الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التاريخ المنسي في فلم (سنوات الجمر والرماد)

كريم كطافة

2013 / 2 / 4
الادب والفن


عُرض في مدينة لاهاي بهولندا يوم 2/2/2013 العرض السابع للفلم الوثائقي (سنوات الجمر والرماد)، للمخرج العراقي (علي رفيق). إذ سبق وأن عرض في السويد في عدة مدن وفي كوبنهاكن والنرويج واستراليا وميشغان. يتحدث الفلم عن واحدة من التجارب النادرة في شرقنا. أنها تجربة الأنصار الشيوعيين العراقيين الذين شكلوا لهم تشكيلات عسكرية وخاضوا قتالاً عنيفاً ضد طغيان نظام البعث متحالفين مع البيشمركة الكورد على مدى عشر سنوات قبل أن يستخدم النظام السلاح الكيميائي ويخلي كوردستان من ريفها. تحدث من خلال مشاهد الفلم بنات وأبناء جمر تلك السنين عن رحلة كفاحهم بما شابها من انتصارات وانكسارات.. عن علاقتهم بالطبيعة التي كانت لهم خصماً مضافاً لا يرحم غفلتهم وإهمالهم المديني.. أكلت منهم سيقاناً وأقداماً تغنغرت بوحول ثلجها.. عن علاقتهم بسكان القرى والبلدات التي كانت ضمن نطاق سيطرتهم.. عن رحلة عذاب عوائلهم المشتتة بين المنافي والوطن والمعرضة على الدوام لابتزاز مهلك بسبب موقف وفعل أبناءها وبناتها. أنها تجربة كبيرة بفصول قاسية يحاول المخرج أن يقدمها عبر مشروع طموح مكون من خمس أجزاء هذا هو الجزء الأول منه.
لقد تحدث في هذا الجزء حوالي ثمانين نصيرة ونصير إضافة إلى عدد من سكان القرى والمؤازرين، قدمهم لنا المخرج في مساحة زمنية تجاوزت الساعة بقليل، بأسلوب يشبه سباق المارثون أو كما عبر هو عنه، إذ قال: (كنت ألهث كمن يسير في مفرزة أنصارية على طرق وعرة). من بين ما جلب انتباهي في هذا البوح الجماعي ما قاله سكرتير الحزب الشيوعي السابق (عزيز محمد) عن خلاصة تجربة العمر: (للأسف كان هذا هو الواقع... كنا على طول نضعف أنظمة الحكم ويأتي غيرنا يقطف الثمار). جملة أجدها بكلماتها القليلة قادرة على اختزال سفر كفاحي طويل قاسي وكارثي في البعض من فصوله للحزب الشيوعي العراقي. في الواقع أنه تاريخ الحزب. التاريخ الذي ويا للمفارقة إذا أردت النبش فيه ما عليك إلا أن تقصد أعداءه. في أرشيف أعداءه من أجهزة الاستخبارات التي تعاقبت على مسك عنق الوطن وأجهزة الاستخبارات الأجنبية من المركزية الأمريكية إلى البريطانية إلى السوفياتية وغيرها ستجد الكثير مما تبحث عنه. لكنك لن تجد شيئاً في أرشيف الحزب نفسه. لماذا؟ لأنه بلا أرشيف. أليس هذا ما فعله المؤرخ الأشهر لتاريخ العراق الحديث (حنا بطاطو) الذي حاول من بين ما حاول استمكان تاريخ الحزب الشيوعي عبر أرشيف جهاز الأمن العراقي منذ بدايات تأسيس الدولة العراقية. كان هذا قدر الحزب منذ انبثاق نشاطه النضالي السري في ثلاثنينات القرن الماضي، إذ كل بضعة سنين تقوم الأجهزة الأمنية بما يشبه جرد حساب مع الحزب بشن حملة شعواء تلتهم فيها كل ما يصادفها من وثائق ومناضلين. ليبدأ من جديد بإعادة هيكلة جديدة لنفسه ولوثائقه.
شخصياً، من هذه الزاوية نظرت إلى مشروع رفيقي وصديقي (علي رفيق)، الذي اقتطع له مقطعاً محدداً بسنينه وموضوعه من تاريخ هذا الحزب، مقطع تجربة الأنصار للفترة من 1979 لغاية 1990. إذ وجدته كمن يدخل إلى عش الدبابير، مهما بذل وحاول وقدم لن يخرج منه سالماً. خطوة جريئة أقدم عليها هذا الفنان الذي كان هو نفسه نصيراً في تلك السنين، دون أن يكون بانتظاره أرشيف من أي نوع سواء سينمائي أو وثائقي. كل شيء كان قد احترق وصودر في أعنف آخر هجوم كاسح على مواقع الأنصار أواخر ثمانينات القرن الفائت. إذن كيف ينجز بحثاً لمشروعه ولاحقاً كيف ينجز فلماً وثائقياً بلا وثائق؟ هذا هو السؤال الذي رغم وجاهته ومنطقيته قد أجاب عليه المخرج بطريقة مختلفة، إذ كان أمامه ارشيف من نوعٍ آخر، لكنه أرشيف على وشك النضوب والاندثار كذلك، أنهم الأنصار أنفسهم أو من تبقى منهم، الأرشيف الحي. هؤلاء الذين وصفهم الفنان التشكيلي (قاسم الساعدي) في الفلم بالقول (الأنصار هم قصص تمشي على الأرض). بهم بدأ وعليهم اعتمد ومنهم استنطق تلك القصص السائرة على سيقان وجعلها تبوح بما لديها عن تلك الحقبة الزمنية الملتبسة والمهمة من تاريخ بلدنا، الحقبة التي جرى فيها تأسيس كل عوامل الخراب الذي نحن فيه الآن.
لن أسمح لنفسي نقد الجزء الأول من هذا المشروع نقداً سينمائياً مستعرضاً محاسنه ومساوئه من ناحية التقنية السينمائية، أين نجح المخرج وأين فشل في معالجة موضوعه.. اعترف أن هذا العمل ليس لي. لكني سأتناوله تناولاً ذوقياً.. كأي متلقي يشاهد فلماً ويخرج منه بانطباع أما يقول (أعجبني الفلم) أو يقول (لم يعجبني الفلم).. أما لماذا أعجبه ولماذا لم يعجبه فهذا أمر من الصعب على المتلقي العادي أن يشرحه بلغة نقدية سينمائية.. تظل هناك وفي كل فلم بؤر إعجاب تُبهر هذا ولا تبهر غيره بنفس القدر.. مثلما هناك مطبات يجدها أحدهم مطبات مخلة بالعمل بينما غيره لا يجدها إلا نقاط قوة. وهكذا. الأمر كما قلت ذوقي شخصي بامتياز. شخصياً خرجت من الفلم بإعجاب.. كان ممتعاً.. جعلني أضحك على مفارقات كانت تحصل في حياة الأنصار (أنا الآخر كنت نصيراً ويفترض أن لا أُفاجأ) لكنها أضحكتني.. مثلما جعلني أحزن وأحاول مسك العبرة من أن تتحول إلى دمعة وأنا أشاهد توصيف إحدى النصيرات وأحد الأنصار لعملية جراحية يُبتر بها نصف قدم أحد الأنصار بمنشار خشب وبلا تخدير. لم تزل صورة نصف القدم بأصابعه الكاملة محمر مسود مرمي على الأرض عالقة لم تفارقني. مثلما جعلني الفلم أستعيد الكثير من الآراء والتصورات والأحكام التي كانت تشغلنا في تلك الأيام وما زالت هي تشغلنا حول جدوى ومآل وأهداف وملابسات التجربة التي خضناها في ظروف هي أصعب من الصعوبة وفي تضاريس ليس كلها صديقة.
قلت يوماً وما زلت أعتقد أننا الطائفة التي لا تعرف لها لوناً غير لون العراق ولا أصلاً غير جذور أعراقه التي نبتت في الأرض عميقاً ولا تعرف انتماءاً غير ما عبر عنه شاعرنا الطريد المنفي (ليس لك يا هذا في الدنيا غير نصيب الطير.. لكن يا إلهي حتى الطيور لها أوطان) نحن الذين طردنا من الوطن وما زال أكثرنا يجتر نفيه وغربته.. ابناء وبنات سنوات الجمر التي ترمدت على رفات شهدائنا وعلى أحلامنا.. كنا محاصرين بين جيوش النظام المتعددة وجيوش البلدان المجاورة.. كنا هدفاً للجميع.. لم يكن تاريخنا كله بطولات وأمجاد وهي كثيرة على أية حال ونتشرف بها أمام أنفسنا في البدء والمنتهى.. لكن وكذلك وربما بنفس القدر كان تأريخ من الخيبات والأخطاء الكبيرة والصغيرة.. أتمنى على المخرج النصير (علي رفيق) في الأجزاء الأخرى من مشروعه أن لا يغفل هذه الحقيقة .. أهمية تاريخنا تأتي من كونه جزء مهم وعضوي من تاريخ شعبنا وبلدنا. والصدق كل الصدق مطلوب منا أمام شعبنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??