الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وهكذا ابْتَدَأَت

نعيم الخطيب

2013 / 2 / 12
الادب والفن


ما زلتُ أنا، لكنَّ هذا جسدي الّذي صار يذوي. فبعد أن كنتُ أحفظُ عناوين الكتب الّتي لم أقرؤها بعد، وأسماء جميع الأفلام الّتي شاهدتُها من قبل، صرتُ أتذكّرُ أنّني شاهدتُ الفيلم مرّتين أو أكثر قرب نهايته فقط، وقبل أيّام جاهدتُ نفسي طويلاً لكي أتذكّرَ اسم الممثّل الأمريكيّ المشهور، دون الحاجة لمساعدة العمّ غوغل. شُلّت يميني إن نسيتُك ثانيةً يا مِل غيبسون. ولكن مع قليلٍ من التّطرف، وكثيرٍ من المبالغة في الفانتازيا وفي تطبيق نظريّة المعرفة لدى أفلاطون، قد تروق لي قراءة (التّحوّل) لكافكا كلّ مرّةٍ بذات الدّهشة، ومشاهدة (الخلاص من شاوشانك) كلّ مرّةٍ كأوّل مرّة. لا يبدو الأمر بهذا السّوء، كلّ ما هنالك أنّه بعد انتصاف العمر (بفشخة) ـ باللّبنانيّة أو المصريّة لا يهمّ ـ تهترئُ الذّاكرة.

انتهت القصّة عندما شاهدتُكِ تسيرين في جادّة كونيتيكت في واشنطن العاصمة، بينما كنتُ أهمُّ بالخروج من المطعم برفقة بعض الأصدقاء. ما الّذي جاء بكِ ليلتها؟ وهل كنتِ حقًّا أنتِ؟ ولم أكن قد رأيتكِ منذ تخرّجي من الجامعة، قبل عشر سنواتٍ أخرى. مسمرتني الدّهشة وملامحكِ الحادّة الّتي لم تتغير. اسمُكِ، أين ذهب لحظتها؟ خمسةٌ وعشرون حرفًا في الأبجديّة العربيّة لم تُجدِ نفعًا. وعندما أثار ارتباكي انتباهكِ، ابتسمتِ لشخصٍ لا تعرفينه، وخرجتِ مسرعةً من المشهد، وخلفكِ رفيقتان عرفتُ من نظراتهما فقط كم كان منظري سخيفًا. وعندما أقفلتُ عائدًا إلى الفندق، تذكّرتُ فمي الّذي كان ما يزال فاغرًا، وشعرتُ بحزن جنديٍّ مهزومٍ في حربٍ لم يخضها، وبرغبةٍ في شطب اليوم في (الرّوزنامة)، الّتي يوحي اسمها بفعلٍ مستحيل.

على بطاقة الدّعوة: "حفلة (الكاست)، يوم ....، الوقت: بعد انتهاء العرض المسرحيّ الأخير، العنوان: شقّة محمود وسوسن ... حيّ الزّمالك". سماح أنور تعزف على البيانو، والمهرّجون حولها يغنّون "ذهبَ اللّيلُ، طلعَ الفجرُ، والعصفور صوصو" ـ بنسختها الأصليّة طبعًا؛ فكلّنا يعرف مكان الحقنة. باسل، نجم الحفل، يعزف على غيتارته ويغني (فيث) لجورج مايكل. محمود يقلّد أحد مغنيّ السّبعينيّات، يبدأ بفكّ أزرار قميصه، فتأخذ الفتيات الجاثيات على ركبهنّ بالصّراخ ، يعلّق: "أراب غيرلز آر سو هوت". يمرّ الوقت سريعًا، وأقرّر الانسحاب باكرًا/ بعد منتصف اللّيل. تغادرين في الوقت ذاته. المصعد الخشبيّ القديم ذو الباب الحديديّ يتوقف عن العمل فجأة. يمرّ الوقت بطيئًا. يأتي بواب العمارة للمساعدة. تتحدثين معه بالفرنسيّة، ربّما لأنّه كان يجيدها فعلاً، وربّما لأنّكِ كنتِ ثلاث أرباع مخمورة. ننسلّ ثلاثتنا من المصعد ـ هل نسيتُ أن أذكرَ أنّ صاحبك اللّبنانيّ كان برفقتنا؟ تنطلقين مع صاحبكِ، وأنطلق أنا إلى حال سبيلي. وإن يكن، فالأمر مسليًّا لو تعلمين: أقرأ على جانب الطّريق "حال سبيلك 3كم" .. "حال سبيلك 2كم" .. "حال سبيلك، مالِ مالِ مال، حالِ حالِ حال". مطر خفيف يبدأ بالسّقوط. صديقي مروان كان ينتظر عودتي لكي يسترد كلّ ما كنتُ أرتديه ليلتها، عدا ملابسي الدّاخليّة. اللّحظة لا تبدو مؤاتية لكي أتصالح مع المدن الكبرى... شو خصّ الكلام، وأسامي الشّوارع؟

تدور أحداث المسرحيّة ـ الّتي ينتهي اسمها بتاءٍ مبسوطةٍ كلّ البسط، فيبدو خاليًا من الإيقاع كترجمة حرفيّة عن لغة أجنبيّة ـ حول مشهدٍ قصيرٍ يظهر فيه الحاجّ، حيث تقتاده سيّدة ترتدي (ملاية لفّ)، إلى المحامي الجالس في القهوة، محاولةً إقناع الأخير بتولي قضيته في المحكمة، تدير السيّدة الحوار القصير أيضًا، ثم ينطق الحاجّ جملته اليتيمة الّتي لا يسمعها أحد، فيوافق المحامي بقرفٍ وعلى مضض، وينتهي المشهد. طبعًا هذه قراءتي الّتي لا يشاركني فيها أحد.

أمّا المسرحيّة الحقيقيّة فكانت تدور وراء الكواليس، في الجناح الأيمن من المسرح، حيث كنتِ تمارسين طقوسكِ للإحماء، والاستعداد لتلقي إشارتكِ لكي تجرّيني وتقذفي بي إلى الخشبة أمام المحامي. أمّا أنا فكانت طقوسي ثابتةً طوال أيّام العرض: كنتُ أرتجلُ حوارًا جانبيًّا يحاول فيه الحاجّ دائمًا التودّد إليكِ، واعدًا بطلاق واحدة أو أكثر من نسائه الأربع في سبيل رضاكِ. كنتِ تجارينني مرّةً: "يا حاج اختشي دنتا قد أبويا"، وتشتكين من تشتيتي لتركيزك مرّةً أخرى، وكانت تقاطعنا مرارًا شتيمة شاردة: "ينعن كسّمّ الكبسون"، حين ينفلت مشبك ثوبكِ الخلفي. وعندها يأتي دور صديقك المقرّب أحمد، الّذي كنتُ كغريبٍ بالضّرورة أخسرُ أمامه طواعيةً في مسابقة من سيقفل (الكبسون). ومن عتمة الجناح الأيمن أيضًا، كنّا نتابع سويّةً مشهدكِ الأثير: الحوار الأخير بين المحامي وحبيبته السّابقة الّتي تركته من أجل زوجٍ ثري. وبعد أن تغادرَ، يدخلُ غرفته الخلفيّة، وتُسمعُ طلقةٌ ناريّة من مسدسه.

كان محمود قد اصطحب صديقه كريم الرّاوي، المخرج والكاتب المسرحيّ البريطانيّ، إلى البروفة الأخيرة. وفي الختام، راح كريم يعطي ملاحظاته هنا وهناك، وقام بجرّي من كتفي، مخاطبًا إياكِ بلهجته المكسّرة: "بصّي الحاجّ ده بتاعك، امسكيه كده". وفي هذا السّياق قد يأتي كلّ شيءٍ متوقعًا، حتّى ردّكِ بخجل مصطنع: "يوه، طب والرِقابة!".

توالت البروفات، وفي الخارج كانت حرب الخليج الثّانية في أوجّها. أخذتنا النّقاشات، والشّتائم على أمريكا ومن حالفها، وكنّا ننسى أمر مديرة الخشبة، الكويتيّة صغيرة الحجم. قُلتِلي: "زنبها إيه البنت المسكينة تسمع ده كلّه؟ دي بلدها ضاعت أساسًا... اسكت مش امبارح كنت فـ أمن الدّولة، وأمّي اتْكَوِّسِت... عشان أعطيت عربيّتي لصاحبي اللّبناني". لا أدري ما الّذي أزعجني في الأمر: دينا الصّالح، أم أمن الدّولة، أم صاحبك اللّبناني؟ وفي المساء، أجرت الجامعة مناورةً بصفتها مؤسّسة أمريكيّة مستهدفة. انطلقت صافرة الإنذار، وأُطفئت الأنوار، فخرجنا من المسرح الي درجات المكتبة، وهناك تحت سماءٍ حزينة، ساد صمتٌ طويل، قبل أن ننشد بصوتٍ واحد "لحلف بسماها وبترابها".

على لوحة الإعلانات في قسم المسرح: "تجارب أداء، يوم ...، السّاعة ...، مسرح والاس، مسرحيّة توفيق الحكيم (حياة تحطّمتْ)، إخراج: محمود اللّوزي".

على المصطبة أمام المكتبة، كان منظر الهيبيّين ملفتًا للنّظر، لا سيما لقادمٍ جديدٍ مثلي إلى الحرم اليونانيّ. أحمد العطّار، بسكسوكته وشعره المعقوص كذيل حصان، يتأرجح بمشيته، كجوكر هارب من ورق (الشّدة)، أو من إحدى ملاهي شكسبير، (حلم ليلة صيف) تحديدًا. وكنتِ بأثوابكِ الاحتفالية الطّويلة الملوّنة تحومين كفراشة. شيءٌ يخبرني أنّ أشخاصًا حقيقيين في هذا المكان. وهكذا ابْتَدَأَت القصّة.

ـ "مين دول؟"
ـ "شلّة المسرح. مجانين".
ـ "البنت الّي ضاربة شعرها بالمولينيكس، اسمها إيه؟"

11 شباط 2013








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة