعة ولعباً مقصوداً في الوقت الضائع؟ وكيف سنفعّل مبادرة... غاب صاحبها نفسه عن قمّة الجزائر، وكأنه يقول: لا تفعيل ولا مَن يحزنون؟ والآن، حين يتضح أنّ الكلام الوحيد ذا المعنى في القمّة كان خطبة رئيس الوزراء الإسباني خوسيه لويس ثاباتيرو؛ وبعد ردّ الفعل الأمريكي الرسمي (الذي اعتبر القمّة «فرصة ضائعة»)، والإسرائيلي (الذي كاد أن يقتبس القذافي فيقول: متشكرين... مش عاوزين!)؛ هل سيتبقى أمام أصحاب الجلالة والفخامة ما يفعّلونه حقاً سوى... تأمّل نظريات عميدهم العقيد الأخضر، واستظهار أقواله وحِكَمه وأمثاله؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل يستطيع بايدن ان يجذب الناخبين مرة اخرى؟


.. القصف الإسرائيلي يدمر بلدة كفر حمام جنوبي لبنان




.. إيران.. المرشح المحافظ سعيد جليلي يتقدم على منافسيه بعد فرز


.. بعد أدائه -الضغيف-.. مطالبات داخل الحزب الديمقراطي بانسحاب ب




.. إسرائيل تعاقب السلطة الفلسطينية وتوسع استيطانها في الضفة الغ