الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المهم في هذا الزمان

بدر الدين شنن

2013 / 2 / 11
الادب والفن


إن لم تستطع أن تكتب ما تريد .. أن تخرج ما في داخلك من أفكار ورؤى ومشاعر .. فلماذا تكتب .. ؟ .
هذا ما كان يقوله .. ويردده .. عندما كان يسأله عمار .. لماذا لم تعد تكتب .. ؟ .

كان عدد من أصدقائه يعرفون سبب إحجامه عن الكتابة .. ويتمازحون أحياناً .. بحضوره .. أوفي غيابه .. قائلين .. إن الكتابة هي التي أحجمت عن التعامل معه ، بعد أن صار إنساناً آخر .. لم يعد يختلط كثيراً بالناس .. ولايشترك بنقاش مع أحد في أي موضوع .. وخاصة في الشأن العام .. وصار يفضل في أغلب الأحيان .. أن يجلس وحيداً .. دون اكتراث لتوصيف البعض لحاله ، بعبارات تنم عن الشك بإنسانيته .. واجتماعيته .. التي كانت معروفة عنه . لكن عندما يغلب الجد في الكلام .. يجمعون على أن السجن الذي اغتال ربيع عمره .. هو الذي نقله من حال إلى حال .

وعبر سنوات .. تلتها سنوات .. كان كل ما حوله ينحدر إلى الأسوأ .. وتتأثر الكلمات .. والقيم .. والمعايير .. بهذا الانحدار.. وينتشر المزيد من مناخ الاختناق .. الذي يغلق الفكر والعقل .
وقد شمل هذا الانحدار بعضاً .. من الذين كانوا بالنسبة إليه .. جداراً .. وأفقاً .. وشركاء حلم .

حتى جاء الإعصار .. من الجهات الأربع .. من عمق كل القارات القريبة والبعيدة .. واكتسح كروم الزيتون والفستق والرمان .. وحقول القمح وضحكة الأطفال والريحان .. وعرى الأشجار والأفكار .. وأسقط الأقنعة .. ونشر ثقافة الموت عوضاً عن ثقافة الحرية .. وعمم أصوات الرصاص والقنابل .. عوضاً عن أصوات الفرح والعنادل .. دون أن يمنح فرصة لأسباب الحياة والأمل أن تنهض . وقد دمر من جملة ما دمر .. دمر الربيع الذي كان زاهر يحلم به وكرس حياته من أجله .. وفجر عنده الرغبة أن يكتب للحياة فوق التراب العزيز على قلبه .. ولو لم يكن متاحاً لما سيكتبه أن ينشر .

جلس ليكتب وعنده شعور طاغ .. يجب أن يكتب .
لكنه صدم .. إنه لايستطيع الكتابة . لم يجد نوع الكتابة الذي سينتح ما بداخله من خواطر خنقتها المجازر والمخاطر .. ومن أفكار تكشف الدمار وتفضح العار .. ومن رؤية تفتح أفق الصباحات الندية .
وشرع يكتب .. دون التقيد بنوع مسبق للكتابة .. حّيد عن مخيلته .. الشعر .. والنثر .. والمقالة .. واكتفى بالسرد العفوي البسيط .
وبعد أن سجل عدداً من الأسطر على الورق .. توقف وقرأ ما كتب :
لاتلمني ياصديقي .. إن لم أعرف .. أيهما على حق .. القائل أن نصف الكأس فارغ .. أم القائل أن نصف الكأس ملآن .. أو أن لاأعرف غير الأبيض والأسود من الألوان " .

دهش مما كتب .. وفكر .. ألهذا الحد وصلت بك الأمور يازاهر .
وعزف عن الكتابة بعض الوقت .. ثم عاد وجلس .. وكتب :
" لاتلمني إن لم أعد أقدر على التمييز .. بين الغباء .. والكبرياء " .
وتذكر الامعات من المثقفين والسياسيين ، الذين عند الشدائد يزحفون على بطونهم .. ليكسبوا الرضا .. والمال . وكتب :
" فأنا منذ أن ذقت طعم السياط .. قد ’سلبت مفتاح الفهم .. وإبرة التوازن .. والاختبار " .
وقال في نفسه لقد ’سلبت الكثير .. الكثير .. فقدت الوالدة دون وداع .. فقدت دفء العائلة بين الزوج والأولاد .. وافتقدت الوطن والأهل .. ورفقة دروب الأمل .
وعاد ليكتب :
" واعذرني .. إن تكن عندي لفظة .. ديمقراطية .. مجهولة الهوية والاعتبار .. إنها لم تأتنا في العيش والتعليم .. والتاريخ الطويل .. إنها غريبة عنا .. لم يعرفها البدو .. مصدر مفرداتنا الكثار " .
توقف عن الكتابة وأمعن التفكير .. واقتنع .. أن ديمقراطية اليوم .. ليست أسمى من مفردات عرفتها أجيال أخرى من قبل .
وتابع الكتابة :
" لكن الحق يقال .. أننا ما زلنا نحفظ من تلك المفردات مثل .. عزة .. كرمة .. انتصار . لكنها غابت .. أو كادت .. عن وعينا .. لم تعد تسري على ألسنتنا .. بعد أن ضيعها انكسار بعد انكسار "

وبعد كتابة الجملة الأخيرة .. تنفس بعمق . وأخذ يحدق إلى الخارج عبر النافذة ، كمن يبحث عن شيء هنا أو هناك . واتفق مع نفسه ، أن الانكسار لم يكن وحده مسؤولا . وكتب :
حتى أبناؤنا .. امحت شخصياتهم .. باستنساخهم .. كالذي كان .. والذي صار . أما عن الغد الأفضل .. لم يحسب في برمجة العقل من أجله حساب " .

وتوقع أن يثير ما كتب استغراب عماد .. وخاصة تناثر لمحات البؤس بين الكلمات . وفكر أن يأخذه إلى حافة المنحدر .. الذي استقر في قاعه قامات كبيرة .. انكشف في غمرة الإعصار .. خواء فكرها .. وأفقها .. وتزويرها الشعار .
وتحرك القلم ينضد الحروف والكلمات على الورق :
" هذه هي حالنا .. إن تقل إنه العار .. إن لم نعش أحرار .. وقيمتنا بين الأمم أصفار .. لم يعد يهم .. بعد أن باع الرفيق الرفاق .. وخان الصديق الصديق .. واستأثر بالعقل النفاق " .

وشعر أنه أفرغ شحنة ثقيلة من الاكتئاب ، والمشاعر البائسة المتراكمة ، عبر سنوات طويلة من القهر في داخله .. واستعاد شيئاً .. فشيئاً بعضاً من شخصيته المتمردة بالمطلق .. ضد من يراهم قد ظلموا .. أو انحرفوا .

وكتب بشعور من يكتب وصيته الأخيرة :
" المهم في هذا الزمان .. الأردأ من أي زمان .. ألا ننهار أمام الإعصار .. ألاتقتلنا أحزان المقابر .. وتحبطنا أكوام الدمار .. ألا نخسر الربيع في أعمارنا .. وأعمار أجيالنا المقبلة " .

حين بدأت قذائف المدافع تتساقط .. أمام منزله .. وخلفه .. توقف عن الكتابة .. وركض مسرعاً .. بينما كانت عدة قذائف تطال منزله وتحوله إلى ركام .

لم يعد يظهر زاهر كعادته ، بين وقت وآخر قرب منزله ، يسأل عن الخبز .. والماء .. والكهرباء .

لا أحد يعرف إن كان في منزله أم لا .. لما دمرت القذائف كامل المنزل وحولته إلى ركام .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي


.. الفنان السعودي -حقروص- في صباح العربية




.. محمد عبيدات.. تعيين مغني الراب -ميستر آب- متحدثا لمطار الجزا


.. كيف تحول من لاعب كرة قدم إلى فنان؟.. الفنان سلطان خليفة يوضح




.. الفنان السعودي -حقروص- يتحدث عن كواليس أحدث أغانيه في صباح ا