الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المأوى

جمال الدين أحمد عزام

2013 / 2 / 12
الادب والفن


المأوى

قصر قديم تحول إلى مستشفى. الشرفات ذات الأبواب الطويلة و الأسوار الحديدية الرفيعة المحلاة بالمعدن المشغول تطل على حديقته الغناء. الآجام القصيرة تسيج الحديقة و تعزلها عن الطريق الأسفلتي. المنازل الصغيرة المنسوخة من بعضها في الجهة المقابلة تراقب إحدى شرفات المستشفى في الدور الأرضي. أوغل الليل في ظلمته. خفت حركة السيارات حتى اختفت تماما و حل سكون شتوي بارد...
...ليلة أخرى باردة! هكذا أظنها، لا أعلم كيف فقدت إحساسي بالجو! هل العلاج الكيماوي هو السبب؟ أم تراني تبلدت لما اقتربت من نهايتي فتساوى لدي كل شيء و فقدت قدرتي على التمييز، على كل، هذا سمح لي بالجلوس أمام الشرفة في هذا الوقت البارد قرب منتصف الليل، لا أعلم لم اخترت هذا الوقت بالذات لأطل على الخارج؟ مع أني دأبت على كراهية الليل و كذا الشتاء بل و الخوف منهما، يبدو أن الإنسان قرب النهاية يفلت من قبضة مخاوفه و يدرك مدى سخافتها، هل أدفع الكرسي أكثر و أخرج تماما أم أظل لدى حلق الباب؟ خمسة سنتيمترات فقط تفصلني عن أرضية الشرفة، لم لا أريد تجاوزها؟ هل لأن الصورة من هنا واضحة فلن أرى المزيد إن خرجت بكليتي؟ أم ربما أخشى أن يراني أحدهم فأؤذي الممرضة التي استسلمت لإلحاحي و فتحت لي أبواب الشرفة في هذا الوقت المتأخر؟ كلا! هذه مجرد حجة، فمن الواضح للرائي أن الشرفة مفتوحة حتى و إن لم أخرج إليها، كلا! إنها هي كراهيتي المستعرة، إنه هو حقدي الأسود، إنه نفس حنقي على الوجود الذي يدفعني منذ أمد بعيد إلى التكور على ذاتي و التقوقع داخلها مستلا أسلحتي في مواجهة العالم، العالم الذي بادرت بلفظه لما بدت ملامح رفضه لي فقطعت نفسي منه متعاليا عليه في شموخ كاذب، و ما زلت أتحصن بأنانيتي و أكرس عزلتي مرتعدا من أي لمحة اتصال بالخارج قد تقوض عالمي الملعون الذي عشقته عشق الحية لسمها، لقد تطور معي الأمر حتى وصلت إلى درجة إماتة الحواس، لم أعد راغبا لعيني أن ترى أو لأذني أن تسمع أو لأنفي أن تشم أو لجلدي أن يمس، و لكني رغم عني أحس فلا أملك سوى أن أغلق قلبي عن حواسي بحراس الحقد الشداد حتى لا ينفعل إلا بما كنه من كراهية، الكراهية التي بدأت ككرة ثلج صغيرة سوداء نمت مع الأيام حتى قادتني إلى ما وصلت إليه، ربما ليس مصيري كله من صنعي، ربما ظلمت، ربما ليس ذنبي أني ولدت بمرض غريب، مرض يضمر لحمي بمرور الزمن باضطراد بطيء خبيث، ربما ليس ذنبي أني ولدت في أسرة متصارعة حادة الخلاف أو لأم معتلة العقل، ربما ليس ذنبي أن تفوقي في الدراسة ضاع هباء و أني مع كل شهاداتي لم أقبل في أية وظيفة بسبب مرضي لأظل عالة على الجميع، ربما كان حظي من الحياة قليل، ربما وجدت في عالم من الظالمين، و لكني بالتأكيد كنت أولهم، لم أكن في طفولتي أو مراهقتي منتبها تماما للفروق بيني و بين أقراني، كنت أوازن نفسي بالتفوق العلمي، بحبي للعلم للفيزياء و الرياضيات و البيولوجيا، و كنت أنال التقدير بالدرجات العليا، كان ذلك يشبعني، و ظلت حالتي المستقرة تبعا لذلك تقاوم بشراسة أي إحساس بالنقص، كان المرض يتفاقم و لكن عقلي كان يتقدم و مخزون إيماني بالتعويض يتنامى، حتى انتهت كل مراحل التعليم لأنتقل إلى مرحلة أخرى تقتضي أن أخرج من بوتقة الطالب المجتهد و أشق طريقي في هذا العالم، و لكن ذلك لم يحدث إلا لأقراني لأجد بعضهم و إن كان أقل مني تفوقا ينطلق في الحياة فيعمل و يتزوج و يسافر و ينجح أو يفشل، الحياة كانت طبيعية تماما بالنسبة للأخرين و تتطور معهم صعودا و هبوطا كما جرت العادة، و لكني كنت مستثنى من حركة الوجود، كنت مقتطع من الصورة، بالأحرى لم أكن جزءا منها و كأني لم أوجد يوما، و بدأت بذرة الكراهية في النمو و لكني قاومتها، أكملت دراستي على نفقتي، أي نفقة أبي، حتى الدكتوراه، كان ظني أني ربما لإعاقتي أحتاج لمجهود أكبر لإثبات وجودي، و لا جدوى، رفضت بشدة، فالجميع لا يرونني مهما فعلت إلا جسدا خربا، و ترعرعت شجرة الكراهية، تنامت كرة السواد، ازددت إنعزالا بأحقادي رافضا هذا الوجود الذي رفضني، استسلمت لليأس و المقارنة البغيضة، الجميع يأكلون و يشربون و يمرحون و يضاجعون و يتمتعون بالحياة، يتمتعون بالنجاح و بالفشل بينما أنا محروم من دخولها أساسا، و على عكس المتوقع تنامى حبي للدنيا و شهواتها رغم أن جسدي لا يسمح إلا بالفتات من الحياة لإبقائي بالكاد حيا أتعذب، أصبحت كلبا مسعورا مكمم الفم مشلول الأطراف يزداد إستعارا و تشهيا كلما خبت قواه، كفرت بكل شيء إلا باللذة أرومها بشدة رغما عن جسدي، لم يعد لي هم إلا إرضاء الوحش المجنون في داخلي، ربما هي وحوش عدة، للطعام وحش، للشراب وحش، للجنس وحش، إلا أن الأخير إلتهمهم جميعا لأنه الوحيد الذي يمكن إرواؤه من الداخل مجانا، هكذا ظننت، و لأني كنت على يقين أني لن يجتمع جسدي بجسد إمرأة، لن يحدث هذا أبدا، تحولت إلى آلة رصد للعورات و الأجساد، و أخذت أروي وحشي سرا بانتقام، أصبحت مهووسا و نال مني الإدمان، تفاقمت حالتي بضراوة مع تراجع جسدي و تراجع من حولي، أمي جنت تماما و أبي أضحى عجوزا يخدمني بصعوبة مما أصابني بالإختناق، فساءت علاقتنا و تمنى موتي و تمنيت موته و العالم يتفرج، و اشتدت أزمتنا المالية و كنا ننتظر ما يلقى إلينا كل حين على يد الأقارب، و بدأت أدفع الثمن، لم يتحمل الكبد هذا المجهود الشاق المؤجج بالحقد و الغضب و الحزن و القلق، إلا أن الأخير تسيد الساحة و وجه إليه الضربة القاضية، فأبي يضعف و قريبا لن أجد من يخدمني و مرضي الغريب في أطواره الأخيرة، ألم مستمر و نوم قليل و هزال شديد، و نهايته الحتمية معروفة؛ سأغرق في ماء رئتي، كنت قلقا بارتعاد من تلك النهاية و لم أكن أعلم أني بذلك كنت أستعجل أخرى، لم يتحمل الكبد أكثر و تسرطن ثم بث خلاياه المجنونة في باقي الجسد، و أنا الذي ظننت أني سأموت غرقا! على أية حال، ما حدث قتل قلقي تماما، فعلى الأقل هنا سأجد من يخدمني، كما أن الكيماوي نظف جسدي من أدرانه التي تراكمت عبر سنين من سوء تنظيفه، لم تعد رائحتي قذرة كما كانت في العشر سنين الأخيرة، و الأهم من ذلك كله، وضع الكيماوي حدا للعادة القذرة، فقد أمات فحولتي الحبيسة تماما ليتنامى حقدي لأقصى مدى و يمسي ثقبا أسودا في ذاتي يلتهم ما تبقى من أحلام طفل صغير عاشق للعلم، فشل أن يكون عالما ثم فشل أن يكون باحثا ثم فشل أن يكون إنسانا، و أخيرا فشل أن يكون حيوانا...
...الانتظار، هكذا هي حياتي، سلسلة من المطارادات يتخللها الانتظار، لا أستطيع التوقف فهناك ما يدفعني دائما للبحث عنه، لمطاردته، ربما هما السبب، لقد قاسيت منهما كثيرا، من حصارهما، فلو كانا يملكان ربطي في سريري لفعلا، أي أب و أم من المفترض أنهما يفرحان بابنتهما عندما تشب عن الطوق و يتبدى جمالها، لكنهما كرها ذلك و بحجة الخوف علي خنقا الحياة في قلبي، كرهت جسدي و كرهت الحياة و لكن دافعي للبحث عنه، أملي في إيجاده لم ينقطعا قط، كنت فقط انتظر اللحظة التي تأخذ الحراس فيها سنة من النوم لأتسلل هاربة من السجن، و بالفعل نجحت و ساعدتني الظروف، قبلت أوراقي في جامعة بعيدة و فشلت كل محاولات تحويلي إلى حضن السجان فانطلقت، لم أعربد لأن هدفي المقدس كان نصب عيني إلا أن خداعي كان سهلا فالزهرة التي لم يمسها الماء أبدا لابد أن تأسرها قطرة تلقى إليها و لو عفوا، و يبدو أن الذئاب تملك قدرة خاصة تشم بها جوع الفريسة للإلتهام، خدعني أولهم بسهولة، كان زواجا سريعا و طلاقا أسرع لتفشل المطاردة الأولى لأني ببساطة لم أجده، ثم أنتظر ثم يلوح أحدهم لأبدأ مطاردة جديدة ثم تفشل ثم أنتظر ثم أطارد، ساعدني عقمي على مواصلة الجنون، و الآن، أنا على أعتاب الأربعين و لم يزل جمالي في أوجه بينما تدب الشيخوخة في قلبي المنهك من وعثاء الترحال، آخرهم و ما زلت أطارد فيه غايتي يعذبني لأنه فوجئ بتاريخي الطويل، لا أعلم لم أخفيت عنه علاقاتي السابقة، هل لأنه هو المقصود؟ أم لأنها فرصتي الأخيرة قبل أن أصبح شمطاء مجنونة؟ لا أعرف، كل ما أعرفه أني أنتظره كل يوم على هذا السلم البارد لعله يعود، لعله آخر محطة في رحلتي و إن كان ذلك مرهون بمسامحته، فهل سيفعل؟ أريد فقط أن أراه، أن أحدثه، بالتأكيد سيعود إلى بيته لأعود به إلى بيتنا، هذا أملي أو هكذا أخدع نفسي أو...! لحظة! ما هذا الشعور! لم أشعر أني مراقبة؟!...
...تتعاقب الليالي الطويلة الباردة، إنه الزمن؛ عذاب المحتضر، الوقت يمر بالكاد و كأنه يعمل جاهدا على إملاله ليستعجل بنفسه الرحيل، تمنيت لو طالت غيبوباتي قليلا لتستهلك ما تبقى من الزمن و لا فائدة، ما هذا؟ إنها بالونة خضراء! بم هي مربوطة؟ سأتقدم قليلا لأرى، حسنا هذا يكفي و إلا خرجت، لم يكن هذا موجودا، إنه كشك يبيع بالونات، لم هذه الخضراء نافرة و كأنها تريد الفكاك! يالها من ذكرى! وقتها كنت طفلا يلعب مع آخرين لا أعرفهم في حديقة عامة ثم انتابتني تلك الآلام العضلية و سقطت أرضا، حملني أبي إلى السيارة و أنا أتوجع بشدة ثم رأيتها؛ بالونة خضراء جميلة، كان الولد مارا بجوار السيارة يبيعها مع تشكيلة كبيرة إلا أن هذه بالذات ظلت تقاومه مستنصرة بالهواء حتى أفلتت، حاول الإمساك بها إلا أنها راوغته و انطلقت تعلو و تعلو، أخذت أراقبها، نسيت آلامي و غمرتني سكينة عجيبة و أنا أراها تلامس السحاب، و رغم اتساع السماء عليها إلا أنها كانت تشعر بالأمان و الدفء و تنطلق منتشية و كأنها تعود إلى بيتها أو ربما تأوي إلى مكان هيء لها في مملكة السماء، ظلت عيني تتابعها حتى اختفت خلف السحب البيض، ظللت منذ حينها أحلم بمأوى لي أنا أيضا، طوال عمري و أنا أبحث عنه، لم أجده حتى في بيتي، فالمأوى ليس جدران أربعة و سقف، ربما هذا مأوى الجسد، لكني كنت أكثر طموحا، كان مأوي المنشود مأوى لقلبي و ليس قلبي، هكذا لا بد أن يكون الأمر، فالذات لا تصلح أن تكون مأوى لذاتها، لا أعلم لماذا أعتقد أنه يجب أن يكون مصنوعا لي، مخلوقا لي، و كل ما علي فعله أن أجده، و لكني حتى اللحظة لا أعرف الوسيلة و بت كغريب دخل مدينة غريبة في ليل أسود يقطع طرقها المعتمة باحثا عما يأويه، يرى الأنوار تحت أعقاب الأبواب و يسمع ضحكات المتسامرين، لا يحاول الطرق و يظل يمر بها باحثا عن باب مفتوح و وجوه مبتسمة في استقباله فلا يجد، يظل يدور في التيه حول الأبواب، البرد يقرصه و الجوع يجلده و وحشة الوحدة و جنون الضياع ينهشان قلبه، أين المأوى أيتها البالونة؟ ما هذا؟! يبدو أني نسيت نفسي، إنني في الخارج! البيوت الصغيرة أوضح من هنا، يفضي إلى باب كل منها سلم جانبي قصير سوره محاذ للطريق، لم أرى تلك السلالم من الداخل و (.................................)...
...لا أجد لفظا يصف ما رأيت و ما أحسست، قرأت كثيرا عن ذلك، لكني لم أجربه قبلا، تبخرت آلامي كلها فجأة، اختفت الأصوات، انطفأت أعمدة الإنارة، تلاشت الأشجار، رحلت التفاصيل المحيطة كلها و لم يتبقى إلاها، اندفعت في كياني أحاسيس ممتزجة، دافئة لا تلهب، متدفقة لا تتصارع، لها أنغام كالسحر، تغني بلا كلام و تصمت بلا سكون، و تقطع الزمان، الدهر كأنه ثانية و الثانية كأنها دهر، لم أعلم كم مضى من الزمن قبل أن تعبر تلك الشاحنة و تقطع اتصالي المسحور بأجمل من رأت عيني، انقطع توحدي الكامل معها و لملمت رغما عني ذاتي الذائبة في المشهد لأفيق مدركا نفسي من جديد، أدركها بحق و لأول مرة...
...إلى أين أذهب؟! لا أستطيع العودة إلى أبي و أمي فقد تبرءا مني بعد زيجتي الأولى و اتسعت الفجوة بيني و بينهما بتكرار الزيجات الفاشلة، كما لا أستطيع الاستمرار في مشاطرة الوحدة في شقة الزوجية القميئة، إلى أين أذهب؟!...
...يبدو أنه علم من الجيران هنا أني أنتظره كل يوم لذا يطيل تأخره، حسنا، سأغير الخطة، سآخذ إجازة غدا لأسبوع و آتي إلى هنا نهارا لعلي أدركه و هو خارج من البيت، و أخيرا رأيتك أيها المتلصص، ما هذا المكان؟ يبدو أنه مستشفى، لقد ظننته قصرا مهجورا، يا ربي! إنه مريض! يالك من ظريف، تعود إلى الوراء حتى لا أراك، حسنا، سأدعي أني لم أنتبه إليك، ما هذا؟! دقت الثانية عشرة، لا بد أن أمضي فمشواري طويل و لدي عمل في الصباح الباكر، حسنا، وداعا أيها المتلصص...
...عينان واسعتان تبحثان و أنف مستدق محمرة أرنبته من البرد و شعر مسدل أجعد، ياقة البالطو الأصفر مرتفعة للحماية من البرد، الذراعان يستندان إلى الركبتين المضمومتين للصدر و الرأس تستند من حين لآخر لسور السلم القصير، بدا الأمر و كأني لم أرى امرأة جميلة من قبل، فكرة الجمال نفسها كانت قبل اللحظة مشوهة لدي، فالمرأة بالنسبة لي لا تعدو عن كونها جسد بلا وجه، صورة خلاعية في عقل مريض، فما الذي غير الأمر؟! هل خبو لهيب الجسد حرر الروح فبدأ القلب في الاستقبال! هل تفتحت أخيرا طرق الحياة أمام قلب ظننت أنه ميت! هل أشعلت النهاية فتيل البداية؟!...
...كلا سأعود للوراء قليلا، ها قد اختفيت خلف كشك البالونات، هل رأتني؟ لعلها رأتني، ويلي! أخشى أن ترحل، حسنا، سأتقدم قليلا، حمدا لله، ما زالت جالسة، أرجوك لا ترحلي فأنا لم أرتكب جرما، لم أقصد التلصص عليك، و إن فعلت، فهل يلام المحتضر أن تلصص على الحياة؟! اسمحي لي فقط بهذه النافذة الصغيرة بين البالونات أخرج من خلالها إلى العالم السحري الرائع و لو للحظات، لحظات هي من زمان الكون و لكنها عمري، حياتي التي أكتشفها لأول مرة...
...لمَ تضن علي الحياة هكذا؟! أين ذهبت؟ لم غبت اليوم؟ هل شعرت بوجودي؟ أرجوك، عودي! عودي!...
...يبدو أني نمت هنا إلى الصباح، ها قد جاءت الممرضة، ستلقى تأنبين أو ثلاثة، حسنا، حسنا، آسف، لم أقصد، لن أكرر ما فعلت، لن...! مرحى! لقد عادت، ها هي جالسة تنتظر، لا تسحبيني أيتها الحمقاء، دعيني قليلا، نعم هكذا...
...ترى من تنتظرين؟ عم تبحث العينان الجميلتان؟ يبدو و كأنهما تبحثان عن المستحيل، تنتظران ما لن يأتي أبدا، ما هذا الشوق فيهما! لا أريد أن أكون مبتذلا و أقول لك أنه لن يأتي، يال المصيبة! يبدو أنه أتى بالفعل، من هذا الذي تصافحين؟ الحمد لله ليس هو، إنه أحد الجيران، ها هي تجلس مرة أخرى و عليها ملامح خيبة الأمل، لم لم ترحل إذن؟ أم تراها أدمنت الانتظار!...
...لن يأتي، فقد أوصى جاره هذا بنباتاته أسبوعا ريثما يعود من مهمته و التي طبعا لم يحدد لأحد مكانها، و سيضيع الأسبوع بلا طائل و الآن لم أنتظر؟ أهلا أيها المتلصص؟ عذرا، لم أنتبه إليك، كيف حالك اليوم؟ بالتأكيد أنت تستغرب ما أفعل، و لكن متى كانت الحياة مفهومة، على كل حال، دعك مني، ما أخبارك أنت؟ هل تتألم اليوم؟ ربما تتألم و لكن ليس كألمي، فآلام الروح أشد وطئا من آلام الجسد، كلا، لا أريد أن أظلمك فربما تتألم روحك أيضا ليجتمع لك الألمان، ترى ما الذي يعذب روحك؟ الوحدة مثلي؟! إنها هي دائما، الوحدة...
...صباح الخير، كيف حالك اليوم؟ ما زلت تنتظرين و إن خبا القلق في عينيك قليلا، أرجوك لا تيأسي منه، لا بد أن يظل أملك فيه قائما، هذا الأمل و إن عذبك هو الذي يمكنني من رؤيتك، هو الذي يحييني، أراك مبتهجة بنسيم الشتاء، يوم شتوي جميل، أليس كذلك؟...
...يوم جميل بالفعل رغم أن يناير لم ينقضي، صحيح، لم أسأل، هل أخذت دواءك اليوم؟ هل تحسنت صحتك؟ أنا صحتي ممتازة و لكنك تعلم أن علتي ليست في جسدي...
...أرأيت! أخذت بردا، قلت لك مرار لفي الكوفية حول رقبتك، هذا جزاء من يفاخر بصحته، كان بودي أن أعرض عليك أن تعودي إلى بيتك و ترتاحي و لكن ما بيدي حيلة فلم يتبق لدي الكثير و أخشى أن يكون هذا هو آخر صباح، لا تستغربي، أنت من علمني قيمة الزمن منذ أشرقت على روحي المظلمة فأضاءت و دبت فيها الحياة فأصبح له قيمة و معنى لأنه زمان مختلف، زمان من حياة...
...صباح الخير، أعلم أني تأخرت قليلا، حسنا، فليكن، كثيرا، ماذا حل بك؟ إن قلقك يزداد كل مرة نتقابل فيها، ما زلت تبحث؟ بالتأكيد تبحث عن شيء ما، هكذا نحن جميعا، نأتي إلى هذا العالم باحثين، نركض من أقدارنا نحو أقدارنا تحدونا أمان نسعى لتحقيقها؛ أشياء نريدها بشدة، ربما تكون بسيطة أو معقدة إلا أنها تستهلك حياتنا، إنها على ما يبدو رسالتنا التي خلقنا من أجلها، صحيح، عندك حق، ليست هي تلك الأهداف البلهاء التي نتوهم أننا نقصد؛ المال و السلطة و هذه الأشياء الغبية، نعم، تماما، إنها معان تنبع من أرواحنا...
...إنها صعبة التحقق، ماذا أقصد؟! الحياة طبعا، سأضرب لك مثالا، أنا مثلا و رغم ميلادي منذ أربعين عاما غير أني لم أحيا سوى هذه الأيام، منذ رأيتكِ لأول مرة حيث كانت لحظة ميلادي الحقيقية...
...هل ما زلت تشعر بالوحدة؟ أعتقد أن ذلك الشعور ربما زال عنك لأنه زال عني، واضح أنك ألقيت هنا، لم يعودوا يزورونك؟ أم تراك بلا أهل؟ أم ربما أهلك حاضرون غائبون كأهلي؟ حسنا، لن أزعجك بأسئلتي، المهم أننا نقضي سويا وقتا ممتعا...
...كلا! أنت اليوم تحسد، زال عنك الاضطراب، لم تعد عيناك زائغتان و وجهك مشرق، يبدو أنك توقفت عن البحث، هل وجدت ضالتك؟ يبدو من تهلل وجهك أنك وجدتها، فهل سأجدها أنا أيضا؟...
...هل فهمتِ الآن المشكلة التي أوقعتني فيها، وقتي محدود و ملك الموت في طريقه إلي و هو كما تعلمين لا يمهل أحدا، آه! الموت! أصبحت أخشاه و قد كنت أتمناه، سيأخذني الموت منك، ما العمل و أنا الذي ظننت أن غريب المدينة وجد الباب المفتوح و الوجه المبتسم في استقباله، بيت جميل رائع يتلألأ كالماس في أضواء النجوم جذبه إليه جذبا في ليلة المحاق المرعبة فأحس بالأمان و الدفء و الباب يفتح بهدوء، ها هو يقترب من مأواه مسحورا إلا أن رسول الموت أقرب، سيخطف روحه قبل أن يصل، سامحكِ الله، لقد أشعلت جحيمي...
... إنها هي نفس الكلمات و التي ألقيت على مسامعي مرارا، كيف لم أنتبه لهذا السطر بالذات و كأني لم أسمعه من قبل؟ لقد فهمته الآن فقط تماما، أشرق في قلبي اشراقا لدرجة أني من فرحتي به برمجت المشغل ليبثه كل يوم في الحادية عشرة صباحا فور رحيلها، لماذا لم تسترعي تلك الكلمات انتباهي من قبل؟ بالتأكيد المشكلة لم تكن في أذني، المشكلة كانت في قلبي، الاستقبال كان معطلا من ران الحقد و الحسد و الكراهية، و الآن زال كل ذلك لما استشرفت المأوى حيث الأمن و السكينة و الصفاء و الجمال، حيث السعادة دون خوف من كدر قادم يعكرها، سعادة خالصة، نور خالص يملأ الجوانح و يسري حاملا بهجة الحياة في العروق، كلمات قليلة مفهومة و لكني لم أشعر بها من قبل، و الآن و قد شعرت و فهمت تأكد ما ظننت في أنه لابد للمأوى أن يهيء لصاحبه و لا ينشؤه، كما تأكد لي شيئا جديدا؛ أنه لا بد لوسيلة إيجاده أن تكون ممنوحة أيضا، الطريق لا بد أن يكون مُهدى للباحث، طريقا موصلا لا محالة، ينتصر على كل عقبة، حتى الموت نفسه لا يمكنه أن يقطعه، غريب المدينة أصبح الآن يعرف الطريق بعد أن عرف مأواه، المأوى في استقباله و الموت المهزوم يراقبه و هو على وشك الدخول، يالها من كلمات! سهلة الولوج إلى القلب، تملك سحر الخلاص و كأنها، بل هي تعويذة النجاة و بوصلة الاتجاه...
...نوباتي تتقارب، العلاج فشل تماما و تم إيقافه، أخيرا سأرتاح من التقيؤ، لم يعد هناك وقت، هيا، سيغلق طريق النجاة إن جاء الموت قبل أن أطأه...
...سامحوني جميعكم، كل من حقدت عليهم، كل من كرهت، كل من أسأت إليه و أساء إلي، سامحني يا أبي، لم أرحم كبرك و قد تحملتني كثيرا، سامحيني يا أمي، لم أرحم مرضك، سامحوني أيها الزملاء، سامحوني يا من عرفت و يا من لم أعرف، كنت أود لو أفدتكم بأي شيء حتى و لو كان تافها بدلا من إيذاءكم، سامحيني أيتها الحياة؛ لم أفهمك، سامحيني يا نفسي؛ ظلمتك كثيرا، سامحني يا رب؛ لم أظن بك إلا سوءا و لو ظننت بك خيرا للقيت خيرا، سامحني إذ عصيتك، اغفر لي، الآن أتوب عما اقترفت من آثام، ودعت هوى نفسي الذي زين لي الحقد و الغضب، لم تعد الدنيا في قلبي الذي أضاءته هدايتك، لم يعد قلبي ذلك القلب الذي يتمنى الإثم و يمنعه الجسد، ابتلع الثقب الأسود نفسه و أخيرا أفلتت أنوارك تغمر جوانحي لأحيا من قلبي و بقلبي، تكفيني تلك الأيام القليلة الأخيرة، يكفيني هذا القسط من حياة أنعمت علي بها بقلب خاشع حاضر في جلالك، و أنا الذي لم يفهم كرمك طوال عمري و استكبرت عن عبادتك و رغم ذلك تلقي إلي بطوق النجاة قبل أن أهلك، لم أكن أعلم أنك تحبني إلى هذا الحد، أعلم أني فرطت في جنبك، سأصلي كلما استفقت، فان لم أستوف ديني فاقضه عني فما زال طمعي في رحمتك أشد، فما أرحمك و ما أجملك، و الآن قضي الأمر، و أخيرا يا قلبي أعلنت استسلامك له، أخيرا تغرد أنشودة السلام.
...لم اختفيتَ اليوم، أوشك الأسبوع على الانتهاء و قد لا آتي هنا مرة أخرى، لا أعلم كيف سأتحمل ذلك فقد اعتدتُ الحوار معك، ترى ماذا أصابك؟ هل تفاقمت حالتك فلم تعد تستطيع الخروج؟ أم ربما خرجت من المستشفى لأنك شفيت؟ ربما، فالبارحة كنت تبدو معافا تماما...
...هذا ثاني يوم و لم تظهر، حسنا، حسمت أمري، سأزورك، ربما شفيت و خرجت، فليكن، سأذهب لأتأكد، ما هذا الجنون؟! إنه لا يعرفني! و لكن كيف لا يعرفني بعد كل هذه الحوارات! و لو، سأطمئن عليه و أرحل، فربما يكون هذا هو الوداع اللائق بعد تعارفنا القصير...
عبرتْ الشارع ممسكة بها، التفت، دخلت من باب المستشفى فلم تجد أحدا في الاستقبال، خمنت مكان الغرفة و انطلقت إليها، وجدتها خاوية و السرير غير مرتب، باب الشرفة كان مفتوحا فأدركت من النظر إلى الخارج أنها لم تخطئ الغرفة، ربطتها في السرير، دخلت الممرضة، نظرت في عينيها فأطرقت، كتمت دمعها و سألتها و هي ترتب السرير..متى حدث ذلك؟..اليوم، فجرا..حسنا، هلا أبقيتِ هذه هنا؟..لا بأس. مضت الممرضة، كادت تلحق بها لولا أن دقت الحادية عشرة و انطلق المشغل،
"فأما من طغى و آثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى* و أما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى"
سال دمعها و سرعان ما انفجرت باكية و هي تمسك بسور السرير ثم هدأت و علت وجهها السكينة، نظرت و هي لدى الباب إلى السرير الخاوي نظرة أخيرة، ابتسمت ثم رحلت.
هب الهواء، البالونة الخضراء المربوطة في سور السرير تنجذب نحو باب الشرفة المفتوح و خيطها يوشك على التحرر.
تمت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه