الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نوري السعيد و صالح جبر يعودان إلى بغداد

وصفي أحمد

2013 / 1 / 25
الثورات والانتفاضات الجماهيرية



و كانت بغداد مازالت في حالة هياج عندما عاد نوري و جبر إلى بغداد . و لم يكونا قد فقدا الأمل في إنقاذ المعاهدة . و كان نوري يرى أن ليس هناك غير طريقة واحدة لمواجهة الحشود المتظاهرة , و هي سحقهم . و كان يرى أن لابد من استعادة ( هيبة الحكومة ) مهما كان الثمن . بينما كان جبر – من ناحيته – يعتقد أن بإمكانه السيطرة على الوضع . و سمح الوصي لنفسه بالاقتناع فغير موقفه ثانية , و نتيجة لذلك , أذاع جبر بيانا بواسطة الإذاعة في الساعة العاشرة و الربع ليلا دعا فيه إلى الهدوء , و أكد أنه سيقدم قريبا و أكد أنه سيقدم قريبا للأمة تفسيرا لبنود المعاهدة , و عندها يمكنها أن تقول كلمتها النهائية فيها . و عمل البيان كإشارة متفق عليها , فنزلت الجماهير الفاعلة فورا إلى الشوارع , و سرعان ما تعالت صيحات الإدانة في الهواء تصم الآذان . و لم يمض وقت طويل حتى سمع في حوالي منتصف الليل دوت المدافع الرشاشة .
و بدت بغداد في الصباح أشبه بميدان معركة منها بالمدينة . و كان هناك أكثر من شعور مسبق غامض بأن أمورا حاسمة ستحصل للتو , إذ كان الحكام و المحكومون قد استكملوا استعداداتهم .
و كان أول الأحداث في يوم الأوج ذلك إصدار اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي بيانا بدا بإنكار (( الاتهامات المنحازة )) التي كانت الحكومة تنشرها على نطاق واسع خلال اضطرابها المتخوف . و جاء في البيان أنه (( لا يوجد خطر حرب أهلية أو أو أية ثورة مشابهة . .... و الخطر الحقيقي يكمن في التدخل الأجنبي في شؤون بلدنا )) .
و تابع البيان مؤكدا أن (( عملاء الاستخبارات و المستعمرين المأجورين )) كانوا يندسون في المظاهرات و يطلقون (( صيحات متطرفة وغبية )) ليوفروا للحكومة ضد الشعب . و انتهى البيان إلى دعوة المواطنين لمتابعة النضال يدا بيد حتى معاهدة بورتسموث و إسقاط وزارة صالح جبر و تشكيل (( حكومة وطنية ديمقراطية )) .
و بينما كان البيان يوزع , تدفقت حشود كثيفة من الطلبة و العمال الشباب الملوحين بالعصي آتية من أنحاء مختلفة من الرصافة – شرق بغداد – هدفهم المباشر هو العبور إلى الكرخ وضم القوى إلى طلاب الضفة اليمنى وعمال السكك الحديدية من السكلجية , الذين كانوا يتحركون في الوقت نفسه باتجاه ساحة السويدي عند المدخل الغربي للجسر . و كانت قوات الشرطة قد دخلت ميدان العمل أيضا , فاحتلت بسرعة النقاط الرئيسية من الشوارع و سطوح المنازل و الخانات و مئذنة جامع المرادية . و كانت لدى الشرطة تعليمات مشددة بضرورة إعادة المظاهرات و تشتيتها , و إطلاق النار بهدف القتل إن لزم الأمر .
ووقع الاشتباك الأول في الرصافة بالقرب من المستشفى الملكي , و أطلقت النار على الحشود التي كانت تضم شيوعيين , و إن لم تكن هي في حمايتهم فعلا . و فقد المتظاهرون أربعة قتلى , و لكنهم أضرموا النار في عربة مدرعة و أجبروا رجال الشرطة على الانسحاب إلى شارع غازي ( الكفاح حاليا ) , و منه إلى شارع الرشيد , أهم شوارع بغداد , و مع تزايد ضغط الجماهير كانت مجموعات أخرى تنظم إليهم , و على العموم , فعندما وصلوا إلى شارع الأمين , على بعد حوالي أربعمائة متر من النهاية الشرقية لجسر المأمون ( الشهداء ) , ووجهوا بتعزيزات قوية من رجال الشرطة نجحت , لوهلة , في تثبيتهم في أماكنهم .
و في الوقت نفسه , و على الجانب الآخر من النهر , أجبرت بعض حشود الكرخ , اليائسة من الحياة , قوة شرطة مسلحة على الابتعاد بعد أن كانت تسد الطريق أمامها , و اندفعت عبر الجسر الذي يبلغ عرضه خمسين قدما ( 15 مترا ) بنية التوحد مع الرفاق في الرصافة . و لكن ما أن وصلت صفوفهم الأمامية بالكاد إلى الضفة الغربية حتى فوجئت بنيران لا رحمة فيها أطلقت عليهم بلا رحمة من فصيل عربات مدرعة , و قتل العديد من الثوار على الفور , أو جرحوا , وعاد الآخرون أدراجهم محاولين الاستيلاء على الضفة المقابلة , و لكنهم ووجهوا بنيران الرشاشات تصليهم من سطح خان في ساحة السويدي ( الشهداء حاليا ) . و كان نزف الجماهير مريعا , و تناثرت الجثث في كل مكان . و كان بعضهم معلقا على سور الجسر , وسقط بعضهم الآخر في النهر تحت الجسر و جرفه التيار .
و كان ما زال لمزيد من الدم أن يتدفق , و لم تعد السيطرة ممكنة على المتظاهرين الذين أوقفوا في ساحة الأمين , و تراجعت الشرطة التي احتوتهم و انسحبت عدوا باتجاه الجسر . و كان بانتظارهم هناك الفصيل الذي تعامل مع حشود الكرخ ودمرها , بعرباته المدرعة و رشاشاته . و تقدم المتظاهرون الذين بدوا مصرين على عبور الجسر بالرغم من الخسائر , و تردد الشرطة لحظة إذ فقدوا ثقتهم بالنفس . و لكن , بعد دقائق انهمر سيل من طلقات الرصاص , و لم يتمكن أحد من عبور الجسر سالما إلا فتاة في الخامسة عشرة من عمرها تدعى عدوية الفلكي , و كانت تحمل راية و تتقدم الصفوف . أما رفاقها الأربعة الذين كانوا إلى جانبها , و آخرون وراءهم , فقد سقطوا , و توقف إطلاق النار , و لم يعد الجسر إلا صدى تمتمات الألم و صرخات الحزن .
و إذ جزعت الشرطة على ما يبدوا من حجم الخسائر في الأرواح , و لاحظت أن الحشود لم تتفرق , بل راحت تتجمع في الجانبين لتعيد تشكيل صفوفها بعد أن صحت من ذهولها , فإنها انسبحت كليا من مسرح الأحداث .
و لا يمكن تحديد الذين سقطوا ذلك اليوم , و قد دفنت جثث كثيرة من دون تسجيل أسماء أصحابها , و ألقي بعضها الآخر في دجلة . و يقدر إجمالي عدد القتلى و الجرحى ذلك اليوم بما يتراوح بين ثلثمائة و أربعمائة .
و كانت النتيجة معروفة , ففي ساعة متأخرة من مساء ذلك اليوم فر صالح جبر ناجيا بحياته , إلى الفرات أولا, ثم إلى بريطانيا في النهاية . و كلف الوصي محمد الصدر وهو سيد شيعي ورجل دين و من زعماء ثورة العشرين , بتشكيل الوزارة .
بعد أشهر , كانت وزارة الداخلية تبحث عن يد خارجية غريبة في الأحداث الموصوفة أعلاه . و كتبت الوزارة في كانون الأول ( ديسمبر ) 1948 إلى المديرية العامة للشرطة تقول :
(( وصلتنا معلومات تنبيء بأنه كان للمفوضتين السعودية و الروسية دور في بدء المظاهرات )) . فهل يمكن إلقاء أي ضوء على هذا الأمر ؟ وردّت المديرية تقول : (( كانت المفوضية السعودية على اتصال مع بعض أعضاء حزب الاستقلال خلال أيام (( الوثبة )) و تقول الإشاعات إنها أمدتهم بالمال و أسلحة خفيفة و حرضتهم على التظاهر )) . أما في ما يتعلق بالروس فلم تخرج المديرية إلا بأنه أفيد عن أن كريكور بدروسيان , سكرتير الفرع الأرمني و عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي , قد زار المفوضية .
و في الرسالة نفسها لاحظت وزارة الداخلية أنه في (( أيام كانون الثاني )) كانت هنالك شاحنات عديدة تنقل النساء و الطلاب و العمال إلى مسرح التظاهرات آتية من الضواحي , بل ومن المحافظات أيضا . و تساءلت الوزارة : (( من زودهم بهذه الشاحنات ..... و من أمن لهم طعامهم في وقت كان يصعب على غير المقيمين أن يجدوا الطعام , و خصوصا الخبز في بغداد ؟ )) . وردت المديرية بأن التحرك من المحافظات باتجاه العاصمة نظمه الحزب الشيوعي و استخدم القادمون من الجنوب القطارات و انتقلوا عند المحطة إلى الشاحنات . و تحمل مسؤولو الحزب في المحافظات نفقات السفر و قادوا (( الوفود )) , وعندما كانوا يحتاجون كانوا يعودون إلى هادي عبد الرضا , رجل ارتباط مركز الحزب الشيوعي . و أضافت المديرية أن النفقات كانت تؤمن (( من تبرعات كانت تصل أحيانا إلى خمسمائة دينار شهريا و تجمع من التجار اليهود بواسطة اليهود الشيوعيين إبراهيم شاؤول و مير يعقوب كوهين و صهيون البزاز )) .
المعلومات التاريخية مستقاة من المصدر نفسه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات التشريعية الفرنسية.. -ليلة تاريخية- لمناصري حزب ا


.. صور من تجمع لحشود ضد اليمين المتطرف في ساحة الجمهورية بباريس




.. لماذا تصدر حزب التجمع الوطني نتائج الدورة الأولى من الانتخاب


.. ماذا بعد أن تصدر اليمين المتطرف نتائج الانتخابات المبكرة في




.. -نتيجة تاريخية-.. اليمين المتطرف يتصدر الجولة الأولى من الان