الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيما كنتُ بذرة موسيقى

خالد جمعة
شاعر ـ كاتب للأطفال

(Khaled Juma)

2013 / 2 / 4
الادب والفن


وَضَعَ سَلّةَ الأسئلةِ في ظلِّ صفصافةٍ عميقةِ الخضرةِ، بنتٌ في عمرِ الماءِ تأخذُ يدّهُ الموغلةِ في اللمسِ، تقودُ أنفاسَهُ وتجمعُ الأقمارَ في جيبِها الذي خاطَتْهُ على شكلِ قمرٍ أُمّ.

مَن أنا؟، خرجَ السؤالُ من غصنِ الصفصافةِ ومن خجلِهِ من الجهاتِ في ذاتِ الوقتِ، كان عليهِ أن يسألَ ويجيبَ المدى، الكلامُ يخرجُ طازجاً دونَ قدرتِهِ على إيقافِهِ، أنا ابن يوسف النبي، حملني على ظهره ثلاثين عاماً فصارَ مَلِكاً على سجانيه، أنا ابن من قالوا معلقاتهم تحت أستار الكعبة فانتصبوا في التاريخ مثل جملة نارٍ خالدةٍ وخفيفةٍ كلمسةِ ضوءٍ للرملِ، أنا ابن سيّد البرتقالِ طعماً ورائحة، صرتُ شجرةً بين يديه وصارَ حرّاثَ ذاكرتي، أنا ابن المتوسّطِ الذي يئس منه الفاتحونَ وصاروا رملاً فيما هو يتنفسُ من رئتي الموج، أنا ابن جلجامش وأوديسيوس، وابن حَدَد وابن ذي نواس، أنا ابن النخلةِ والفرس، أنا ابن كل ما مضى، وابن كل ما سيأتي، ولست أباً لأحد.

يا معلّمي، قالت البنتُ، ـ كانَ الحنينُ يظهرُ كصورةِ نبيٍّ في عينيها ـ يوجعني الحنينُ إلى ما لا أعرفُ، وأنا التي خُلقتُ من ضلعِ غزالةٍ وصرتُ خضراءَ يُبهجني الماءْ، فلماذا الحنينُ يوجِعُ يا معلّمي؟

تاهَتْ نَجْمةٌ عن أخواتِها فاختارَت ـ خطأً ـ طريقَ الأرضِ، هَبَطَت على غصنِ زيتونةٍ ألفيَّةٍ رَوَتْها عشرةُ أنهارٍ سماويَّةٍ، فاختلطت بزيتِها الذي صارَ أغنيةً تدَفًّقَتْ في حليب الأمَّهات، والنجمةُ ما زالت تفتقدُ أخواتِها، هكذا خُلِقَ الحنينُ على الأرض، ولو بقي في السماءِ لما سَقَاهُ الألمُ، كلُّ سماويٍّ له خفّةُ الضَّحِكِ وطراوةُ الندى، وكلّما اقتربَ من الأرضِ صارَ غيماً، والغيمُ بين الحالتين، فتغريه الأرضُ فيهبطُ، ويصيرُ ألماً في شكلِ ناي، أو في شكلِ حربْ.

تحملُ كيسَ السنواتِ يا معلّمي، قالت البنتُ وهي تتحوّلُ نغمةَ عصفورٍ طائشة، تستبدلُ الأوقاتَ بالأمكنة، والأمكنةَ بالصّلوات الطويلة، ويأكلُني الفضولُ ويجرحُني صمتُكَ الذي يشبهُ عاشقاً ينتظرْ.

إإتني بنهرٍ يتيم، هكذا قالت أنثى الغرابِ ـ معلّمتي الأولى ـ فيما كنتُ بذرةَ موسيقى، وفي رحلةِ البحثِ عثرتُ على عينيَّ فرأيتُ الأصواتَ وفَنِيتُ مثلَ ماءٍ يُعادُ تكوينُهُ، امتلأتُ وأفرغتُ امتلائي لأمتلئ، كنتُ كالحياةِ، أعرفُ، وأحرِّرُ نفسي من المعرفةِ كي أعرفَ الأشياءَ ذاتَها ولكنها ـ مطلقاً ـ لم تكن ذاتها الأولى، والنهرُ اليتيمُ ظلَّ يتيماً لأنه روحُ المعرفة، ولا أحدَ يشاركُ المعرفةَ روحَها، لا لتبقى حرّةً، بل لتظلَّ قِبلةَ الباحثين.

المعرفةُ كلُّها في الماءِ، والماءُ أصلُ التكوينِ، يغسلُ ما مضى ليهيّأَ لما سيأتي، الماءُ حينَ يكُفُّ عن جريانِهِ لا يعودُ ماءً، وأنا ابنُ الماءِ الذي يذهبُ أبداً في طريقٍ شقَّها بنفسِهِ لنفسِهِ، وحيثُ يصنعُ ضِفَّةً يضعُ أجنّةَ المعرفةِ ويمضي، الماءُ لا ينقلُ المعرفة، الماءُ هو المعرفة.

أنا ابنةُ أفكارِكَ يا معلّمي ـ همَسَتْ البنتُ وقد خَرَجَتْ من ريشِها وصارتْ كومةً من الكلامِ دون صوت ـ، أتيتُكَ بالسِّحرِ فألقيتَهُ في حِجرِ العرّافاتِ ومضيتَ بي، وكلّما غبتُ عنكَ مسافةَ فكرةِ ثعلبٍ عن صيدٍ مُحتَملٍ، أخذتَني تحتَ عظمِ جبينِكَ تعبيراً لوجهِكَ، فأستسلمُ لغوايتِكَ وكأنني أريدُها، فلماذا تنثرُ المشاعرَ على غيرِكَ وتتركني حينَ أفسِّرُكَ مثلَ قارئِ رموزٍ مبتدئ؟

يعلو ظمأي كطائرٍ يقيسُ فضاءً بجناحيه، الظمأُ اقتراحُ الطبيعةِ لتعيدَنا إلى بشريتنا المهلهلة، المُدُنُ حينَ تظمأُ تُنشئُ المعارِكَ كي تخبّئَ خوفَها في غرورِها، أما نحنُ فلا نعرفُ غيرَ ظمأِ الماءِ وجوعِ الخبزِ، وحينَ نقتربُ من سفرِنا الأخير نعرفُ أننا خبّأنا العمرَ من أجلِ لحظةٍ لم تأتِ، كم ظننتُ نفسي غابةً مثلاً، وأخرجتُ أنفاسي كأشجارٍ تحكُّ ضوءَ الشمسِ كي تصنعَ حفلَةً خضراء، وعدتُ من كلِّ محاولةٍ حاملاً سيّداً مستبدّاً من جديد، ويمرُّ عُمرٌ كي أصنعَ ثورتي، فيلبسُني سيّدٌ جديدٌ في شكلِ ثورة، وفي شكلِ طاغيةٍ بعدَ قليل، يعلو ظمأي للحريّةِ من الحريّةِ، الحريَّةُ وهمُنا، وهمُّنا، نبحثُ عنه وعن نقيضِهِ، ونعطيهما الاسم نفسه.

ادعُ للأرضِ يا معلّمي ـ قالت البنت وقد استعادت بشريتها ـ

الأرضُ تدعو لنفسِها، تحرّرُ أفكارَها وتدسُّها في رؤوسِ البشرِ، فيظنُّونَ بغرورهم أنّهم من يبدعُ الفكرةَ، الفرقُ بينهم وبين الكائناتِ أن كلّ كائنٍ غير بشريٍّ يفعلُ ما تقولُه الأرضُ وهو يعرفُ، أما البشريونَ فيلبسونَ أقنعةً ويمرُّ الوقتُ فينسونَ وجوهَهُم تحتَ القناعِ وينسونَ القناعَ فيقولُ قائلُهُم: هذا وجهي الذي خُلِقتُ بهُ، والأرضُ تضحكُ، وتقتُلُ الجميعَ وتأتي بغيرِهِم كي يفهموا، قليلونَ من تخلّصوا من بشريّتِهم وعادوا حِنطةً أو فاكهةَ غابةٍ لم تُمَسّْ.

حمَلَ سَلّةَ الأسئلةِ، طوى ظلَّ الصفصافةِ عميقةِ الخضرةِ فصارتْ سؤالاً في سلّتِهِ، البنتُ في عمرِ الماءِ تأخذُ يدّهُ الموغلةِ في اللمسِ، تقودُ أنفاسَهُ وتجمعُ الأقمارَ في جيبِها الذي خاطَتْهُ على شكلِ قمرٍ أُمّ، وتكتشفُ أن الأقمارَ لها رائحةُ موسيقى جوارَ شلاّلِ نور، وفي المطلقِ كانَتْ غزالةٌ سَمِعَتْ كلَّ حرفٍ بوضوحِ جوقةِ طيورٍ صباحية، لكنّها لم ترَ شيئاً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مختار نوح يرجح وضع سيد قطب في خانة الأدباء بعيدا عن مساحات ا


.. -فيلم يحاكي الأفلام الأجنبية-.. ناقد فني يتحدث عن أهم ما يمي




.. بميزانية حوالي 12 مليون دولار.. الناقد الفني عمرو صحصاح يتحد


.. ما رأيك في فيلم ولاد رزق 3؟.. الجمهور المصري يجيب




.. على ارتفاع 120 متراً.. الفنان المصري تامر حسني يطير في الهوا