الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صاصا .. آخرُ بوحِ المصاطب

محمود عبد الغفار غيضان

2013 / 2 / 6
الادب والفن


صاصا .. آخرُ بوحِ المصاطب

يعودُ أبي من صلاة الفجر... بكوبٍ من الشاي وكسرة خبز ملدنٍ مما يحب... تفتحُ له أمي أبواب النهار... يحدثها في كل شيءٍ دون انتقاء.. فيدخل صوته كل غرف البيت كي يضع الأغطية حيث ينبغي أنْ تكون على جسده بعدد بناته والأولاد... فنستمر نائمين باطمئنان بدا سَاعَتَها أبديًّا... يغفو أبي بانتظار مرور الصباح أمام دكانه... ثم يوقظه "صاصا" مناديًا من الصالة بأصوات غير واضحة المعاني... يرد أبي مرحبًا فيدخل إليه... وبعد قبلات وتدليل أدمنهما الأحفاد... يخرجان معًا لإحضار الحلوى ثم يصحبه أبي إلى بيتِ أختي... وقبيل أنْ يذهب من هناك... يعطيه نقود الصباح الاعتيادية... غدا ذلك طقسًا يوميًّا في سنوات أبي الأخيرة... يتأخر "صاصا" في الحضور، فيخرج أبي مبكرًا بعد أنْ يخبر أمي بذهابه إليه... وعلى هذه الشاكلة الطفولية الحلوة ... تمضي كل صباحاتهما التي اختذلت الزمن في هيئتين بينهما قرابة سبعة عقودٍ.
يفترشُ المرضُ سرير أبي... يتمدد فوق جسده المُتعب بسماجةِ ضيفٍ ثقيلٍ يمنعكُ شيءٌ قدري فوق طاقتك مِن طرده... دونما تفسير أو كلام... يكتفي صاصا بنقود الصباح... ثم يذهب وحده لشراء الحلوى... كان أبي يعشق معه تواصلاً خاصًّا لا يحتاج إلى الكلام... يسمع صاصا أنَّ جده بالمستشفى... دون أنْ يعرف تمامًا ماذا تعني الكلمة... كما كان لا يعرف أيضًا أنَّ حلوى الصباح التي أحبَّها على وشك أن تتلقفتها يدُ الغياب... يعود أبي لأيامٍ قبل الرحيل الأخير... يدخل صاصا حجرته... يكتفي بصوتِ جده الخافت طالبًا الاقتراب... يقف قرابة السرير بحياء من خرج لتوه من خطبةٍ مؤثرة عن أدب عيادة المريض... تناوله أمي النقود... ودونما إزعاج... يغادر المكان وكأنه يفهمُ كل شيء... يغيبُ أبي... يأتي صاصا في الصباح التالي... يردد اسمه... يدخل حجرته... يقف أمام سريره البارد... تسكتُ الجدران حد الخرس... تتلعثم أمي ثم تتقمصُ على الفور شخصيتها المفضلة التي تجيدُ بإتقانٍ التظاهر بكل خيرٍ... تأخذ ذراعيه المشاكستين... تضمه إلى صدرها... تقبِّل جبهته ويديه.. ثم تعطيه نقود الصباح... يأخذها صاصا مكررًا السؤال عن جدِّه... فتطلب منه أمي أن يعود سريعًا إلى بيته حتى لا يقلقهم تأخره... لم يكن "مصطفى" بعد قد تعلم الكلمات التي تعبر عن الغضب والاشتياق والحزن.. لكن الغياب كان قد لقنه أول دروس العجز... يكتفي بصمت المغادرة الذي تقطعه تمتماتٌ أحستها أمي بعضَ لومٍ للراحلِ دون وداعٍ.
كان الصباح ضيفًا أسطوريًّا بملامح جده وابتسامته وصوته... لكنه الآن لم يعد حميمًا كما درج... مع ذلك احتفظ صاصا بحقه كاملاً في مقابلته مع الأيام التالية بحثًا عن غائبٍ لم يقل أحد عنه متى سيعود ... يترك بيت أمه... يترك إخوته... تشد أصواته عودها الطيب ويعرف الكلام... يسأل أكثر وأكثر... يحكي ويتذكر صاحبه ... تنطق عيناه بكل الضجر من صمت لا يأتي إلا على صدى اسم واحد لا يبحث عن سواه... ودون استئذان... يضع رأسه كل ليلة على وسادة جدِّه... تحكي له أمي بعض الحكايات... تضع كل دموعها في خزينة من زمن أبي بعيدة عن رأسه... تحضنه حتى الصباح... ثم يوقظها مبكرًا كما كان يفعل جدُّه... ودون كلامٍ تعرف أنه يريد كوب الشاي وكسرة الخبز التي كان يتناولها ذلك الغائب... تترك أمي البوتاجاز... تحضر "الباجور" إلى الغرفة... فيستحضر صوته العالي أُنسَ العهد القريب... أمي... صاصا... الباجور... الشاي وكسرات الخبز... تستحضر كلها بمهارة ساحرٍ فذٍّ كل طقوس أبي وملامحه... فيعود الميتٌ وكأنه قد رجعَ حيًّا... وتعاود الحجرة سيرتها الأولى... لكن الصباح لم يقف عند الدكان... وذلك الصوت المحبب لم يدلل نومنا مع برد الاستيقاظ... كان الاستثناء الوحيد... هذه المساحة الخالية على سرير أبي... التي دفأها صاصا ببدنه الصغير.

محمود عبد الغفار غيضان
مجموعة "زمن المصاطب"
6 فبراير 2013م








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل