الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : فسفور الرغبات

بديع الالوسي

2013 / 1 / 25
الادب والفن


قبل ثلاث عشرة سنة كانت ( ارجوان ) تقف أمام المخبز ، هي وطفلتها ذات الأربع سنوات والتي بدت وكأنها استيقظت من النوم توا ً . يومها لا يعرف أية قوة قدرية جعلته أن يكون هناك في تلك اللحظة ، ما أن رآها  حتى توقف مصغيا إلى الملاك الحارس الذي قال له : انتبه .
اللقاء المفاجئ أحدث أثرا ً لا ينسى في نفسه ، كلما تذكره شعر وكأنه حدث الآن ، وقوفهما لدقائق بانتظار الخبز الحار سمح لها أن تسأله :
ـ ما اسمك ؟ وأين تسكن ؟
أدرك بعد سنة أنها كانت تبحث عنه كي تقتله ويقتلها في الحب . أما هو فقد كان يكرر طيلة تلك السنين وإلى حد الآن : لماذا أنا بالذات ؟.
أحس أمام المخبز أن قسمات وجهها وديعة ومباغته ، ملامح خاصة وبلا مكياج ، بشعر غزير منفوش مصبوغ بالحناء .
وردّ  على سؤالها :
ـ اسمي الملاك نور .
زاغت عيناه بفسفور النشوة ، حاول أن يتظاهر بعدم المبالاة ، في ذلك المكان تحديدا ً هبط الملاك الشيطاني ، الذي سيرتب له مواعيد سرية ستزيده نضوجا ً وستوقظ الروح بقصائده .
 بعد أن ودعها غسل وجهه بماء الينبوع البارد . لحظتها لا يعرف لماذا تذكر محاولته الأولى لإيقاظ اللذة السرية، حينها تمخضت الغرائز عن قطرات دم لزجة وألم غامض .
كان مبتهجا ً لأنها قالت له مندهشة :
ـ ماذا ؟ ولكن أين أجنحتك ؟
قال لها ما يدور بذهنه ، كحقيقة لا غبار عليها :
ـ ليس لكل الملائكة أجنحة .
بعد أربع سنوات من سيلان قطرات اللذة ، بدأت تشغله أسئلة كادت تعصف او تودي بعقله ، بعد ذلك بسنين كثيرة عرف أن ليس لكل سؤال جواب . وأصبحت الأسئلة تختصر في سؤال واحد : كيف لي ان أتجنب هذا الطيش أو الجوع الموحش ؟
ما أن التقى بها حتى بدأ يستوعب أن الحياة ما هي إلا لذة وغضب .
ومرت أعوام عمره الأربعون كسراب مخادع ، وها هو الآن يشعر باليأس والملل كلما فكر بالأعوام الثلاثين التي قضاها وهو يبحث عن حقائق صغيرة ، هذا الأمر يثير سخطه ، لأن الحظ لم يحمل له حلا ً شافيا ًلذلك السؤال الذي يشبه النداء: هل أنا ملاك حقا ً ؟.
الغريب ، إنه كان البارحة متوترا ًومتقدا ً ، لكنه اليوم يشعر أن كل شيء اعتلى ناصية الهدوء والسلام . لأن القصيدة قد اكتملت ، وربما لأن إرجوان ستأتي مثل بارقة أمل سماوية ، لتذكره أن الحب قوي كالموت .
بعد ثلاثة أسابيع من لقاء المخبز ، وقبل الظهر بقليل ، صارت رؤيتها مصدراً مهما ً وملهما ً لسعادته ، كان يخشى أن تكتشف نظراته الفسفورية المتلهفة بتطفل وهوس .
في ذلك النهار الحزيراني ، أتت الى بيته وكانت أكثر جمالا ً بشعرها المقصوص بعناية ، خفق قلبه حين لامست شفتاه ببراءة خديها ، كان صوتها يلامس حواسه ، وما كادت أن تنهي كأس الشاي حتى قال لها :
ـ أحب أن اقرأ  لك ومضة شعرية ، إذا لم تعجبك سأرمي بها في سلة المهملات .
حين عاد بتلك الورقة الملونة ، لا يدري أي  فضول قادها إلى ديوانه الشعري ، نعم ، إنها كانت تدندن بقصيدة (غيمة الخزامى ) . أعطاها الورقة لكي تقرأها بصوتها . وهو يسترق النظر إلى زندها العاري ، أثير وتوهج الفسفور في قلبه ، اقترب منها ، تظاهر بقراءة الومضة ، وما ان لامس زندها الطري حتى غمرته نشوة لم يألفها من قبل ، أدرك أن الوقت مؤات ٍ ، وكاد أن يقول لها : ما أن أراك حتى يخفق قلبي حد الاختناق .
حين أعادت له الورقة تبددت مخاوفه ، وضغط على أطراف أصابعها عن قصد، حينها أحس بكهرباء الحب تسري في  عروقه وتمزقه إربا ً إربا ً .
بدت ارجوان هادئة ، لكنه أحس بهالات الفرح حول عينيها ، واكتفت بعبارة : أعجبتني ، ولكن ماذا تعني بكلمة (تماهي ) ؟
في الواقع ، كل ما يحدث للملاك نور عسير ، فهو لا يعرف كيف يقاومه ، لكنه وجد نفسه وجها ً لوجه أمام منطق القصيدة ، الذي أومأ له ان التمادي يجهض الأمنيات ، هنا قال في خلده : رُب َ حماقة صغيرة كفيلة بتدمير كل شيء .
انتابته الدهشة وهو يراها أكثر مرحا ً ، وقالت بخفة وهي تبتسم :
ـ حان الوقت ، يجب أن أنصرف .
صار قلبه ينبض ، وبدلا ًمن أن يودعها بقبلة بريئة على خدها ، لا يعرف أية قوة غاشمة حفزت انفه كي ينزلق ويطبع تحت شحمة أذنها أول قبلة فسفورية .
أجل ، إن تلك اللحظة كانت مزيجا ً من الفرح والرهبة ، لكنه سمع صوتها الذي تملكته الحيرة ، عندئذ  داهمها النشاط ونطقت اسمه بغنج ودلال :
ــ  ملا .. ك ، نو ... ر
وكأنها أرادت أن تقول له : هل تعي خطورة ما تفعل .
حين ذهبت ارجوان ، شرب قليلا ً من الويسكي كي ينسى أو يشفى من ذلك الاضطراب ، متوقعا ً انه سوف لا يراها أبدا ً .
 
وفعلا ً لم يرها ، وكاد أن ينساها ، لكن  بعد ثلاثة أشهر رن الهاتف ، كان صوتها كأجراس عذبة :
ـ هل أستطيع أن أتي لأشرب قهوتك التركية بالهيل ؟
وبعد خمس عشرة دقيقة أتت ، كانت تخفي وراء ظهرها باقة ورود حمراء .
وبينما هو يضع الورد في الزهرية ، ً قفز  الى ذهنه فجأة السؤال التالي : ماذا يعني أن تأتي بورود حمراء ؟
وهو يعد القهوة ظل قلبه يرتجف ، نعم ، أنه فتن بتلك الإرجوانه ، غير مبال ٍ إذا ما ستقوده إلى فردوس الله أم إلى جحيمه . تأمل ثوبها الكستنائي البهيج وبشرتها البرونزية . سمع صوتا داخليا ينبهه : أيها المغفل ، هذه الورود  لك ، لك أنت .
حدق برموشها التي كحلت بالأخضر الرومانسي ، وجد أن نظرات عينيها العسليتين ظلت تتهربان منه ، لكنه ما أن لاحظ على شفتيها ابتسامة غنج حتى أشرق وجهه بالغبطة .
حينها بادر وسألها : الورد الأحمر للذكرى أم للنسيان ؟
لحظتها تحولت ابتسامتها إلى ضحكة مكبوتة لتقول :
ـ لا هذا ولا ذاك .
ـ إذن ماذا ؟
ـ وجود الورد في البيت يعني إننا نحب الجمال .
كانت إرجوان تتذوق القهوة وكأنها تكتشفها للمرة الأولى .  وجوده غمرها بنور دافئ ، وظنت أن لقاءها به يعزز قناعتها أنه ملاك بلا أقنعة . هذه الخواطر أضاءت قلبها ، ولكسب مزيد من الوقت معه ، قررت أن تسمع منه آخر قصيدة  كتبها ، عسى أن تجد أثرا ً لظلالها .
حيث استرسلت قائلة ً: هيا ، إجلس واقرأ  لي أخر ما كتبت ؟
حينها لم يتردد وسألها هو أيضا ً:
ـ ياه ، هل حقا تهمك قصائدي ؟
أخذه الحماس وهو يقرأ . اما هي فقد ابتسمت وصار وجهها أكثر هدوءا ً، وكأنها أصيبت بعدوى كلماته التي تمجد الحب والطبيعة في نفس الوقت ، اقتربت منه لتتابع معه الكلمات ، لامس عطرها المثير رغبته المكبوتة ، كانت يداه ترتجفان وصوته يرتل باضطراب ، وبحركة طفولية وضعت رأسها على كتفه و سألته بفرح :
ـ هل ستقرأ هذه القصيدة في المهرجان القادم ؟
عندها طوق خصرها بخفة ، تمتمت بهدوء وهي تهز رأسها : لا .. لا .. لا .
انسحبت قليلا ًوهي تنظر إلى عينيه ، أرادت بهذه النظرة أن تقول له أو هكذا ترآى له : إذا كنت ملاكاً حقا ً فلا تلعب بعواطفي .
وقبل أن تنصرف ، أمسكت بود بكلتا يديه ، دون أن تتفوه بكلمة ، رمقته بنظرة هي ما بين الرغبة والغضب والابتسامة والحزن .
أراد أن يقول لها : إني مهما فعلت سأظل ملاكا ً بروح بريئة .
 
غابت إرجوان عن أنظاره ، ومكث طويلا ً، عندها لاحظ أن لديه وقتا ً كافا ً  كي يكتشف كيف تخبو غرائزه المضطربة ، وكيف تعود إلى نبعها الرائق .
نعم ، عطرها لم يبرح المكان ، ومن ورودها خطف ثلاث تويجات ولصقها في دفتر مذكراته وكتب تحتها عبارة واحدة : نعم تأججت روحي بالملذات حد التوهج .
لم يرتعش قلبه لامرأة على هذا النحو ، صارت لا تضاهيها أية امرأة ،.
حتى منتصف الليل ، ظل يقظا ً وهو يتخيل شفتيها المكتنزتين وهي تعانق الفنجان ، لكن ومع جيشان مشاعره المبهجة ، أحس بضيق يصعب فهمه ، هذا الوجل شغله وتلعثمت كلماته وهو يقول : بين يديك ملاك يحلم بالفكرة البيضاء ، ماذا تريدين أكثر من ذلك أيتها الزنبقة السمراء .
وظل بعدها لثلاث ليال ٍ غير مرتاح البال ، وصار الأرق صديقه المزعج ، لكن القصيدة لم تولد ، أستحضر روحها المشاكسة متذكرا ً عطرها الفسفوري ، عندئذ غمره نعيم سعادتها ، لكنه بعد دقائق شعر ببالغ الخجل ، لأنه لم يتمكن من أن يجيب على ذلك السؤال : كيف يمكن أن أكون بروح ملاك وشيطان في آن واحد ؟
 
بعد خمسة أيام كانا معا ً في الغابة ، تعرف أرجوان جيدا إن العاطفة تحتاج إلى مهلة من الوقت كي تنضج ، كان أول سؤال سألته :
ـ هل نمت جيدا ً  أيها الملاك ؟
وحين توغلا في عتمة الأشجار ، بدا له أن عطرها زاد من اشتعال الفسفور في قلبه ، ولم ينس ما عزم عليه ، في أن يكون حاضرا ًكملاك نبيل ولو لمرة واحدة . كان بإمكانه فعل أي شيء في تلك الغابة الموحشة ، كل شيء بما في ذلك قتلها ، لكنه اكتفى وسألها ببرود حينما انحدرا إلى ذلك الجدول الصغير الذي يشق الوادي نصفين :
  ـ كيف مات زوجك ؟
ـ لا تذكرني بذلك ، لأني لم أحبه .
ـ لا تحبينه ! ؟
ـ أنه لم يمت ، لكنه فجأة ً سافر .
ـ سيأتي في يوم ما .
ـ لقد تغير كل شيء ، لأننا تطلقنا منذ سنتين .
حاولت أن تمسك يداه ، كأنها تبحث عن أمان ما يبدد وحشة الغابة أو العالم . لكنه سحب يديه مخافة أن يخسر الرهان ، كان يبغي أن تساعده كي يبقى ملاكا ً، رغم هياجه في هذه اللحظة لكنه قمع حواسه التي كانت بأمس الحاجة لأنوثتها ، فباغتها بذلك السؤال :
ـ إذا كنت بين نارين ، فإلى أيهما تذهبين ؟ .
ألتزمت الصمت لخطوات ، وبهدوء قالت :
ـ أنسحب إلى الجهة التي أرى فيها انسجامي .
حاولت من جديد لمس يده ، كان مفعول يدها أشبه بصعقات كهربائية خفيفة ، تثير عواطفه وتؤجج حماسه ، لكنه كان عنيدا ًوفيا ً إلى روح الملاك ليثبت لنفسه ولها أنه اقوي وأصلب وأكثر نبلا ً.
قالت له : هل أنت ملاك حقا يا ملاكي .
ـ ربما
ـ ولماذا ، والى متى التردد ؟
ـ أريد أن أحافظ عليك كجرس بريء لكل قصائدي .
بدت وكأنها ترى رجلا ً غريب الأطوار ، يحمل في قلبه الجفاء والشوق في آن واحد ، لكن أسوء ما في الأمر هو إنها لم تعد تعرف كيف تحظى باهتمامه .
وظلت الحال هكذا ، مع أي انتصار يتذكر ملاك نور ذلك المارد الداخلي . نظر اليها بوجه مضطرب . سألها بصوت محايد :
ـ هل سمعت  يوما ً بفسفور الرغبات ؟.
غير إنها لم تفهم أو لم تلتقط العبارة جيدا ً:
ـ فسفور ، ماذا ؟
ــ فسفور الرغبات
وعاود مبتسما وكأنه وصل إلى الهدف :
ـ هو ما يحرق روحي ويشتت مخيلتي .
هي تعرف أن دماءه تغلي بتلك الحمى المنهكة . في الوقت نفسه بدأت تحس أنها مهما راوغت لا يمكنها الفكاك منه . افترقا وهما يتبادلان النظرات بنشوة ، بدا الأمر واضحا للملاك نور وفال في خلده : لقد أصابتني بسحرها اللذيذ .
 
ستة شهور مضت  ولم تأت لزيارته إلا نادرا ً ، في ذلك النهار كان بأمس الحاجة لرؤيتها ، لكنه ظل مترددا ً بين أن يمهلها أو يذهب للقائها . حاول أن يهدأ ، بعد أن أطلق عدة حسرات قال :
ـ ستتبعني حتى لو كنت ملاكا ً بقرون ذهبية .
قرر أخيرا ً أن يهاتفها ، كان صوته مبحوحا ً ويداه مضطربتين .
قالت وهي تخفض صوت المذياع :
 ـ الو ، نعم .
كان صوتها ، فقط صوتها العذب يدفع به إلى الهاوية . كالمجنون أراد أن يمتص آخر قطرة دم أو حب . نعم ، كان  يبغي أن يرتوي ولو مرّة واحدة .
ـ هذا أنا .
ـ عرفت صوتك رغم إنك تتصل للمرة الأولى .
ـ هل أستطيع أن أراك اليوم .
ـ إذا رغبت .... صمتت وضحكت ثم أردفت :
ـ نعم ، تعال الآن وإلا فلا .
كم كانت هذه ال ( نعم ) رقيقة وعذبه ، وأثارت في نفسه نشوة لا يمكن تجاهلها ، حلق ذقنه ووضع قليل من العطر الإيطالي ، هيأ نفسه كعريس للذة لا تتكرر .
كان نهارا ً مدهشا ً ، وقبل ان يصل بيتها كان يردد:
ـ اللعنة عليك أيها الملاك الحارس، دعني وشأني الآن .
حث الخطى ، وهو ينظر إلى كل الاتجاهات وقبل أن ينحرف إلى بيتها ، كانت الرغبات تتصارع وتحدث ضجيجا ً يصبو إلى جعل الحلم واقعا ً .
كان الملاك نور يركض أحيانا ً ، وكأنه يريد أن يتملص من الملاك الحارس ، الذي لم يكف عن مناجاته بذلك السؤال المفزع : إني مندهش ، لماذا آنت سعيد ، وآنت  تسير نحو الهاوية .َخفف وطأ أقدامه ، على  رغم من أنه صار قريبا ً جدا ً من بيتها ، صرخ وعينيه شاخصتين إلى السماء :
ـ يا إلهي ، إنها تنتظرني ، فماذا أفعل ؟
جلس على العشب ومد ساقيه ، ثم بدأ يتمتم بكلمات غير مفهومة ، لكن الملاك الحارس أدرك وهو يتأمله أن أية كلمة منه الآن ستغير مسار تلك المغامرة ، وقال للملاك نور :
ـ أستمر ، اركض إلى الجهة الأجمل .
ـ أأذهب اليها إذن ؟ ! .
وجاء الجواب هادئا ً :
ـ الأرواح النبيلة تختار خلاصها .
 
نهض وحدق بالشمس مطولا ً، كأنه عرف بالضبط ما يتوجب فعله ، وصار قلبه ينبض بذلك الخلاص ، كطائر حبيس أدرك أخيرا ً فضاء الحرية ....
 
20 /10 /2012
 
 
 
 
 
 
 
 
 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??