الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العصفور الأحمر

جمال الدين أحمد عزام

2013 / 1 / 31
الادب والفن


العصفور الأحمر

كنت أمر بتلك الحديقة دونما اهتمام، التفتُ، ألقي عليها نظرة عابرة و أمضي في طريقي إلى العمل، حيث لا أفعل شيئا سوى تسجيل اسمي في دفتر الحضور لأثبت أني موجود.
لقد سئمت، لن أذهب اليوم، اتخذت قراري و أنا في طريقي و الحديقة عن يساري، حسنا، فلأجلس هنا قليلا. كانت الحديقة واسعة يتوسطها ميدان صغير مستدير من نجيل أخضر مشذب يتوهج اخضراره متذهبا في ضوء النهار، تتراص في محيط الميدان الأخضر أرائك خشبية صنعت متونها من حديد مشغول مصطبغ بالسواد و قد أولت ظهورها الخشبية البنية الناعمة إلى البقعة المستديرة الخضراء، و النخلة الباسقة الرمادية الجذع التي تتوسطها. لم يكن هناك سوى دبيب خطوي على الأرضية الرخامية البيضاء المتشحة بخيوط رمادية و المفضية في نهاية الساحة إلى أشجار ضخمة تسور المكان.
حجبت سحابة بيضاء ضوء الشمس بينما تقافزت بضعة يمامات على الأرضية تهز رؤوسها كلما مشت، لا أحد يجلس في الحديقة غير رجل عجوز هناك يتصفح الجريدة الصباحية في تعمق، فلم يحس باقتراب اليمامات من قدميه، ربما كن ترجونه إطعامهن شيئا فتوددن إليه. جلستُ على أريكة مجاورة، أحس العجوز بوجودي، أنزل الصحيفة حتى مستوى فمه ملتفتا إلي ناظرا من فوق عدسات نظارته التي أنزلها نحو أرنبة أنفه، ثم بادرني..صباح الخير. فأجبت مبتسما..صباح الخير. طوى الرجل صحيفته و وضعها إلى جواره، خلع نظارته و دسها في جرابها ثم دس الجراب في جيب قميصه، أخرج من جيبه الآخر فطيرة صغيرة أخذ يقطع منها و ينثر فتاتها، فتلتقطه اليمامات من فوق الأرضية، ازدحم المكان حوله باليمام. كان يحدثني و هو يراقبهن..جميل هذا اليمام، اختار الطريق السهل، أليس كذلك؟! لم أعرف كيف أعقب على كلماته الغامضة، فقلت..عفوا، ماذا تقصد؟ التفتَ إلي محدقا في بجدية..الاختيار السهل هو أصعب الاختيارات، سهل في اختياره و شاق في تحمل عواقبه. مازلت غير فاهم، ربما هو عجوز يخرف، لم أدقق في كلماته بل دققت في ملامحه، كانت ملامح الرجل مألوفة، لفتت نظري ساعة يده، شيء ما فيها يشدني للنظر إليها و إن كانت تبدو متهالكة، انتبه إلى ذلك فقال ناظرا إلى ساعتي..ساعتك لم تزل جديدة، أليس كذلك؟ قلت ناظرا إليها بدوري..نعم، إنها من طراز جيد. انفعل..ليس مهما الطراز، المهم هو ما تشير إليه العقارب. بدت الحسرة على وجهه و هو يردف مطرقا و قد نثر آخر قطعة في يده..طالما لم أنتبه للعقارب. رفع رأسه ناظرا إلي مبتسما ابتسامة لا تخلو من المرارة..الوقت دائما ما يخدعك، فالناس نوعان: من يركبون قطار الزمن و من يدوسهم قطار الزمن، و الركوب مكلف، الركوب يعني الاختيار و ما أصعب الاختيار. رفع يده يهز ساعته لتسقط خلف معصمه، بينما أنا في حيرة من أمره، إنه يكلمني كأنما كنا سويا البارحة! وضع كفيه على أذنيه و أغمض عينيه و أخذ يطن هازا رأسه متململا، استغربت لما يفعل، خفت و كدت أتخذ قرارا بالرحيل لولا أن توقف فجأة و قال ناظرا في عيني و قد بدا على وجهه الخوف..إنه الصياح، لا ينقطع، ألا تسمعه! صياح العصافير الحمر! فكلما أجلتُ شيئا، لاح لي أحدهم و أخذ يصيح، ويلي كم أجلت من الأشياء حتى انتهى بي المطاف بائسا وحيدا، ويلي لقد ضيعت شبابي. هدأت نبرته ثم قال شاخصا في وجهي متعرقا وجهه..لقد واتتني الفرصة تلو الفرصة لأصبح جزءا من هذا العالم، و لكني آثرت المماطلة و التأجيل، كنت أقضي أيامي عبثا، يوم يجر يوم، يدق عنقي قطار الزمن و لا أبالي، لا أفعل شيئا سوى مجرد الحضور و الانصراف من العمل، ثم صعلكة في ثنايا المدينة، لهو و عبث و استنزاف للطاقة مع آخرين مثلي. غمغمتُ..ياله من يوم! أستريح من العمل أو الـ"لا عمل"، فلا يجد هذا الرجل أحدا يشكو إليه غيري! سأنصرف.
هممت بالانصراف، نهضت و لكنه واصل موقفا إياي بكلامه و الألم يلكزه بين الفينة و الفينة فترتعش له عينيه و قسماته المتغضنة..حتى عندما رأيتها و بهرني جمالها و أصبحت أسيرا لسحرها، لم أفعل لها أو لنفسي شيئا، واصلتُ طريقتي البلهاء. صمتَ لحظة ثم واصل مبتسما رغم الألم..لا أنسى أبدا عندما مرت من أمامي و شملني عطرها الزكي، كانت تربط عنقها بمنديل حريري أحمر يُبرز جمال فستانها الأسود، كان يرقبني عصفور أحمر صغير شدني لونه، تعارفنا، تلاقينا و العصفور الصغير يرقبني في كل لقاء صامتا. توقف عن الحديث ليلتقط أنفاسه، تسمرت في مكاني و تبددت فكرة الانصراف، يبدو أن القصة أعجبتني. عاود ناهجا متألما و قد تسارعت كلماته بصوت خفيض..تسليت بها، لم أكافح من أجلها، اعتبرتها أحد مقاصدي التافهة، ظللت أضيع الوقت و أماطل، تركتْني، علِمَت أني أحمق لا فائدة في، تركتْني فحُرمت منها، حرمتُ نفسي منها بغبائي، ظل العصفور يطاردني و يصيح، لقد أصبحت عدة عصافير لكثرة ما أجلت من الأحلام بفراقها، بفراق فرصة لنجاتي من الضياع، و لكم ضيعت بعدها من فرص للحياة تحت وطأة غرور الشباب. أردف متألما بنفس التواتر و إن علت نبرته قليلا..إنها تصيح بإصرار، ألا تراها؟! ها هي مِلئ الأشجار. مددت بصري و أدرته ماسحا به أشجار الحديقة، فلم أجد أي عصفور أصلا. صاح حزينا شاخص البصر مرتعش الشفاه و هو يهز سبابته في وجهي و قد امتدت على طول ذراعه في حركة و صوت مفاجئين طارت لهما اليمامات من حوله..لقد ضيعتُها. ثم ضم قبضته إلى صدره، يضربه بها برفق، و قد تهدج صوته الذي عاد خفيضا..لم تظهر مجددا، ماذا أفعل؟ اشتقت إلى عينيها الساحرتين، يديها الناعمتين، همستها الرقيقة، ضحكتها البريئة، روحها الشفافة، كانت فرصتي للحياة، و لكني لم أرد الحياة، أردت استهلاك الوقت فقط، و ضيعت عمري سدى. نهض، اقترب مني محدجا إياي في غضب، قال و هو يضغط حروفه مشيرا إلي رأسه بسبابته يضربها بطرفها..هل فهمت، الزمن! الزمن! أشحت بوجهي و أوليته ظهري رافعا ذراعيَّ..مالي أنا بك و بزمنك و بعمرك و بعصفورك! أي صباح هذا!
التفتُ مرة أخرى، فلم أجده، لقد اختفى، عليه اللعنة عكر مزاجي، هذا جزاء جلوسي و حديثي مع الغرباء، سأنصرف. اختفت السحابة فتسللت الخيوط الذهبية البكر إلى الحديقة من جديد، مشيت خطوتين، مرت من أمامي في ألق الأشعة، انبهرت بحسنها، بملامحها الرقيقة و شذاها الرائع، و لكن ما هذا! استوقفني شيء ما في هيئتها، إنها تربط عنقها بمنديل حريري أحمر، الفستان أسود! يا إلهي! مرت الصور أمامي مسرعة، ملامحه المألوفة، حديثه معي كأنما كان يعرفني قبلا، توالت الصور، ساعته القديمة، هل يمكن أن تكون تلك الساعة ساعـ...! ويلي، إنه...! كلا، لا يمكن، أرعبتني المفاجأة، ارتج لها جسدي برعشة باردة، تسمرت في مكاني مشدوها و عطرها لم يزل في أنفي و وقع خطوها لم يزل قريبا، و فجأة، خطف عيني من على غصن قريب بلونه الأحمر الفج و جسمه الصغير، يتربص بي.
تمت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل


.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج




.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما