الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دراما استعادة الليبرالية

سامي العباس

2005 / 3 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


يشكل اغتيال الحريري إحدى الذرى الدرامية التي يمرّ بها الصراع لاستعادة المشروع الليبرالي المغيب منذ نصف قرن تحت إكراهات شرطين آنذاك:خارجي/ داخلي.
الأول: تداعيات احتلال الثنائي الأمريكي /السوفييتي مكانة الثنائي الإنكليزي / الفرنسي , في إدارة ملفات العالم الثالث (الإقتصادية وا لسياسية و الأيديولوجية ),بعيد الحرب العظمى الثانية ..وميل الثنائي الجديد الى اعتماد المؤسسة العسكرية حليفا محليا يجري التفاهم معه على إدارة المصالح.
الثاني :محلّي تمخّض عن نجاح كبار الملاك العقاريين في إيقاف توسّع علاقات الإنتاج الرأسمالية عند أبواب الريف, عبر سيطرتهم السياسية على البرلمانات, مما فتح الطريق للخيار الآخر (حلّ المشكلة بواسطة الجيش المخروق بأبناء الأعيان الريفيين والفلاحين المتوسطين) (1)
يقع تقاطع هذين الشرطين الموضوعيين في خلفية المآلات السياسية والاقتصادية لمعظم مجتمعات العالم الثالث..
في العالم العربي - وبمعزل عن مشيخات النفط حيث السياق كان مختلفا- مّرت ّمنذ ذلك الوقت وحتى الآن مياها كثيرة تحت الجسر..غابت الحدود بين السلطات الثلاث, وتوحدت تحت إمرة المؤسسة العسكرية ..ثم توحدت هذه الأخيرة تحت إمرة جنرال ما, أحسن استخدام المؤسسة الأمنية ليضبط شكيمة جيش انفتحت شهيته على السلطة.
خرجت المؤسسة الأمنية من ضلع الجيش كما خرجت حواء من ضلع آدم.ثم تفرعنت عليه كما لم تفعل حواء حتى الآن رغم كل التحريض اللذي استهلك الحيات الفكرية لنوال السعداوي..
في سياق موازي لهذا السياق , ’وزّعت الأراضي على الفلاحين ( فهّيصوا ) و أصبحوا وقود مظاهرات التأييد التي اجتاحت المدن المكفهّرة مما يجري , لنصرة هذا الجنرال أو ذاك في معركته ضد الإقطاع و البرجوازية و الصهيونية و الإمبريالية ... إلخ
انكفأت مجتمعات المدن على نفسها مغتاظة. و في مواجهة طوفان الترييف للإدارات و المؤسسات الإقتصادية , ولما تبقى من حياة سياسية , تعيش تحت الضبط و الربط العسكريين . فمن البرلمانات التي تحولت إلى مجالس للشعب في محاكاة فظة لسوفييتات العمال و الفلاحين اللينينية الشهيرة . إلى المؤسسات و شركات القطاع العام , إلى أحزمة البؤس التي أحاطت بالمدن كطوق حصار, و كاحتياط استراتيجي لقمع التململ المديني .
أضاعت المدن لهجاتها المميزة , و أساليب عيشها و علاقاتها . و فقدت القدرة على متابعة تفتّحها البرجوازي في المستويين: الأيديولوجي و السياسي. انكفأت إلى مؤسساتها الدينية بعد أن فقدت قياداتها السياسية – الإقتصادية , في معمعان التحول من الدولة الرأسمالية , إلى رأسمالية الدولة الأمنية . أصبح الجامع رئة المدينة و ناديها الفكري – السياسي و حاضنة ممانعتها الأيديولوجية. و كما هي الأمور عادةً : حيث تلّون الوسائل الأهداف , تلونت الراديكالية المدينية باللونين الرئيسيين للإسلام الأرثوذكسي : السني – الشيعي .
أعاد الجامع أو الحسينية احتلال المدينة بفضاءاتها العقلية, و إيقاع حياتها اليومية, و مزاجها في المأكل و الملبس و السماع, و طرق تزجية الوقت .
و تحت أنظار المؤسسات الأمنية راوغ الجامع, و هو يراود مجتمعات المدينة عن نفسها, وسرعان ( ما همت به و هم بها ) و لم يتدخل الرب هذه المرة. و لم تستطع الدولة الأمنية أن تفعل شيئاً لم يستطع فعله الرب.فقط .... جربت شراء هذا الداعية الإسلامي أو ذاك. و في معظم الأحيان تمت الصفقة في إطار التكاذب . الداعية يكذب على الدولة, و الدولة تظهر له أنها تصّدقه.
تحت الماء الذي تعوم على سطحه القضايا الكبرى, كان الإتجاه الحقيقي للمجرى . المجتمع يذهب إلى انقساماته العمودية, و يرقد على مخاوفه من بعضه البعض, و من السلطة القابعة على أنفاسه. و تحت الهدوء الذي يخبئ العاصفة حيث السلطة تتسلّى و تسّلي الجمهور بالقضايا الكبرى , تسلل الجمهور من المقهى إلى الجامع تشده رعشة الاستماع للحكايات التدشينية الكبرى ( 2) , تدفعه في ظهره كراهية يعيد تشكيلها المقدس حيال السلطة, بزحزحة علاقة هذه الأخيرة برعيتها , من علاقة حاكم بمحكوم,إلى علاقة مؤمن بكافر . حيث العنف المخلوط بالمقدس يصبح جهاداً في سبيل الله. في الجامع جرى الانقلاب الفكري للإسلام الأرثوذكسي عن موقفه التقليدي حيال السلطان الجائر . و من تراث تراكم في الوسط بين حدي ( المرجئة – الخوارج ) استلت الأجوبة على الأسئلة التي يطرحها مناخ الإستبداد المتماهي داخل الذاكرة الجمعية مع صورة الغرب المخزنة .
’جردت شوكة السلطان الجائر من وظيفتها الدينية ( حماية بيضة الإسلام), فوقف السلطان عارياً من ورقة توت المقدس, يتلقى الغضب المتصاعد من جمهور تتحكم فيه على نحو متصاعد جدلية الإيمان الكفر , بعد أن انهارت داخل المخيال الجمعي المهيج دينياً آخر دفاعات السلطان ( التمايز ألعقيدي عن الغرب الكافر ) لقد ساعدت علمانية السلطان المفترضة على وضعه في حلق المرمى .
و في مجرى هذا الاستحضار العارم لديانة تعبوية , حافظت الأقليات المذهبية على وظيفتها التاريخية (وظيفة الدريئة) التي’ تجرى عليها تمرينات الرماية الأولى لإتقان لعبة الجهاد في سبيل الله .

*****
لم يكن الاحتكام إلى المؤسسة العسكرية قبل نصف قرن لحل أزمة تشرنق الرأسمالية داخل المدن , إلا احتكاما للعنف , و إخراجاً للسياسة من التداول . كانت الدولة الليبرالية التي ولدت من أحشاء المرحلة الكولونيالية تشكل الحاضنة المثالية للسياسة, في مجتمعات لا تمتلك في تراثها العريق ما يمكن البناء عليه في هذا الإتجاه .
فالهامش الواسع للحرية التي أعطته الدولة الليبرالية لمواطنيها ( حقوق الاقتراع و التظاهر و التفكير و التعبير... إلخ ) كان الميدان الأصلح للتدريب على تعلم السياسة .
و لم يكن ضيق أفق الأنتلجنسيا الريفية التي دعمت خيار الانقلاب العسكري ( انظر أدبيات تلك المرحلة – زوايا غسان تويني في النهار مطلع الخمسينات – كتابات عبد الكريم زهور _ ياسين الحافظ ... إلخ ) إلا نزقاً مميزاً لسايكولوجيا المثقف الرازح تحت الإحساس بالتأخر التاريخي ( أنظر عبد الله العروي – الأيديولوجيا العربية المعاصرة )

0( الانقلاب الثوري ) كان كلمة سر الراديكالية العربية بألوانها الريفية الطاغية تلك الأيام. ( و العدالة الإجتماعية ) كانت قشرة الموز التي تزحلقت عليها الليبرالية إلى خارج اللعبة .
( الحريات السياسية ) بدت ترفا يمكن الاستغناء عنه بأقل ما يمكن من المخاوف , ذلك أن الأرتال الأولى من الراديكالية الريفية كان على رأسها هالة الأنبياء (عبد الناصر – نيكروما – موديبو كاتا ..الخ..) التي تجعل العين الناقدة للشارع السياسي تنام في العسل
لقد طويت الدساتير و أغلقت البرلمانات, و تحولت صناديق الاقتراع إلى صناديق استفتاء, لا تقبل بأقل من الدم للتوقيع على سحب هذا الحق أو ذاك من الحقوق العامة و الخاصة للمواطنين, اللّذين يتحولون بالتدريج إلى عامة مهمتها التسبيح, و نخب مهمتها التبخير.
لم يكن المرئي في تلك المرحلة سوى الجزء العائم من جبل الجليد , أما المآلات التي تشق طريقا تحت السطح فقد كانت بهذا السمت : من السياسة إلى العنف ومن السوق إلى المافيا و من الفكر إلى الكلاموجيا .

*****
على هذه الحافة تقف مجتمعاتنا : وراء ظهرها: عنف أنظمة الإستبداد, و أمامها هوة العنف الأصولي . و هي بين العنفين تجّرب السير على الصراط للوصول إلى السياسة ... السياسة التي’ دفنت قبل نصف قرن في نفس القبر الذي دفنت فيه الليبرالية, بدون أن تذرف دمعة عليها... بل و تحت زغاريد الوحدة و تحرير فلسطين و الإشتراكية .
رحم الله الحريري لقد كان دمه أول الفواتير التي سيتوالى دفعها لكي تنهض الليبرالية من بين الأموات.

هوامش:
1- حنا بطاطو –فلاحو سورية المتحدرون من الأعيان الريفيين ..
2- للتوسع في مدلول المصطلح انظر محمد أركون –الفكر الأصولي واستحالة التأصيل


سامي العباس –كاتب سوري








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خسائر الجيش الاسرائيلي في ارتفاع .. بعد الإعلان عن -هدنة تكت


.. إسرائيل وحزب الله.. الحرب الاستخباراتية| #التاسعة




.. الحرس الثوري الإيراني: نتائج الانتخابات ينبغي ألا تؤدي إلى إ


.. استطلاعات بريطانية تحذّر: حزب المحافظين يواجه انقراضًا انتخا




.. مراسل الجزيرة يرصد آخر التطورات الميدانية والعسكرية في قطاع