الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حيفا ليست قرطبة

سميح مسعود

2013 / 2 / 4
الادب والفن


عَرفني الصديق الكاتب الفلسطيني سميح غنادري على هذه الرواية ، بينَ لي أنها تنطوي على معطى وطني يكسبها دفقاً من الأحاسيس والمشاعر الفياضة ، تشد القارئ بتوهج عاطفي إلى أبعاد مكانية وتاريخية ونفسية مرتبطة بالارض الفلسطينية .

شجعني ما سمعته عن الرواية على أخذ زمام المبادرة للتعرف على مؤلفها، تبادلت معه عدة رسائل حتى الأن ، كما أرسل لي نسخة من روايته على عنواني في مونتريال ، أسعدني الحصول على نسخة منها ، استمتعت بقراءة كل صفحة فيها ، تلمست لغتها الجميلة ومكونات شبكتها البنائية المتقنة الصنع ، وجدتها تتعامل مع المكان / الوطن بمنسوب أبعاد روحية عالية ، يترابط فيها الزمان والمكان والاحداث والناس على امتدادات واسعة ، تظهر فيها إنثيالات الذاكرة مزدانة بقصص وحكايا عن الأهل والحياة بدلالات واقعية غير متخيلة تربط الزمان بالمكان بعلاقة جدلية ثابتة ، وتتوصل إلى نتيجة حتمية مؤداها التأكيد على بقاء الوطن كواقع حقيقي محسوس رغم النكبة والهزائم والشتات .

يؤكد المؤلف في مقدمة روايته على أنها " حكاية غير كاملة لجيلٍ فلسطيني ولد مع إتمام عملية السطو المسلح على فلسطين ، ووجد نفسه في وطن مترجم حتى النخاع ، ويسيطر عليه قُطعان من الاغراب " ... ويعني به الجيل الفلسطيني الذي بقي صامداً في داخل وطنه بعد الاحتلال بوضعه الاستثنائي المعروف " الذي يشكل مع جيل أبائه أهم شاهد عيان على أكبر عملية سطو مسلح حدثت في تاريخ البشرية الحديث ."

من جانب أخر يبين المؤلف في سياق تعريفه بروايته بأنها ليست مذكرات أو سيرة ذاتية ، بل هي عرض وتحليل لأوضاع فلسطينية عاشها جيل أباء المؤلف وجيله ، استحضر منها كل ماعلق بذاكرته من صور وانطباعات عن أحداث تراكمت عبر السنين ، عرضها بتفاصيلها الدقيقة بدفقات شعورية متوهجة في إطار مشاهد جميلة من حيث البناء والسرد .

تتداخل أحداث الرواية في بناء مسارات سردية بتفصيل واسع عن المجتمع القروي الفلسطيني ، بعاداته وتقاليده وبعلاقاته الاجتماعية بين أفراده وبظروفه وأحواله المعيشية ، تمتزج بها دلالات أحداث مرت بالمؤلف بعدما بلغ سن النضج ، يرتبط معظمها بالهوية الوطنية ، وبالعلاقة مع الأرض والوطن ، ومع الدولة المحتلة ، وتطبع بعضها النص بجوانب شخصية ، تتعلق بدراسته وتحصيله العلمي ، ونشاطه الوظيفي خارج الوطن ، وزياراته لبعض الدول العربية ، وكذلك لقاءاته بشخصيات معروفة ، وبحياته وعيشه في الولايات المتحدة الامريكية منذ عام 1979، وبزياراته المتواصلة للوطن بما يوحي ويعبر عن تعلقه بأهداب قريته الرامة ، وحتمية انحيازه الأبدي لتراب أرضه وبيئته المحلية.

ثمة أكثر من موضوع يتشعب في بؤرة النص ، تنبعث محمولاتها من الاحساس بالوطن والتعلق به ، وتفضي إلى تحديد مفاهيم وقناعات واعية للذات والأخر ، يستنبطها المؤلف من واقع المكان وحركة الحياة وحال أهله تحت الإحتلال ، وحال العرب في أماكنهم المتشظية بالأحداث المتلاحقة ، لا يقف عن حدود الوصف والسرد فحسب بل يتوغل في غمار التحليل والنقد ... تتوالى أفكاره بنسق بنائي متميز ملفعة بفيض من الأحلام الوطنية .

توقفت مطولاً عند عنوان الرواية ، كمفتاح أساسي لها ، وجدت في صياغته الشكلية ما يؤكد بإصرار وبطريقة مباشرة وتقريرية على أن حيفا لن تضيع كما ضاعت قرطبة ، ثم وجدت بعد قراءة الرواية أن حيزاً واسعاً من فضاء السرد لم يفلت من سطوة العنوان ، ويصح القول أن كل ما في الرواية من أفكار ودلالات وإشارات تعبر عن اصرار أهل الداخل على البقاء ، وعن مقدرتهم الأسطورية على التشبث بالوطن ، حتى العنوان نفسه استوحاه المؤلف منهم ، من مقاطع صوتية لشابة حيفاوية قالتها له بإصرار : " لا يمكنهم أن يوقفوا المد العربي . حيفا ليست قرطبة ! ..البلد بلدنا وحيفا مدينتنا ، فإلى أين يذهبون ؟! "

رغم أن الرواية التي بين يديّ هي أول مغامرة لمؤلفها في الكتابة الأدبية ، إلا أنه نجح في تركيب نسيج نصها بامتياز ، تمكن فيها عبر محمولات حكايا ساطعة الدلالة فتح نافذة واسعة للقارئ العربي للتعرف على أحوال أهلنا الواقعية في داخل الوطن ، إنها إضافة مهمة لمعرفة قدرتهم على مواصلة البقاء في وطنهم بعزيمة تأبى الإنكسار .

وهذا يؤكد على نجاح شوقي قسيس في عمله الإبداعي الأول ، وتمكنه من الدخول بروايته إلى عالم الأدب من أوسع أبوابه في مجال لا يتعلق باختصاصه المهني ... تحول إلى الأدب بعد ان عمل في الولايات المتحدة الامريكية لسنوات طويلة استاذاً وباحثاً في علوم الأحياء والطب ، نشر أبحاثه واكتشافاته في أكثر من مئة مقالة في المجالات العلمية المتخصصة ، وقدم نتائج أبحاثه في مؤتمرات علمية عالمية ، كا سجل أربعة اختراعات ، ونال بجدارة عضوية عدد من الجمعيات العلمية الأمريكية والعالمية .

أخيراً يجب ألا تفوتني فرصة الإشارة إلى جانب أخر مهم من سيرة مؤلف الروايه ، يتصل بحبه الزائد للغتنا العربية الجميلة ، ليس في مجال الكتابة فحسب بل في مجال تدريسها ، حيث عمل أستاذا ً لها في إحدى جامعات مدينة فيلادلفيا الأمريكية ، وله الفضل في تأسيس قسم اللغة العربية في تلك الجامعة ، كما يظهر من سيرته الذاتية المبينة في نهاية الرواية أنه منذ تفرغه في عام 2009 ، أخذ يكتب في أمور تتعلق بلغة وأدب وحضارة العرب ، و يتوقع أن يصدر له عن قريب عدة كتب في هذه المجالات ، منها : " صدق الشعراء ولو كذبوا " ، " لعبة العرب : ببلادهم ، بتاريخهم ، بأعلامهم ،بحضارتهم ، بأدبهم ، وبلغتهم " ، " لغتنا العربية أن تعرفَها لا أن تعرف َعنها " .

ولعل خير من يعبر عن هذا الجانب من شغف شوقي قسيس باللغة العربية ابن قريته الرامة الشاعر الكبير سميح القاسم حيث قال :
وَطني ، يا فلاّحا ً عربياً
طَوقهُ جُندُ بريطانيا الكانتْ عُظمى ،
نزعوا حَطتهُ وعقالهْ
وحشوا رأسهُ في قًبعةٍ أوروبية ْ .
وَطني ، يا فلاحاً عربياً
صَدرَ الحكم ُ عليه بأن يرطِنَ بالإيدشْ والعبرية ْ
لكني أَعلمُ أنكَ لمْ تنسَ اللُغةَ العربيةْ ...
لن تَنسى اللُغةَ العربية ْ .










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند


.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في




.. حفيد طه حسين في حوار خاص يكشف أسرار جديدة في حياة عميد الأد


.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي