الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تشيخوف في الثورة السورية

خالد قنوت

2013 / 2 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


لم أكن اتمكن من السيطرة على نفسي و أمنعها من الضحك بصوت عال مثيراً استياء البعض و تفهم الآخر عندما يلحظوني أقرأ كتاب لأنطون تشيخوف. كانت أفضل الكتب و أحبها إلي عندما أسافر بحافلة الكرنك أيام عزها. كنت أرى في كل شخصية من شخصيات قصصه ما يشبهها في واقعنا بكل تفاصيلها و ممارساتها مطلقاً الضحكة صادقة حقيقية و هذا ما يفسر عظمة أدب و فكر أنطون تشيخوف.
لكن تأثيرتشيخوف علي لم يكن خلال رحلاتي في الكرنك فقط و إنما كان يدعوني للتمعن بالناس العاديين في غمرة حياتهم اليومية فكثيراً ما كنت أجلس إلى مقعد حجري في منطقة جسر فيكتوريا حيث كان موقف سرافيس و باصات المزة و دمر و الهامة. كان يستهويني النظر إلى المارة و متابعتهم الواحد تلو الآخر لأخمن ما يفكرون به في تلك اللحظة. موظفين و عمال و طلاب كل واحد منهم مشغول بهمه مما يجعله منحني الظهر و عيونه للأسفل لكن الأكثر حزناً ذلك البؤس و الاستسلام لذلك البؤس الذي يظهر جلياً على الوجوه.
في مقلب آخر كان يثير الغثيان عندي شخصيات تشيخوفية حقيقية متسلقة و انتهازية تراها من موظف لمدير أو من مدير لوزير أو من مواطن عادي لعنصر مخابرات تافه أو أمين فرقة حزبية يعمل لدى أجهزة الأمن, يتذللون و يمسحون الجوخ لنيل الرضا.

في بلاد الغربة, لم يختلف المشهد كثيراً طبعاً لدى البعض من السوريين المغتربين. فقد وقفت بعيداً أتمعن بالحاضرين لحفلة جمع تبرعات للمتضررين من أهلنا في الوطن, كان معظم الحاضرين سوريين و بدافع وطني شريف قدموا و ساهموا في تقديم المساعدات لأطفال سوريين ضحايا حرب النظام على الشعب السوري.
لكن شخصيات تشيخوف وجدتها هنا أيضاً. متسلقون و مدعي نضال و قيادات ثورية لا تعرف تضاريس اساسية في سورية.
عندما يدخلون فعلى الجميع أن يعرف أنهم دخلوا القاعة بأن تعلو أصواتهم مقبلين كل من كانوا بطريقهم, من سوء حظي كنت ممن تلقى قبلة سورية قوية من دون أحم أو دستور. تعارف سريع و أصوات الاشتياقات التي لا تستغرق سوى ثواني لينتقل إلى شخص آخر و تعاد التمثيلية الهزلية. أذكر أني في أول لقاء لي معه, أنكر علاقاته السابقة بأجهزة الأمن و قيادات حزب البعث في سورية دون مقدمات و دون أن أعرف هذه المعلومة بالأصل.
عاد إلي و سألني عن ما أكتب هذه الأيام, فبدأت بالحديث عن مبادرة الشيخ معاذ الخطيب و تداعياتها حيث كان الجميع يسمعون كلماتي, و عندما بدأت بشرح موقفي بأن الشيخ معاذ يتعرض لضغوط شديدة, علا صوته مجلجلاً: لا ..لا تقلي عن الضغوط التي يتعرض لها الشيخ معاذ!!. بلهجة من كان قبل قليل مع الشيخ معاذ و من دون مقدمات بدأ يتحدث عن رحلته الأخيرة لمخيمات اللاجئين السوريين في تركيا و دعانا لكي نشاهد صوره هناك مع الأهالي و مع ناشطين صاروا نجوم الثورة في الفضائيات العربية.
انسحبت دون أن يشعر بي, فقد كان ينظر إلى سقف الصالة و لم يكن يوجه نظره لأحد معين من الحاضرين.
كان معه سيدة جميلة لا تخلع علم الثورة السورية عن كتفيها و لو على قطع رقبتها و لا تكل و لا تمل من إظهار أساورها البلاستيكية التي رسم عليها علم الاستقلال المصنوع في معامل الصين الشعبية صديقة النظام الاستبدادي.
أحد الحاضرين سألني هل تعرف هذا المناضل الثوري شخصياً, قلت له: و لماذا؟ قال: ياليت لو تعرفني عليه. قلت: أبداً لا أعرفه. قال لي: هناك شخصيات مهمة أخرى قادمة للحفل و هو عضو في الائتلاف الوطني و آخر عضو في المجلس الوطني و لكنهما لن يحضرا بسبب تراكم الثلوج. فحمدت الله على الرأفة بعباده. اندس الرجل بين الجمع المستمعين لتفاهات المناضل المجلجل, منحني الرأس مبتسماً ابتسامة الحبيب, مستعيداً بذلك شخصيات تشيخوف الرخيصة سيئة السمعة و المضحكة أيضاً.
في ذات الحفلة كان هناك طبيب شاب سمعت عنه الكثير, يسافر كل شهر ليعمل في المشافي الميدانية في داخل سورية و على الحدود. كانت المرة الأولى التي أقابله فيها. صوته أقرب للصمت و تواضعه أقرب للأنبياء. قال لي: هذا أقل ما يمكن أن نقدمه للبلد.
و غاب بين الحضور دون ضجة.

نعم, مازالت شخصيات تشيخوف تعيش بيننا و في كل الظروف و الأوقات, تراها مع النظام المقاوم الممانع و بعد حين تراها مع الثورة و الثوار و قادة المعارضات.
لقد حولنا نظام حافظ الأسد جميعاً إلى شخصيات تشيخوفية بالحديد و النار و الإرهاب, حتى نفسي أشعر أني شخصية تشيخوفية في بعض الأوقات, كأن أنحني (هنا) لمدير أو نائب برلمان أو شخصية مهمة أوعندما أعبر بجانب سيارة شرطة فأحس بالذنب و التوتر.
هذه ثقافة الرعب التي أسس لها نظام الاستبداد الأسدي و عششت في كياناتنا و لا أظن أن جيلاً أو جيلين من عصور الظلام الذي عشناه يمكن لنا أن ننتزعها في أعماقنا بسهولة حتى في بلد نحن فيه نعيش حرية محمية بالدساتير و القوانين و الأعراف. من المنطقي أن يكون المتسلقين و الانتهازيين ليسوا سوى إفرازات طبيعية لتلك الثقافة و ما من وسيلة لانقراض هذه الشخصيات سوى أن نبني ثقافة حرة بعيدة عن العنف و الاستبداد و الإرهاب.

لا نغفل أن هناك حقيقة ساطعة اليوم,أن في الوطن نفسه من استطاع أن ينتزع عنه هذه المذلة و يرميها بوجه الطغيان و قد دفع الثمن غالياً و يستمر بذلك دون تردد.
اليوم هناك سوريون يعملون بصمت و تواضع و في يدهم كل الإيمان و نصف الحقيقة و بقي عليهم امتلاك النصف الثاني بتحقيق حرية الوطن كاملاً, و هذا مصدر ثقتنا بانتصار الثورة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيدة محجبة تحرق علما فرنسيا. ما حقيقة هذه الصورة؟


.. المحكمة العليا الإسرائيلية تقضي بتجنيد الطلاب -الحريديم- | #




.. غالانت يقول إنه آن الأوان لتفي واشنطن بالتزامها بمد إسرائيل


.. رائد مستقيل من الاستخبارات الدفاعية الأمريكية: الحرب لم تكن




.. فقد بصره وجزءا من أعضائه الداخلية.. الجزيرة ترصد حالة أسير ف