الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المنشار والشجرة

بدر الدين شنن

2013 / 1 / 28
الادب والفن


بعد أن اجتاز السياج المحيط بالحديقة .. وقف مرتعشاً وبيده المنشار أمام إحدى الأشجار . وكان كلما هم بالشروع لإنجاز ما صمم عليه .. يتراجع .. ويتردد .. ويخاف .. كمن يقدم على ارتكاب إثم كبير . وينظر إلى الشجرة " التي وضع عينه عليها " كما يقول الحلبيون " .. فيراها مثل الصبية الشابة .. تزهو بقامتها وبتفرعاتها التي تمتد .. وتتوجها .. وتزينها . ويتذكرها لما كانت " شتلة " صغيرة زرعها عامل من البلدية في حديقة الحي قبل عشر سنوات . ويتذكر كيف كان يراها عبر النافذة .. تكبر .. وتكبر . مثل الكائن الحي ، وسط عدد من الشجيرات . وكلما كبرت قليلاً ، كان يحدث والدته وأطفاله عنها بفرح ، لنموها ، ولزهوها المفعم بالنضرة والجمال ، وخاصة في بداية كل ربيع ، حين تستعيد كسوتها من الأوراق الخضراء ، ومن ثم تزهر أجراساً من وريقات بيضاء تتوسطها تفرعات صغيرة صفراء تنتهي بنقط حمراء . كان كنز من مشاعر الحنو والاعجاب تربطه بها أكثر مما تربطه ببقية الشجيرات الأكبر منها . وكان مرتاحاً ، لأنه يجاور الحديقة .

ولما مضى أكثر من شهر على البرد القارس ، والبيت خال من وسائل الطبخ والتدفئة ، والأطفال ووالدته لم يذوقوا ، طوال هذه المدة ، شيئاً دافئاً ، وزوجه وقعت طريحة الفراش مع ابنها الرضيع ، بدأ يفكر كيف يجب عليه أن يؤمن ما يشيع الدفء والغذاء الناضج في البيت .. ليس معه ما يكفي من المال ليشتري أي نوع من المحروقات أو الحطب ، فالأسعار أعلى بكثير من طاقته .. ولايعرف إلى متى تستمر الاشتباكات وإطلاق الرصاص في الشوارع .. ليذهب إلى صديق او قريب ، ليستدين منه مبلغاً يغطي حاجته . فكل من يتجاوز منزله بأمتار يتعرض للقتل من قناص ، أو برصاصة طائشة .

وفجأة رأى عبر النافذة أحدهم يقطع شجرة بمنشار . غضب وصرخ متألماً . لكن بعد لحظات صمت ، وراح يمسح الدموع عن خديه ، وأدار ظهره للنافذة .. حتى لايرى عملية الذبح هذه .. هكذا أجاب والدته عندما سألته لماذا يبكي .
ورغم الأسى الذي بدا على الأم .. قالت له .. أعذره .. لعله فقير مثلنا .. ولم يجد حلاً آخر .
وبعد أن صمتت العجوز قليلاً قالت له .. لماذا لاتقطع شجرة مثله وتؤمن لنا الدفء واللقمة .. ألا يؤلمك رجفان الصغار من البرد ومن الحرمان .. هيا خذ المنشار .
نظر إلى والدته مندهشاً وقال .. أنا أذهب .. أنا أقطع .. أنا أقتل شجرة ..
الناس تقتل بعضها .. ألا ترى الجثث في الشوارع .. أجابته والدته .
رد متشنجاً .. ما تقولينه أمر آخر . أنا عندي قطع شجرة مثل قطع روح .. أنا لست جلاداً .. ولا طالب ثأر يعميه الحقد . أنا رعيت أشجار الحديقة بعيوني .. وروحي .. أعرفها شجرة .. شجرة .

وبحركة آلية .. وهو يتصور حرمانات أسرته التي لاتطاق .. وضع المنشار على أسفل جذع الشجرة ، وأخذ يحركه ذهاباً وإياباً ، ومع حركة المنشار ، كان قلبه يعتصراً ألماً ، وعيناه تدمع دماً . وقبل أن يسقط المنشار الشجرة ، صرخ رجل يقوم بقطع شجرة أخرى .. صرخ بصوت عال .. تعالوا شوفوا .. هنا شخص مدفون . فأجابه أحدهم كان قريباً منه .. هنا مدفون أكثر من شخص .. الله يحمينا .

وخلال حركة المنشار هنا .. والمنشار هناك .. لم يكن أحد يعرف مصدر صوت الأنين الذي يعم المكان .. هل هو صوت المنشار .. أم صوت تمزق وتقطع مكونات الحياة الخضراء .. أم هو صوت نشيج ضمير الإنسان الذي يقتل الحياة ليعيش .
ومن كان يعرف الحديقة من قبل ، بأشجارها الفارعة ، وأزهارها النضرة ، ويراها بعد أن احتطبت معظم أشجارها .. وبعد أن دفن في أحواض ورودها حصاد الاشتباكات .. يصيبه الرعب والحزن الأليم ، لأنه يرى أن معالم الحياة الخضراء في الحديقة قد اقتلعت ، وأن أزهارها قد دفنت بدمائها دون أكفان .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي


.. الفنان السعودي -حقروص- في صباح العربية




.. محمد عبيدات.. تعيين مغني الراب -ميستر آب- متحدثا لمطار الجزا


.. كيف تحول من لاعب كرة قدم إلى فنان؟.. الفنان سلطان خليفة يوضح




.. الفنان السعودي -حقروص- يتحدث عن كواليس أحدث أغانيه في صباح ا