الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المطر وشوربة العدس الخرافية

عوني الداوودي

2013 / 1 / 29
الادب والفن



المطر خير، وعلامة دالة على الإكتفاء الذاتي زراعياً، وعندما توجد المياه، توجد الحياة، كما يقال، وفي بلدان كثيرة تنتظر شعوبها الأمطار بالدعاء والابتهالات، لنزول هبة السماء عليهم برداً وسلاما، لتنعم بعدها الحيوانات والبشر بالخير الوفير.
لكن الوضع مختلف في سماء إسكندنافيا، فالسنة 12 شهراً، وفي السويد تمطر خمسة عشرة شهراً في السنة هههههه، وأن توقف المطر يبدأ الثلج، وهكذا، مطر، ومطر، وثلج، وثلج، ومطر... وكل هذا مقبول على أي حال، لكن عندما تبدأ تمطر خراء هنا الكارثة.. والخراء هنا عبارة عن أمطار بدون توقف لأيام مصحوبة بعواصف، وبرد، وظلام لمدة لا تقل عن سبعة عشرة ساعة من الأربع والعشرين. فأين المفر يا ترى .. أهذا خراء أم لا !!؟؟؟
شهر بعد شهر، وسنة تليها أخرى، والحال من سوء إلى أسوء بسبب تقلبات المناخ وما يسمى بالإحتباس الحراري، حقيقي لا أفهم معنى هذا المصطلح العجيب ... يعني شنو إحتباس حراري !!؟؟ ههههه ... المهم ... على مدى السبع والعشرين سنة المنقرضة، وهي فترة إقامتي في السويد، لم يستطع المناخ السويدي ترويضي، كسويدي مؤدب، يعرف ما له وما عليه، قنوع، يعمل ويأكل ويسكر ويلعب، ويمارس الجنس، والرياضة، وينتظر في صف طويل بعض الأحيان لمدة ساعة بدون تذمر وشكوى .... تسلح السويدي على مدى قرون من جيل إلى جيل بالحلم والصبر على مناخ قاسٍ، وكيفية التعامل معه، لا بل الإستفادة منه إلى أبعد الحدود، ومثال ذلك إبتكار أنواع الرياضات الشتوية على الجليد والثلوج، المهم لست هنا بصدد الحديث عن طبائع الإنسان السويدي .. بل بهذا الشرقي اللجوج ،العجول، العصبي، المتقلب المزاج حسب بارومتر السياسة، وكيفية التعامل مع هكذا جو متقلب المزاج هو الآخر أكثر من مزاج الشرقي .
ألتقيت بصديق يدخن قبل أعوام على باب نادي ثقافي يقيم حفلة عراقية، قلت له عجيب أمر هذا الجو، فمن موقف السيارات حيث ركنت سيارتي وهي لا تبعد أكثر من مائة متر، مطرت السماء وتوقفت، ثم شع الشمس لثوانِ، وأمطرت مرة أخرى خلال مدة لم تتجاوز الخمس دقائق، فضحك من كل قلبه، وقال صدقني بأن خلال الأربعين دقيقة الماضية توقف المطر وتساقط مرة أخرى ثماني عشرة مرة ، ضحكنا ودخلنا قاعة الحفلة علّنا نحيي ولو لسويعات ليلة من ليالي الشرق الحالمة بالدفء وحميمية العلاقات.

اليوم وعلى مدى الأربعين ساعة الماضية لم يتوقف المطر، وفي مثل هذا الجو ما أن تخرج من المنزل حتى لا تعلم من أين تأتيك الصفعات والكفخات المطرية الخرائية، وأسوء أنواعه ذلك المخلوط بالثلج " كوكتيل ــ أزبري " يعني صفعات كوكتيلية، وأسوء من هذا هوعند قيادتك السيارة في مثل هذا الجوء الخرائي، فماسحات الزجاج الأمامية والخلفية لا تتوقف للحظة، ورويداً رويداً تشعر وكأنك في معتقل يُمارس عليك نوع من أنواع التعذيب النفسي على الطريقة اليابانية أو الصينية، أذن المكوث في البيت هو أفضل الأسوأين .
توقف بث القنوات العربية والكوردية عندي بسبب تكوّن طبقات جليدية على صحن الستلايت ... مررت على الفيسبوك ... أطلعت على الأخبار من مواقع وصحف مختلفة، زوجتي ذهبت لإيصال أبنتنا الصغرى سماح ذو السبعة عشرة ربيعاً لتأخذ دور الحاضنة لأطفال أبنتنا الكبرى رنا، لأنها على موعد وزوجها للذهاب إلى السينما.
بين الحين والآخر أقوم بتقديم خدمات تناسب وضع أمي المصابة بفقدان الذاكرة ... قرأت بعض الشعر الكلاسيكي الكوردي والعربي، وسقوط الخراء لم يتوقف خارجاً، أتصلت بصديقي " حمه سانيه" المقيم في فنلندة مستفسراً عن آخر إبتكاراته في تحضير شوربة العدس ... ففي مخيلتي المطر والعدس توأمان، ربما لأنه ينقلني لأيام رمضان الشتائية في بلادنا عندما كنا صغاراً، فرائحة العدس وهو يغلي على النار يشدني بقوة للماضي البعيد الذي ذهب دون رجعة، فمهما تحاول وبشتى الأساليب، كأن ترمي نفسك من الترام، أو في عرض بحر البلطيق من باخرة ذاهبة بإتجاه المجهول، ذاك الماضي ولى ولن يعود ... وفي مثل هذا الجو حيث تنخفض المعنويات لحدودها الدنيا، يكون المطبخ ملجأي، ألوذ به، وبالوسكي، وأم كلثوم، أستحضر وصفات الطبخات المنقرضة، والحديثة ... اليوم كانت شوربة العدس هدفي لا على الطريقة المعتادة التي تعودت طبخها تقريباً مرة كل أسبوع، بل على طريقة صديقي حمه الذي في حالة إضافات دائمة لوصفاته في الطبخ، أتصلت به ... وجاءت التعليمات على طريقته المعهودة في الشرح ومط الكلام ودحرجته لتتساقط كحبات المسبحة على الارض، إلى أن يطلع روحك وروح اللي خلفوك، وهو يوصلك خلاصة الموضوع : تضيف برتقالة، بطاطة، جزر، وزنجبيل، هذا بالإضافة للكاري، والكركم، والفلفل الأسود، والبصل المحمص في الزيت، والرز المضاف إليه مسبقاً، وماجي الدجاج، وقليلاً من النومي الحامض، وبالنسبة للكركم تضيقه قبل إنتهاء الطبخة بقليل، و ووو ألخ . أيه يا عوني ... ماذا ستفعل أمام هذه الوصفة البرتقالية ؟؟
جلست أمي أمامي تنظر وتراقبني بصمت ... وضعت أمامها قليلاً من البزر " الحب " بالعراقي .. خذي أمي وكرزي، والله كريم سيأتي العدس بعد قليل ، لم تفهم ما قلت، أبتسمت لها، أجابتني بإبتسامة، أذن هي مرتاحة.
لا زال الخراء في تساقط مستمر في الخارج، وفي الداخل أم كلثوم، وويسكي، ووصفة عدس تنتظر التحقيق، وأمي منشغلة بتفليق بزر الرقي .. أتصلت ثانية بصديقي بروفيسور الطبخ مستفسراً ... حمه أضافة برتقالة للعدس إلا يعطي طعماً حلواً للعدس ويفسد الطبخة ... يأتيني الجواب عبر خط الهاتف، لا سيكون الطعم عال العال، ولا تنسى إضافة الشعرية، وأنا متأكد لو أتصل به عشرة مرات ففي كل مرة سيضيف شيئاً ما للطبخة، لذلك أكتفيت بالسؤال ... أرجع للمطبخ ... وأم كلثوم تئن تحت آهات " أقولك أيه عن الشوك يا حبيبي " وقطرات من البلور تجمعت على الغلاف الخارجي لقدح الويسكي ... والعمل قائم على قدم وساق لطبخة العدس التاريخية، وبين شرب الويسكي وألتهام ما تيسر من المازات، وصوت أم كلثوم، أنتهت الطبخة، وقد شبعت .... وضعت صحن من العدس للوالدة، ذاقت منه القليل وأكتفت، دون تعليق.
غداً صباحاً سيكون فطوري شوربة عدس خرافية .
وعند ذاك سنحكم على هذه الوصفة المحمدية.

عوني الداوودي
شتاء 2013 ـ السويد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى