الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كلام غير واقعي- في فرضية الحكومة الثورية في سوريا

خضر سلمان

2013 / 1 / 30
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


تُطرَح سيناريوهات كثيرة لصورة سقوط النظام, وشكل إدارة البلاد مباشرةً بعد السقوط, ويرجّح كثيرون –إلا في حال كانت الثورة مستعدّةً للحظة, والمعارضة السياسية متماسكةً بالحد المعقول, والتواصل والتفاعل بين السياسيين والثوار في أوجه, وهو ما يبدو بعيداً في ضوء معطيات الراهن الفقيرة- يرجّح كثيرون أن يكون السقوط غيرَ مدوٍّ, وأن تستمر معظم ملامح التمزُّق في البلاد لمدَّةٍ غير قصيرة, لتبدأ بعد ذلك النتائج الطبيعية لغياب سبب المشكلة الأول في إحداث تغيير على الوضع القائم, ومفارقة حالة المراوحة, وليبدأ السوريون في التقاط أنفاسهم, بمظاهر احتفال شبه معدومة, والكثير من لملمة الجراح واستدراك الذوات المحطمة التي فعت بها الحرب ما فعلت.
هنا, لا أحاول أكثر من تتبُّعِ سيناريو آخر من السيناريوهات الافراضية.
ماذا لو كانت الظروف مواتيةً وفاجأت الثورة السورية الجميع –وهذا لن يكون غريباً أبداً في رأيي, أولاً لأن الثورة السورية طالما فاجأت الجميع في مواقف غايةٍ في الصعوبة, وثانياً لأن الثورات حبلى بالمفاجآت, ومن طبيعتها وجوهرها الخلاق أن لا تتبع قوانين المنطق, وأن تنسف كل المعايير التقليدية في تقييم الأشياء- وقامت حكومة ثورية في سوريا؟ مع تسجيلِ أنني لا أناقش احتمالية هذا التصور, ولا إمكانيته من عدمها. فقط: ماذا سيحصل إذا قامت حكومةٌ ثورية في سوريا؟

الحكومة الثورية هي حكومة من الثوار. هي محصِّلةٌ مركَّبةٌ لإرادةِ الثورة في فرض تصوُّرها ومنطقها (غير السياسي بطبيعة الحال), ووجود لحظةٍ تاريخية ملائمة لوثبةٍ مثل هذه, يتمكن الثوار بعدها من الإمساك بزمام القرار والإدارة.
والثوار: أي الثوار, بلا مواربة. أن يقرِّر سياساتِ الدولة الاجتماعية والصحية والخدمية والاقتصادية والسياسية والأهلية والدفاعية, أبو عبدو وأبو أحمد وأبو جاسم وجزار الميغ وقناص حمص وسبع الشام وصقر حمص والساروت وخالد أبو صلاح.. إلخ. الرجال والنساء الرائعون الذين يستبسلون لإبقاء جذوة الحياة في أحيائهم ومناطقهم حيةً, بالعمل الدؤوب والروح الثورية التي لا تتعب, في المشافي الميدانية وساحات القتال ووراء الكاميرات المهتزَّة وبين العوائل المنكوبة والأطفال الجياع والأمهات الكسيرات.
أن تُدارَ بلادٌ بمنطق الجنديِّ المجهول! جنودٌ مجهولون استلموا السلطة, فلم يشعروا بأن على شيءٍ ما أن يتغيَّر, فبقوا جنوداً مجهولين. سيتلعثمون أمام الصحافة. سيكتبون بياناتٍ ركيكةَ الصَّوغ ثقيلةً بالمهم والضروري والعاجل والمفيد. سيقاومون بريق السلطة لأنهم امتلكوا وعياً غير عاديٍّ بشرورها, وحاربوا أبشع أشكالها يوماً, ويدركون تماماً كم يمكن أن يكون صاحب السلطة متسلِطاً, وكم من الصعب على من أُتيحَ له أن يستبد, أن لا يستبد, ومن ثم, وبوعيٍ من هذا النوع, سيكون هؤلاء آباء مؤسسين بمعنى الكلمة –كم يبدو هذا حلماً.. أليس كذلك؟- لدولةٍ قوية وديمقراطية. هؤلاء, أفترض أنهم في حاجةٍ إلى الديمقراطية لأنفسهم أولاً, لأنهم تعلموا كم يمكن أن يكون صاحب السلطة شريراً حين لا تكون هناك وسيلةٌ لردعه, ويريدون الحفاظ على الإنسان الذي في دواخلهم, الإنسان الذي لن يسمحوا بإلغائه بعد عامين من ثورةٍ غير مسبوقة.
سيكون ثوار سوريا لو حكموا, مستبدين فقط في الإصرار غير القابل للتفاوض على توجيه البلاد إلى الوجهة التي تنتهي بدولةٍ حرة قوية سيدة مستقلة وديمقراطية أولاً وآخراً. (هذا فقط ما يمكن أن يُطلَق عليه الاستبداد العادل للثورات, أو الاستبداد الثوري).
لا يوجد إنسانٌ ميال بصورةٍ فطرية إلى رفض أن يستبدّ. بالحد الأدنى, نفسية الإنسان أعقد بكثير من هذا, إن لم تكن بالعكس ذات استعداد فطري للتسلط والامتلاك, وهو الثابت والبديهي.
لذا بالضبط وجدت الديمقراطية. فقط في ظل نظامٍ ديمقراطي, قد يصل رجل بنوازع تسلُّطية (نظرياً, وفيما لو استطاع), ونهمٍ للحكم الفردي (نظريا أيضا.. فيما لو أتيح له) فيشكل حكومةً قوية ويدير البلاد بصورة جيدة, فيعيش الناس على أيامه قفزةً اقتصاديَّةً أو استقراراً نوعياً, لم يكن ليتحقق لو لم يكن هناك نظام ديمقراطي صارم, و"دكتاتورية قانون" تمنعه من أن يكون مستبدَّاً, وتُلجِئُهُ للعمل في الخير العام, ثم تحصل انتخابات ويصل غيره. ويربح التاريخ رجلاً كان يمكن أن يكون دكتاتوراً ولم يكن.
هل رؤساء دول العالم المتمدن اليوم, ورؤساء الحكومات, والقائمون على السياسات, ناسٌ استثنائيون في غيريَّتهم, وملائكيون في تعاملهم مع السلطة التي بين يديهم؟ كلا طبعاً.
هل هناك حيث هم, أنظمةٌ ديمقراطية ودساتير صارمةٌ تمنع الاستبداد وتئده في المهد, ورأي عام حي, ومنظمات مجتمع مدني شكاكة دائما في نوايا السياسيين ولا يعجبها شيء؟ بالتأكيد.

الجميع يقارن بمناسبةٍ وبدون مناسبة, وغالباً بسلوكٍ ثقافويٍّ ساذج, وبلا مبرِّرٍ موضوعي, بين الثورة السورية والثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر. (أكثر من قلم رصين في أول الثورة استحضر هذه المقارنة بصورةٍ مبرَّرة في سياق الكلام دائماً, ويبدو أن آخرين لاحقاً تعاملوا مع الأمر على أنه تقليد من التقاليد الفكرية للثورة!).
لكنني أرى أن هناك سبباً مع ذلك لهذا الاستحضار الملح, هو عوامل الشبه الكثيرة جداً بين الثورتين. لم يكن مقدَّراً للثورة السورية –على ما يبدو- أن تنحو منحى شقيقاتها في باقي دول الربيع العربي, فتكون موجة شعبية مطالبة بالتغيير, سرعان ما تلجمها السياسة والسياسيون, وتنتهي لحظة الثورة, التي هي لحظة متوهجة خارج الزمن السياسي وخارج الزمن الموضوعي كله, ويرجع إيقاع الأشياء إلى طبيعته, وتتفانى محصلات القوى أو تتصالح, لتمرِّر التفافاتها.
الثورة السورية ليست هكذا. إنها ثورة جذرية, تحطم كل شيء لتؤسس على الصفر. ثورة يتيمة مجنونة جامحة, تعيش على إيقاعها الخاص وفي زمنها الخاص, وتستولد أشكالاً إعجازية للتعبير عن ذاتها وقول ما تريد.
إن شبهاً قوياً لا يمكن لعقلٍ تحليليٍّ منهجيٍّ أن يتجاهله, يقوم بين الثورة السورية, وسلالةٍ حزينةٍ من الثورات الجذرية عبر التاريخ, إحداها الثورة الفرنسية, التي يجمع المؤرخون على اعتبارها نقطة البداية للعصر الحديث, بقيمه ومنظومته الحضارية الهائلة والمعقَّدة.
مرَّةً أخرى, مع هذه التوأمة, يبدو قيام حكومةٍ ثورية على الأرض أمراً مقبولاً منطقياً أكثر فأكثر.


في واحدةٍ من أذكى قصص عزيز نيسن, يتحدث الأديب التقدمي التركي الساخر, عن هروب المجانين من المصحة في إحدى المدن, وانتشارهم بين الناس, واستنفار الشرطة والسلطة المحلية.
تتواتر الأنباء بعد ذلك عن زيادة عدد المجانين. إنهم يُعدون الناس بالجنون. تتطوَّرُ الأحداث ليثور المجانين ويستلموا الحكم في المدينة.
وحين يجتمع الحكام الجدد لتقرير ماذا سيفعلون, يقترح أحدهم معياراً بسيطاً: نعرف ماذا كان يفعل العقلاء, ونفعل عكسه تماماً.
وبالمعيار إياه, حين قرروا انتخاب رئيس للبلدية, سألوا ماذا كان يفعل العقلاء عند انتخاب مجلس بلدية..؟ قال أحدهم: كانوا يتقاتلون على المنصب. بالتالي, تنصَّل الجميع من المنصب. كلٌّ يقول: زميلي فلان سيكون أفضل مني. إنه طبيب ناجح وله باع في الإدارة. أنا حمار ولا أعرف شيئاً.. حتى نال المنصبَ أجدرهم به, وهو يبكي من هذا العبء الثقيل الذي لم يكن على البال.. وهكذا.
في النهاية, يجتمع الحكام الجدد بعد أن نظموا كل شيء وقرروا التوجهات الجديدة, ويسألون: ماذ كان يفعل العقلاء حين تستتب لهم الأمور ويمسكون بالسلطة جيداً؟ قال أحد الجالسين: كانوا يتشبثون بها بأسنانهم, ويستميتون للحفاظ على المكاسب, فقرَّر الجميع –بالتالي- التخلي عن السلطة, والعودة طواعيةً إلى مشفى المجانين, وسط توسلات أهالي المدينة للبقاء وعدم تركهم لقمةً سائغةً للعقلاء, وتنتهي القصة.
هذه القصَّةُ تختصر الكثير عن تصوُّري الشخصيّ لما سيحدث فيما لو قامت حكومةٌ ثوريّةٌ في سوريا..
حلم؟ ألم يكن أقرب للامعقول أصلاً بالنسبة لكثيرين, الهتاف في أسواق الشام المكلومة لأربعين عاماً "الشعب السوري ما بينذل" يوم 15- 3- 2011؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حمدين صباحي للميادين: الحرب في غزة أثبتت أن المصدر الحقيقي ل


.. الشرطة الأمريكية تعتقل عددا من المتظاهرين من جامعة كاليفورني




.. The First Intifada - To Your Left: Palestine | الانتفاضة الأ


.. لماذا تشكل جباليا منطقة صعبة في الحرب بين الفصائل الفلسطينية




.. Socialism the podcast 131: Prepare a workers- general electi