الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ميثاق الفجر الجديد ليس انتقالاً للامام

محمود محمد ياسين
(Mahmoud Yassin)

2013 / 2 / 10
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


اذا كانت السياسة، كما قال بسمارك، هى ” فن الممكن عمله“ فهذا يعنى ان النشاط السياسى اذا لم ينطلق من الواقع يكون مصيره التخبط فى متاهات لا اول لها ولا آخر، وهذا ما وقعت فيه وثيقة "ميثاق الفجر الجديد" التى أعدتها الجبهة الثورية السودانية ووقعت عليها فى 6 ياناير 2013 بعض الاحزاب السودانية المعارضة بهدف توحيد قوى المعارضة من اجل الاطاحة بحكومة الجنرال عمر البشير. فالوثيقة اختزلت تصوير الواقع بتعميم انشائى ضمن هدفها الاساس، الاطاحة بنظام الانقاذ، كالآتى:
” إسقاط نظام المؤتمر الوطنى المتجبر الذى اذل شعبنا وقسم بلادنا...وفصل أعز ماملكت بلادنا ودمر وحدتها ونسيجها الاجتماعى. وكان لابد من الوحدة والاتحاد والنهوض متطلعين بعزيمة وثبات نحو مستقبل وضاء وفجر جديد ....... للانتقال من الشمولية نحو الديمقراطية والسلام العادل ودولة المواطنة المتساوية والإنعتاق من الشمولية التى احتكرت السلطة لما يزيد من عقدين من الزمان لحفنة من الجلادين والطفيليين دون وازع من دين او اخلاق او ضمير“.

وتمضى الوثيقة فى القفز على الواقع بطرح يتميز بالسطحية السياسية غاب عنها المقدرة على استيعاب جوهر المشكلات وسيطر عليها الخطاب التقليدى الدارج عن الهوية والتهميش وانتهت إلى قصور في استنباط رؤى للتغيير من الواقع المعاش. وهكذا جاءت الوثيقة عبارة عن تعديد ممل لشعارات ووعود خالية من مضامين حقيقية للتغيير فى أكثر من خمسين بندا رئيسياً وفرعياً تشمل المبادئ والاهداف ومهام الفترة الإنتقالية والوسائل وآلية التنسيق.

ويمكن إختصار توصيف معظم بنود الميثاق المزعوم فى انه يشتمل على تصور لوضع دستور انتقالى لحكم فترة انتقالية مدتها اربع سنوات تنتهى بإقامة إنتخابات حرة ونزيهة وينعقد خلالها مؤتمر دستورى ” يحقق إجماع وطنى حول كيفية حكم السودان بمشاركة فاعلة من شعوب واقاليم واحزاب السودان وقواه الحيه ومجتمعه المدنى.“ وتتأسس الدولة فى الفترة الانتقالية ” على دستور ديمقراطى يقوم على إقامة دولة العدالة و الرعاية الإجتماعية.“ والوثيقة حددت قَبْلياً ( قبل انعقاد المؤتمر الدستورى) نظام الحكم فى الفترة الانتقالية بقيام نظام حكم فيدرالي من ثمانية أقاليم على أن تفصل جبال النوبة عن جنوب كردفان وتمنح جميع أقاليم السودان حق تقرير المصير المتضمن فيما اسمته الوثيقة ب "إقرار مبدأ الوحدة الطوعية لجميع اقاليم السودان" وأخيراً فصل المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة.

رغم الضعف والتناقضات المنطقية فى طرح المسألة الدستورية كما جاء فى الوثيقة المذكورة، الا أن الخطل الرئيس هو اختصار عملية التغيير فى اصدار دستور انتقالى ديمقراطى يقوم على إقامة دولة ” العدالة والرعاية الإجتماعية“. وهكذا وضعت العربة قبل الحصان: عربة القانون الاساسى للحكم قبل حصان النظام الاقتصادى/ الاجتماعى الذى يمثل القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة الحقيقية فى التغيير.

الوصول الى التغيير لم يتحقق يوماً فى أى مكان فى الدنيا برفع شعارات طنانة حول المبادئ القانونية (الدستورية) كمقدمة للتغيير، بل كان كما دلت التجارب المحلية والعالمية عملية ثورية لازاحة واقع سياسى/ اقتصادى/ اجتماعى صار عقبة أمام تقدم قوى المجتمع؛ وهذا لا يتحقق ” بضربة المعلم“ الخارق الذى يستطيع تحقيق التغيير كيفما ووقتما اراد. والواقع القديم لا يمكن تغييره الا بادراك ضرورته كنتاج تاريخى، وهى ضرورة موضوعية لاتحددها نزوات الاشخاص، بل العكس صحيح. وعدم ادراك الضرورة يقود الى الركون للانطباعية والعفوية فى الالمام بحقيقة مكونات الواقع وبالتالى النظر الى التغيير كعملية تحدث بصورة عشوائية لا تتحكم فيها قوانين لا يمكن الغاؤها الا بازالة الواقع الذى أفرزها. وكاستطراد، نذكر أن المثال الكلاسيكى لهذا المعنى نجده فى الثورة الفرنسية (1789-1799) التى هى عملية تراكمات صراع اجتماعى فى احشاء النظام الاقطاعى خلال حقبة تاريخية كاملة ترعررت و تقوَّت فيها قوى البرجوازية عبر الترويج لافكارها من خلال حركة الانوار. وعندما حدثت الثورة انجزت هذه القوى مهمتها الاولى (السياسية) وهى الغاء العبودية الاقطاعية وتجريد الكنيسة من سلطتها على الدولة وكان الاساس النظرى لهذا الالغاء متضمناً فى وثيقة ” إعلان حقوق الإنسان والمواطن “ التى لم تكن قانوناً بل مبادئ عامة. كما لم تنجز البرجوازية دستوراً (ليبرالياً) يحقق لها السيادة السياسية والاقتصادية الكاملة الا بعد ان استقر لها الوضع تماماً إثر تعرجات كثيرة شهدت فترات تحولت فيها فرنسا فى أعقاب الثورة لامبراطورية يحكمها إمبراطور وعودة للملكية.

وعودة لموضوعنا، نقول بانه حتى عندما تتحدث وثيقة الفجر الجديد عن مسائل ” برنامجية“ ، فانها تفصل القضايا الاجتماعية والاقتصادية المراد حلها عن الواقع الاقتصادى/ الاجتماعى السائد وطبيعته. فالوثيقة تذكر ان المهمة الآنية هى ” تنفيذ برنامج إقتصادي إسعافي لايقاف الانهيار الإقتصادي والفساد ومحاربة الفقر وتحقيق التنميه المتوازنه المستدامه، ....(وذلك ب) إتباع السياسات الإقتصادية التي تحقق مصالح الغالبية العظمى من المواطنين، وتعمل على تنمية الموارد الطبيعية والبشرية وتحقق تنمية مستدامة ومتوازنة، على ان يشمل ذلك اعادة احياء واعادة بناء القطاعات الاقتصادية الرئيسية.“ فالحديث عن مشاريع افرادية كتأهيل مشروع الجزيرة والسكة حديد والنقل النهري،الخ، يفتقد الى النظرة الكلية التى تقود الى تكوين المفاهيم (conceptualization) التى تمثل الادوات القادرة على إلقاء ضوء كاشف على الاطار الكلى لذلك الواقع الذى يمثل البيئة الحاضنة لكل المظاهر السلبية فى جميع نواحى الحياة. فمثلاً، تدهور زراعة القطن بالجزيرة مسألة لا تنفصل عن الدعم الغير محدود الذى تقدمه الدول المتقدمة المنتجة للقطن لمزارعيه فى تلك البلدان الذى حد من دخول الدول النامية بما فيها السودان السوق العالمية بصورة فاعلة. ومما زاد الامر سوءاً الضغوط التى مارستها الدول الكبرى على الدول النامية لتحرير اقتصادياتها بعدم تقديم أى دعم للنشاط الزراعى والصناعى. وانعكس هذا على السودان باصدار قانون الجزيرة لسنة 2005 الذى اعفى الدولة من المشاركة فى النشاط الانتاجى للمشروع فيما عدا توفير الارض والرى وتحصيل الريع. كما شمل التحرير ايقاف جميع اشكال الدعم لصناعات النسيج المحلية فى اطار مبدأ تحرير التجارة العالمية. وموقف الدولة الخاضع لمشيئة راس المال الاجنبى يشمل جميع القطاعات الانتاجية والخدمية فى البلاد.

واقع الدولة السودانية يتلخص فى تحكم رأس المال العالمى على مفاتيح الاقتصاد الوطنى، ذلك التحكم الذى تكرسه توجيهات منظمات التمويل العالمية الخاصة بكيفية إدارة اقتصاديات البلاد. وتتناغم الدولة مع هذا الواقع بتسخير أجهزتها لتقييد حركة العمال والمزارعين والعمال الزراعيين بتجريدهم من حق التنظيم النقابى وبالتالى الحد من حركتهم ضد الاستغلال الواقع عليهم جراء عبودية الهيمنة الخارجية.

ميثاق الفجر الجديد لا يفعل أكثر من تكريس واقع الدولة السودانية كدولة تابعة. وابتعاد وثيقة الميثاق عن مواجهة الواقع على حقيقته، كما صورناه أعلاه، هو شيئ طبيعى ينبع من طبيعة ما يسمى بالجبهة الثورية كواجهة للعدوان الذى تشنه دولة ” أمراء الحرب“ فى جنوب السودان على السودان بفرقتين (54 ألف جندى) تابعتين لجيشها تمارسان عدوانهما المسلح داخل الحدود السودانية. فالجبهة الثورية تعمل فى إطار مخطط خارجى يسعى لاعادة هيكلة السودان لخدمة المصالح ”المتجددة“ للدول الاستعمارية الكبرى. وبينما يقول الواقع أن سكان أقاليم السودان يشتركون فى معاناة رغم تعدد واختلاف أشكالها الا ان جوهرها واحد يفرضها نظام اقتصادى /اجتماعي تابع وبالتالى فان الحل يكمن فى تجاوز هذا الواقع، لا يستبعد مؤلفو وثيقة ميثاق الفجر الجديد تاسيس كيانات اقليمية ذات حكم ذاتى تنضوى تحت اطار إتحاد كونفيدرالي. وتفتيت السودان وهيكلته فى شكل دويلات ضعيفه هو الهدف الذى تسعى حثيثاً اليه الدول الكبرى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مطعم للطاكوس يحصل على نجمة في دليل ميشلان للمطاعم الراقية


.. فاغنر تتكاثر في ليبيا وتربط بين مناطق انتشارها من السودان إل




.. الاستئناف يؤكد سَجن الغنوشي 3 سنوات • فرانس 24 / FRANCE 24


.. روسيا تتقدم في خاركيف وتكشف عن خطة لإنشاء -منطقة عازلة- |#غر




.. تصعيد غير مسبوق بين حزب الله وإسرائيل...أسلحة جديدة تدخل الم