الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عِندَما تَوَهَّجَتْ السماءُ

غالب محسن

2013 / 2 / 2
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


في الذكرى الخمسين لأستشهاد المناضل الشيوعي ألياس حنا كوهاري الذي أغتالته أيادي البعثيين أثر أنقلاب 8 شباط الأسود 1963 . وهي بالطبع ذكرى لكل ضحايا وشهداء تلك المجزرة البشعة . وتصادف أيضاً الذكرى السنوية الأولى لوفاة زوجته المناضلة نعمي أيوب رمّو .


ألياس
حلمٌ وخيالْ
للفرحِ
لعيونِ الأطفالْ
لأمرأةٍ يَعشقُها
لهاماتِ الرجالْ
لأطلالةِ حبٍ
للنبعٍ والخبزِ
للجبالْ
للنخلِ القائمْ
للجنينِ القادمْ
للأجيال
للفتية والبنات
لبحة الأصوات
لصحبة الشرفات
للأبطالْ
للأحياءِ منهم والأمواتْ
عويلٌ وصراخٌ وآهاتْ
غيومٌ سوداءْ
في كل الأرجاء
تخطفُ من العيون
الأضواءْ
ومن الكفوف الحناء
لم يبقى سوى دمٌ
وأشلاءْ
وألياس
توهجٌ في السماءْ


أحس بثقل عينيه وهو يحاول أعادة قراءة ما كتبه من توجيهات ، هي وصايا لرفاقه في منظمة الحزب لمنطقة بغداد . ربما لم يكن ذلك بعيداً عن ثقل المهمة والمسؤولية الملقاة على عاتقه في واحدة من أكبر تنظيمات الحزب على الأطلاق مما منحه شعوراً مضاعفاً بالفخر والقلق في آن ، لكن من غير تردد أو خوف . في ذلك الوقت ، لا ، لم يكن هناك من يخاف بل الشجاعة والأقدام كأنها موهبة تولد مع الأنسان ، في الميدان . لكن القلق الحقيقي كان بسبب تردي الأوضاع السياسية وتفاقمها وأزدياد مخاطر أنتكاس ثورة الزعيم . نظر في ساعته " يا ألهي مضى الوقت بسرعة " ، تمنى لو تمكن من النوم ولو لبرهة فأمامه يوماً حافلاً . كان يرتدي بيجامة داكنة من قماش قطني و بأكمام من الساتان الفضي . نهض بصعوبة ، بل ترنح قليلاً من تعب السهر . سار بخطوات حذرة كأنه يتحسس الأرض بقدمه وأندس في الفراش بهدوء مبالغ به بعض الشئ ، الى جانب نعمي التي ظنّ أنها قد نامت لكنها في الواقع كانت أكثر منه قلقاً وهي حامل في شهورها الأخيرة مع فتاتين مازالت أصغرهن تتعثر في خطواتها . وضع رأسه في حضنها وكأنه أراد الأقتراب أو تحسس الجنين " هل تظنين أنه سيكون ولداً هذه المرة " همس بذلك السؤال وغفا ، ولم يزل نائماً !

كان الظلامُ والبردُ مضاعفاً في فجر ذلك اليوم عندما أقتحم بيته جلاوزة البعث ممن يسمون أنفسهم بالحرس القومي وهم لم يكونوا سوى مجرمين وفاشلين في حياتهم وأرادوا الأنتقام لنفوسهم المريضة . لم يكونوا سوى قطاعي طرق بلا قلب ولا ضمير . كانوا حرساً بلا شرف عندما أختطفوا ألياس من بين أحضان زوجته الشابة وسط هلع وصراخ الأطفال . لم يتسنى لألياس حتى توديع عائلته لكن نعمي لمحت في عينيه نظرة أعتذار وهم يقتادوه الى خارج البيت حيث أنتظر بقية قطيع الذئاب وأنطلقوا بأتجاه ضحيتهم التالية .

هكذا ينقض الجبناء على ضحاياهم ، وهم في أحضان من يحبون .

كان ألياس نموذجاً فريداً في تجسيده لتوحد أجمل الخصال الأنسانية في الصمود والأقدام والتضحية حتى الموت من جهة وبين الرقة والطيبة والحنان والتسامح ، وأن شئتم جمال الروح من جهة ثانية . كان نموذجاً للأنسان المتحضر قبل عصره . كانت جريمة ألياس أنه كان يحلم كثيراً ، منذ ان كان طفلاً ثم شاباً يافعاً قبل أن ينذر نفسه للعمل الحزبي . كان يحلم كل يوم دون كلل . يحلم بعائلة كبيرة ، يحلم بشوارع مليئة بالزهور والأعلام الحمراء ، كان يحلم بالمصانع وهي تمنح العمال الأمل والمستقبل ، وطن يعيش فيه الناس أحراراً وسعداء . كانت مشكلته مع مجرمي الأنقلاب الأسود أنه كان يحلم ويحلم .... ويحلم .

البطاقة الشخصية عند الأستشهاد في 9/10 آذار 1963 :
الحالة الأجتماعية : متزوج من سليلة الشهداء نعمي أيوب رمّو (وهي أخت الشهيد الشيوعي سالم أيوب رموّ الذي أستشهد بعد عشرون عاماً بذات الأيادي القذرة الملطخة بدماء زوجها )
الأطفال : طليعة أربعة سنوات ، منال أربعة عشر شهراً و طلعت ما زال جنيناً ، عشرون أسبوعاً لا غير .
المهنة : شيوعي ، عضو منطقة بغداد
الأسم الحزبي : أبو طلعت
الهواية : الحلم
الأمنية : عائلة كبيرة في وطن حر وشعب سعيد
أبرز الخصال : الحب حتى الموت
المثل الأعلى : يسوع
القبر : كل أرجاء العراق (لم يسلم جثمانه الى ذويه ودفن في مقابر جماعية مجهولة )

ولد الشهيد ألياس حنا في مدينة القوش الواقعة عند أطراف مدينة نينوى في العام 1927 وتقع في المنطقة الجبلية بين مدينتي نينوى ودهوك . لمدينة القوش مكانة مقدسة ليس فقط لأن أسمها قد ورد ذكره في الكتاب المقدس (أنظر مطلع سفر ناحوم ) بل لكثرة شهدائها أيضاً . وبغض النظر عن ما يراه البعض من تعصب قومي وديني لدى العديد من أبنائها فان هذه المدينة تعرف أيضاً بمدينة الأبطال بل ويحتل بعض هؤلاء احياناً مواقع أسطورية في حياة سكانها بل وحتى خارج حدودها كما في حالة الأسطورة أبو جوزيف ، توما توماس .

كان ألياس يعشق الحياة . لم تعد مدينته الصغيرة تتسع لأحلامه الكبيرة ، تلك الأحلام التي أخذت تكبر وتكبر حتى فاضت فأرتحل الى كركوك أولاً ثم الى بغداد لتزدهر أكثر أحلامه هناك. لأول مرة هنا يتلمس الشاب ألياس أمكانية تحقيق أحلامه بأنخراطه في صفوف الحزب الشيوعي العراقي وليصبح في وقت قصير أحد أبرز القادة الشباب في أضراب عمال السكك الشهير (1946) وهو لم يبلغ من العمر عشرين ، وليصبح ، بعد فصله من عمله في السكك ، أسماً لامعاً في أضراب عمال شركة النفط في كاورباغي في نفس العام .

عندما أطلق سراحه من السجن بعد ثورة 14 تموز 1958 أصابته الحيرة والدهشة لكثرة ما تحقق من أحلامه ، هكذا دفعة واحدة ، حتى أنه لم يعد يرى حقيقة مخاطر القوى السوداء التي باغتته وهو في حضن زوجته . في نشوة النصر ، وفي مسيرة المليون " عاش الزعيم عبد الكريم ، حزب شيوعي بالحكم مطلب عظيم " أختلط الحلم عند أبو طلعت للحظة كانت كافية لأن تسلبه حياته .

كان ألياس حضارياً وأنسانياً حتى مع جلاديه ، فبعد جلسة تعذيب روتينية ألتفت صوب حارسه في معتقل قصر النهاية وهو يقاوم الأوجاع ، من جراء التعذيب الوحشي الذي تعرض له ، وخاطبه بكل ثقة وهدوء وكأنه هو المنتصر " قل لصاحبك أن يحترم نفسه ويكف عن تعذيبي ، فأن ذلك لا ينفعكم ، إنكم لن تستطيعوا أن تحصلوا على إعتراف مني " .

لقد أطفأ المجرمون ومض الحياة عند أبو طلعت لكنهم لم يتمكنوا من أحلامه .

أحلام وأسئلة

لم يكتب ألياس وصيته ، ولم يكتبها الآلاف من الشيوعيين وغيرهم من الشهداء من المناضلين والمفكرين ومن مختلف فئات الشعب ، لكنني أكاد أشعر بحزنهم وربما بحيرة الكثيرين منهم وفي عيونهم سؤال ربما أصعب من الموت ذاته : هل كان يجب أن نموت ؟

هذه مسؤولية الأحياء في الأجابة عن هذا السؤال تجاه من ضحى بحياته من أجل الآخرين . في فلم سنوات الجمر والرماد الذي أعده وأخرجه الأستاذ علي رفيق عن تجربة حركة الأنصار الشيوعيين قال السكرتير السابق للحزب السيد عزيز محمد أنه كان بالأمكان تفادي ضحايا بشتئاشان (تصادف الذكرى الثلاثين في آيار هذا العام ) . ورغم أنني أرى في هذا أعترافاً متأخراً وخجولاً بخطأ الحزب آنذاك في معالجة الوضع العسكري على الأقل (دع عنك السياسي ، دون أنكار صعوبته) ، والذي ترتب عليه أستشهاد العشرات من الرفاق والرفيقات معضمهم من الشباب ، لكنه مع ذلك يبقى خطوة مهمة لا تنقصها الحكمة من أجل تعلم الدروس فعلاً لا لفظاً من تلك التجارب التأريخية المريرة .

لا يمكن تفادي أرتكاب الأخطاء ما دام هناك عمل وما دام الواقع يفرض كل يوم مهمات معقدة وجديدة علينا كأفراد وكقوى سياسية ، لكن عدم تكرار تلك الأخطاء ومن ثم رسم ملامح المستقبل لا يمكن أن تتم قبل أن نعترف بهذه الأخطاء أولاً وهو الشرط الحازم في عدم تكرارها . بدون ذلك يبقى الحديث عن تعلم دروس التأريخ بدون مصداقية و لا يفيد التخفي أو تكرار صياغات جاهزة ، فقدت بريقها منذ زمن طويل ، من قبيل " لمصلحة من تُثار مثل هذه الأسئلة " ، " ألقاء اللائمة على الضحية وتبرئة الجلاد " ، " وضع العربة أمام الحصان " وغيرها كثير بل أن ذلك سيزيد الطين بلّة ليس فقط في تعميق أزمة الخطاب السياسي بل ويعيق تقدم الحزب وتطوره وتجديد سياسته أيضاً .

أخيراً ، ليس عيباً ان نحزن أو نبكي قتلانا الذين سقطوا في ساحات الوغى . هذه مشاعر إنسانية وعاطفية تضفي لمسات واقعية على حياتنا التي تتباعد أحياناً عن هذا الواقع . الحزن يمكن أن يفتح قنوات إضافية للمحبة والتسامح ايضاً بل ومن حقّنا التباهي بأولئك الأبطال . لكن في السياسة يجب أن يكون بعيداً عن المبالغة والتضخيم والأستغلال أحياناً ، و يجب أن يبقى في حدود التكريم والوفاء بأستحضار العبر و الدروس من تلك المآثر ، في الفعل لا في طقوس النواح .

لتكن الذكرى الخمسين لأستشهاد ألياس حنا ، أبو طلعت ، والآلاف من رفاق دربه ، مناسبة للوفاء ولتقريب أحلامه من الواقع !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2013 / 2 / 2 - 12:29 )
شيوعي و شهيد!... كيف يستقيم هذا؟... الشهاده ليست في الشيوعيّه بل في اعلاء كلمة الله .

اخر الافلام

.. استشهاد فلسطينيين اثنين برصاص الاحتلال غرب جنين بالضفة الغرب


.. إدارة جامعة جورج واشنطن الأمريكية تهدد بفض الاعتصام المؤيد ل




.. صحيفة تلغراف: الهجوم على رفح سيضغط على حماس لكنه لن يقضي علي


.. الجيش الروسي يستهدف قطارا في -دونيتسك- ينقل أسلحة غربية




.. جامعة نورث إيسترن في بوسطن الأمريكية تغلق أبوابها ونائب رئيس